قدر لجيلنا -جيل الثمانينيات من القرن الماضي- أن يشهد نقاشا معمقا وثريا من نخبة متعددة التوجهات الفكرية والسياسية حول تأثير الخليج علي مصر. اتخذ هذا مناحي متعددة أبرزها: التأثير علي الاقتصاد المصري الذي انتقل من الاستقلال إلى التبعية -على حد قول المفكر والسياسي عادل حسين في كتابه الشهير، الذي حمل نفس العنوان. تقدم النقاش خطوة لنجد دراسة أكثر اتساعا لتأثيرات الهجرة إلي النفط -كما عنون نادر فرجاني كتابه الذي صدر عن مركز دراسات الوحدة العربية 1983. في هذا التوقيت أيضا قام ا.د. علي الدين هلال -وقد كان لا يزال مدرسا للعلوم السياسية بكلية الاقتصاد- بتدريسنا كتابه عن “النظام الإقليمي العربي”.
نحن هنا بإزاء تقييم لتداعيات العلاقة مع الخليج على مصر من خلال منظور متكامل استطاعات النخبة المصرية وقتها أن تصوغه وكانت أبرز ملامحه:
1- التأثير علي نموذج التنمية المستقل -كما جرى في الفترة الناصرية (1954- 1970).
2- تغير أنماط الاستهلاك والتدين، والتي كانت جزءًا من تغيرات اجتماعية وثقافية أعمق طالت المصريين من جوانب كثيرة
3- الدور الإقليمي لمصر وفي القلب منه العلاقة مع إسرائيل والغرب -خاصة الولايات المتحدة.
تبلور الإدراك وقتها أن الهجرة إلى النفط لم تكن السبب في كل التحولات التي طرأت على مصر في السبعينيات من القرن الماضي، ولكنها كانت “إحدى الآليات الاساسية التي أدت إلى تدعيم التبعية” -على حد قول نادر فرجاني، لذا فهي تمت في سياق أوسع من التحولات في السياسة الداخلية والخارجية المصرية بعد حرب أكتوبر 1973.
وإذا كانت النقطة المرجعية التي انطلق منها التقييم المصري في أوائل الثمانينيات وتأسس عليها هو التجربة الناصرية من جهة النموذج التنموي، والدور الإقليمي وما يرتبط به من علاقات على المستوى الدولي؛ إذا كان ذلك كذلك، فإن صياغة منظور مصري بعد نصف قرن من انتهاء هذه التجربة لتقييم طبيعة هذه العلاقة الآن يستند إلى وقائع جد مختلفة أهمها:
1- وفق النموذج الاقتصادي؛ فإن المطروح مزيد من الاندماج في السوق العالمي بما يعنيه من: فتح الباب للاستثمار الأجنبي وحمايته- فتح الأسواق المصرية- إطلاق قوى السوق- القطاع الخاص هو ركيزة الاقتصاد.
2- الدور الإقليمي لمصر الذي تراجع كثيرا، وهناك حرص من أطراف في الخليج على أن يظل تابعا لتصوراتها حول الإقليم؛ هذا الدور مطلوب منه -من منظور وطني- أن يحافظ على مصالح مصر في الإقليم ويساهم في مزيد من التناسق مع ما هو مطروح دوليا وإقليميا (مشروع الحزام والطريق الصيني -استراتيجية الأمن الأمريكية- الشرق الأوسط الجديد) بما يترك أثره على الاقتصاد المصري أولا، ويضمن المصالح الوطنية المصرية ثانيا، ويحقق -ثالثا وأخيرا – بقاء واستمرار القائم على النظام السياسي في الحكم.
استنادا إلى المياه الكثيرة التي جرت في النهر على مدار نصف قرن والتي أشرت إلى بعض ملامحها؛ لم تعد النقطة المرجعية هي الانتقال من الاستقلال إلى التبعية السياسية والاقتصادية، بالرغم من أهميتهما، ولكنها -من وجهة نظري- أمران لا ينفكان عن بعضهما البعض -وقد يجددان منظورنا لمعنى الاستقلال- وهما: العدالة الاجتماعية أو الكرامة الاقتصادية لعموم المصريين، والديموقراطية.
