في نفس اللحظة التي كنت اطلع فيها على تقرير حول “الحوار السياسي” الذي دعا له رئيس الجمهورية منذ 7 أشهر، كان عدد من المحامين الحقوقيين يعلنون تجديد حبس الإعلامية هالة فهمي والصحفية صفاء الكوربيجي 45 يوماً على ذمة التحقيقات فضلا عن حبس وتجديد حبس عدد آخر من النشطاء السياسيين على خلفية قضايا ترتبط بالرأي السياسي.

قبل نحو ثلاثة أسابيع كانت أجهزة الأمن تلقي القبض على الصحفية منال عجرمة -61 عاما- نائب رئيس تحرير مجلة الإذاعة والتليفزيون، والزميل الصحفي محمد مصطفى موسى على خلفية التعبير عن آرائهم على شبكات التواصل الاجتماعي.

اقرأ أيضا.. القراءة السياسية لصور 11-11

المفارقة هنا واضحة وتدعو ليس للدهشة فقط ولكن للتأمل، فبينما تؤكد السلطة ورجالها أن مصر مقبلة على مرحلة جديدة أكثر انفتاحا سياسيا وأكثر قبولاً بالتنوع وبتعدد الآراء، تواصل الأجهزة الأمنية القبض على مواطنين وصحفيين ونشطاء سياسيين باتهامات ترتبط جميعها بالنشر أو التعبير عن الرأي، وهو الأمر الذي يشكك في كل الدعوات التي تؤكد أن تغييراً سوف يحدث خلال المرحلة المقبلة، وأن المرحلة الاستثنائية التي بدأت في العام 2013 أوشكت على الانتهاء، فضلاً عن التأكيد بأن “الخلاف في الرأي لا يفسد للوطن قضية”!

ملف الحريات العامة وحقوق الإنسان سيظل هو العبء الأكبر والهم الذي لا ينتهي ما دامت السلطة تتعامل معه بهذه الطريقة التي نراها كل يوم، فإغلاق كل سبل التعبير عن الرأي، وملاحقة السياسيين والنشطاء والصحفيين، والقمع والمنع والحصار المفروض على المجال العام لا يبشر بأن تغييراً يمكن أن يحدث، ولا ينبيء بأن هناك رغبة جادة في البدء في طريق جديد، أو التأكيد على القطيعة التامة مع ممارسات الماضي التي جعلت من ملف الحريات وحقوق الإنسان عبئاً حقيقياً على البلد وأهله عبر الآلاف من سجناء الرأي والكلمة، والمصادرة الكاملة “الغاشمة” لكل الأصوات والآراء المختلفة مع السلطة، فضلاً عن الحصار القاسي على المجتمع المدني وكما لم يحدث في تاريخنا الحديث بأكمله.

المشهد الكاشف لاستمرار الرغبة في التسلط يقع العبء الأكبر فيه على السلطة ورجالها وقراراتها التي لا تقرأ الواقع كما ينبغي، بل وتطلق يد الاستبداد ليتحكم في كل شيء، ولا تتراجع أو تقف لحظة واحدة لمراجعة القرارات وأثرها السياسي، ولا تكف عن القبض على المواطنين وتقديمهم إلى جهات التحقيق، وهو أمر غير مفهوم ولا مقبول في ظل الحديث عن حوار سياسي قبلته المعارضة المدنية وشاركت فيه على أمل أن واقعاً جديداً يمكن أن يتشكل، وأن المستقبل يمكن أن يٌبنى على المشاركة والحوار!

الحوار الوطني

ومع ذلك فإن المعارضة المدنية شريكة هي أيضاً فيما يحدث، فرغم تأكيدها منذ اللحظة الأولى على صعوبة بدء الحوار قبل الإفراج عن كل سجناء الرأي، ورغم التقدم البطيء جداً في ملف إخلاء سبيل السجناء السياسيين ممن لم يتورطوا في المشاركة في العنف بكل صوره، إلا أن استمرار القبض على المواطنين بنفس الاتهامات المكررة وغير الجادة يضع المعارضة المدنية أمام تحد جديد أمام من أقنعتهم بأن الحوار السياسي ضرورة، وأن هناك جديداً يمكن أن يحدث خلال مراحله المختلفة، فصمت هذه المعارضة على استمرار عمليات القبض على المواطنين يخصم من مصداقيتها في عيون الناس، ويقلص القناعات العامة في أن الحوار ليس مناورة سياسية تتبعها السلطة لاحتواء الضغوط الداخلية والخارجية فيما يتعلق بملف الحريات العامة وحقوق الإنسان، وهو الملف الذي بات متخماً بأعباء وأزمات مستمرة تعرض السلطة الحالية لنقد حاد في الداخل والخارج، ويضعها في مرمى سهام النقد من منظمات حقوقية دولية تسيء لصورتها في الخارج.