العدالة الاجتماعية تعني تمتع أكبر قدر من المصريين بفوائد النمو الاقتصادي القائم على مزيد من الاندماج في السوق العالمي وعدم تداول الثروة بين فئات محدودة، أما الديمقراطية فتعني أن القرارات والسياسات العامة يشارك فيها ويسيطر عليها أكبر قدر من أصحاب المصلحة، ولا نقتصر في صنعها واتخاذها على شبكات الامتياز ذات الامتداد الوطني والإقليمي والدولي التي هي عادة ضيقة ومغلقة.
طالت المقدمة أكثر مما ينبغي، ولكن ربما تساعدنا على أن نطور -نحن المثقفون المصريون- عبر الحوار منظورا نقيم به حركة الاستحواذات الخليجية المتصاعدة لأصول مصرية يمتلكها القطاعين العام والخاص؛ خاصة أن اليوم، يمكن للتداعيات الاقتصادية لوباء COVID-19 والغزو الروسي لأوكرانيا أن يفتح مرحلة جديدة من التأثير الخليجي.
في هذا السياق يمكن أن نشير إلي النقاط والاسئلة التالية:
أولا: ينتهي تقرير حديث صادر من أيام عن المركز الدولي للدراسات الاستراتيجية إلى أن تدخلات الإنقاذ لدول الخليج شكلت التحولات السياسية في مصر والسودان واليمن وساعدت على إبقاء الأردن وباكستان واقفة على قدميها، على الأقل مؤقتًا، ولتحقيق ذلك قاموا بصرف أكثر من 52 مليار دولار أمريكي بين عامي 2011 و 2018. لذا فإن من يتصور أن الخليج لن يتدخل في للتأثير في التحولات الإقليمية والوطنية التي يتصور أنها قد تؤثر عليه سيكون واهما.
حدث ذلك بشكل سافر ثلاث مرات لمواجهة تطورات زلزالية: في مواجهة الثورة الإيرانية 1979، وفي مواجهة غزو صدام للكويت 1990، ومع الانتفاضات العربية في موجاتها المتعاقبة 2010/ 2011 و2019.
ثانيا: يقوم النموذج الخليجي لما يتمتع به من فوائض مالية ضخمة يمكن توزيعها على مواطنيه بالفصل بين النظام الاقتصادي الذي يقوم على الاندماج في الرأسمالية العالمية والانفتاح عليها، وبين النظام السياسي الذي يقوم على هيمنة العوائل الحاكمة وعدم انفتاحه.
المطروح على المنطقة نموذج من هذا القبيل، لذا لا يمكن الفصل بين شيوع الاستبداد وبين مزيد من التدخلات الخليجية بطرق متعددة ولكن متكاملة.
هنا يحسن أن نشير أن مزيدا من رأس المال الخليجي في الاقتصاد المصري يعني مزيدا من الاستبداد، ليس خوفا من انتقال النموذج الديموقراطي إلى الخليج وفق نظرية الدومينو فقط، ولكن أيضا لمصادرة ومنع النضالات الاجتماعية التي قد تنشأ احتجاجا علي بعض ممارسات رأس المال.
ما يجب أن نراقبه -إذن- حركة إصدار القوانين والقرارات الحكومية التي تتعلق بحقوق العمال ونوعية الحماية المطلوبة للاستثمار الأجنبي، بالإضافة إلى قوانين الشفافية والافصاح لضمان عدم تسرب الفساد إلى هذه المجالات، وأخيرا وليس آخرا؛ قوانين المنافسة ومنع الاحتكار.
ثالثا: ما هي الفئات الاجتماعية والقوى السياسية التي تراهن عليها دول الخليج في تحقيق استراتجيتها في المنطقة؟
هنا يبرز التباين والاختلاف بينها.
فعلى مدار العقد الماضي راهنت قطر -على سبيل المثال- في مصر ودول أخرى على الإخوان، في المقابل راهنت الإمارات والسعودية وإلى حد ما قطر على ضرورة الحفاظ على النظام القديم.
الآن يكاد يكون هناك إجماع بعد فشل الرهان على الإسلاميين على التعامل أساسا مع أجهزة الدولة المصرية.
هذا المدخل لا ينفي وجود قوى أخرى يمكن التعويل عليها -ولو لأداء بعض الأدوار- مثل القطاع الخاص الكبير وفئة رجال الأعمال، بالإضافة إلى الفئات الثرية من المجتمع المصري، التي يسعى رأس المال الخليجي إلى تلبية تطلعاتهم الاستهلاكية وتقديم الخدمات الأساسية لهم من صحة وتعليم وإسكان ومولات وسوبر ماركت.
يتركز قطاع معتبر من حركة الاستحواذ والاستثمار الخليجي في القطاع العقاري الفاره، ومستشفيات ومعامل التحليل والمدارس التي تقدم خدماتها لشريحة تملك قدرات مالية كبيرة، بالإضافة إلى طبيعة المولات والسوبر ماركت التي تستجيب لنمطها الاستهلاكي.
هل نحن بصدد إعادة تدوير لجزء من تحويلات المصريين في الخارج والتي تبلغ أكثر من 30 مليار دولار لصالح رأسمالية الخليج مرة أخرى؟ -نقطة تستحق المتابعة.
ولا يجب أن نترك هذه النقطة دون الإشارة إلى ما قد ينشأ من صلات وعلاقات وتوافق في المصالح بين الشريحة العليا من البيروقراطية المصرية في أجهزة الدولة المختلفة وبين رأس المال الخليجي، خاصة أن ذلك لا يتم من مدخل اقتصادي ومالي فقط بل يمتد إلى مجالات أخرى.
رابعا: يتسم التدخل الخليجي بعدد من السمات التي تزيد من فاعليته وقوة تأثيره:
1- هناك تشابك وثيق بين رأس المال “الحكومي” و”الخاص”؛ فغالبًا ما يكون للشركات المملوكة للقطاع الخاص مسؤولون حكوميون (بما في ذلك أعضاء من العائلة الحاكمة) في مجالس إدارتها، وبالمثل، ستضم مجالس إدارة الشركات المملوكة للدولة رجال أعمال بارزين.
2- يسود عدد صغير من مجموعات الشركات المتنوعة للغاية. تشكل هذه المجموعات النواة الأساسية لرأس المال الخليجي، وستظهر أسماؤها مرارًا وتكرارًا، ويتم التحكم في هذه المجموعات من قبل العائلات التجارية البارزة مثل: الخرافي، العليان، الراجحي، الغرير، الفطيم، والشايع الذين ينشطون في جميع لحظات دائرة رأس المال ويعملون من خلال شبكة معقدة من الشركات التابعة والاستثمارات.
ينتهي آدم هنية في كتابه القيم عن الاقتصاد السياسي للشرق الأوسط إلى أنه “يتم أيضًا إعادة إنتاج التسلسلات الهرمية [التي تتم في الخليج] من خلال النطاق الوطني، مع تركيز السيطرة والملكية التي تحتفظ بها حفنة من الشركات التي تجلس على قمة قاعدة تتكون من آلاف الشركات المحلية الأصغر”.
ويلفت نظرنا إلى طبيعة العلاقة بين الشركات الأم في الخليج وامتداداتها في المنطقة: “إن العقود التي تم الفوز بها في دول مثل مصر والمغرب وتونس لا توفر فقط فرصًا مربحة في هذه البلدان كلا علي حدة؛ ولكنها تساعد أيضًا في رفع قيمة الشركة بشكل عام، وهذا مهم بشكل خاص للاكتتابات العامة الأولية المستقبلية في الخليج، ويعمل على تحسين وضع هذه الشركات للفرص المتوقعة في أعقاب خطط الإصلاح في دول مجلس التعاون الخليجي”.
3- تكامل بين أدوات التدخل في حزم الإنقاذ من جهة، كما تتكامل القطاعات التي يتم الاستحواذ عليها مع بعضها البعض أيضا.
تشتمل حزم الإنقاذ التي بلغت منذ السبعينيات حتى الآن 231 مليار دولار -وفق تقدير المركز الدولي للدراسات الاستراتيجية- على ودائع البنوك المركزية وتوفير المنتجات النفطية ودعم الموازنة العامة وتقديم المعونات المباشرة… إلخ.
كما تتكامل القطاعات التي يجرى الاستحواذ عليها مع بعضها البعض حيث البنوك والاتصالات والعقار الفاخر والبتروكيماويات والقطاع الزراعي… إلخ. ينظر إليها جميعا باعتبارها مجالا واحدا يجري التحرك عليه.
يمتد التكامل بين القطاعات في الخليج ونظيراتها في الدول العربية الأخرى، ومنها مصر؛ حيث تمتد ديناميكيات دول مجلس التعاون الخليجي داخليًا في النطاق الوطني للدول العربية الأخرى، وتتوافق أنواع القطاعات التي تم تحديد أولوياتها لتوسيع القطاع الخاص مع تلك التي تم التأكيد عليها في استراتيجيات رؤية دول مجلس التعاون الخليجي المستقبلية مثل 2030 في السعودية، و2050 في الإمارات.
4- التكامل مع المؤسسات المالية الدولية. كانت دول مجلس التعاون الخليجي أهم الفاعلين الإقليميين الداعمين لجهود المؤسسات المالية الدولية من خلال الدفع بضرورة الاتفاق مع هذه المؤسسات -كما جرى في اتفاق مصر مع صندوق النقد 2016، أو من حلال التمويل التكميلي كما يجرى مع مصر الآن في قرضها الأخير مع صندوق النقد الدولي وكما جرى في 2016 أيضا.
دول الخليج شريكة طويلة الأمد للمؤسسات المالية الدولية؛ يساهمون في ميزانياتهم ويتعاونون معهم بطرق متعددة. على سبيل المثال، فإن أكثر من ثلث جميع مشاريع القطاع الخاص التي يمولها البنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية في الشرق الأوسط منذ عام 2011 اشتملت على شركات دول مجلس التعاون الخليجي -وهي نسبة تزيد كثيرًا عن الشركات من أي دولة أو منطقة أخرى.
يجب أن يُنظر إلى القروض والمنح المقدمة من دول مجلس التعاون الخليجي على أنها تعمل بطريقة تعزز بعضها البعض مع جهود المؤسسات المالية الدولية المختلفة التي تدعم تصوراتها الاقتصادية والتي تقوم علي النيوليبرالية؛ فلولا دول مجلس التعاون الخليجي لم تكن المؤسسات المالية الدولية قادرة على دخول المنطقة بهذه الطريقة الحاسمة بعد عام 2011.
خامسا: تحولات في رؤى الأمن:
في النقاط السابقة أشرت إلى أن التحولات الاستراتيجية الجارية حاليًا في دول مجلس التعاون الخليجي يُنظر إليها بشكل أفضل على أنها “رؤى لرأس المال”، ولكن لا يمكن فصل ذلك أيضا عن التحولات في الطلب علي الأمن، وهنا يمكن الاشارة إلى النقاط التالية:
1- نحن بإزاء لحظة عدم يقين استراتيجي في العالم والإقليم؛ حيث تتفاقم جميع التناقضات على المستوى الإقليمي، وتزداد التوترات بين دول الخليج ذاتها، وبينها وبين دول الإقليم الأخرى، وكذا بينها وبين القوي الدولية… بما يمكن معه الحديث عن إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط.
2-هناك سمة بارزة أخرى لإعادة رسم خريطة الشرق الأوسط بعد عام 2011 وهي التحرك لتطبيع العلاقات السياسية والاقتصادية بين إسرائيل والمحور السعودي الإماراتي البحريني أساسا.
وهنا يحسن أن نستعيد تأثير ذلك علي التنازل عن تيران وصنافير الذي يعني أن الاتفاقية تمثل – على الأقل على مستوى الأمر الواقع- موافقة السعودية على اتفاقية السلام لعام 1979 بين مصر وإسرائيل، والتي ضمنت لإسرائيل الحقوق البحرية الكاملة في البحر الأحمر.
نحن بإزاء مثال واضح للغاية على اندماج مصر المتزايد في المدار السياسي والاقتصادي للمملكة العربية السعودية، ومع ذلك فقد رفضت مصر المساهمة في حرب اليمن ومن قبل في دعم قوي المعارضة في سوريا، مما دفع دول الخليج إلي أن تكون أكثر انتقائية في حزم المساعدات بعد ذلك.
3- كانت دول الخليج مندمجة إلى حد كبير في استراتيجيات الأمن الأمريكية، ولكن يلاحظ مؤخرا أنها دفعت بشكل متزايد من أجل مصالحها الأمنية والسياسية بشكل مستقل عن الأولويات الغربية.
إن تأكيد دول الخليج على استقلال سياستها الخارجية؛ من شأنه أن يجعل تدخلات الإنقاذ تسير بطرق قد لا تتماشى دائمًا مع الأولويات الغربية، ومن غير المرجح أن تتغير الدوافع الجيوسياسية الأساسية لسلوك الخليج، لا سيما الرغبة في تعزيز مصالحهم الوطنية، وتأكيد استقلال سياستهم الخارجية عن الولايات المتحدة، والتنافس مع الخصوم الإقليميين، وتحقيق الاستقرار لحلفائهم في المنطقة – وهذا ما خلص إليه تقرير المركز الدولي للدراسات الاستراتيجية.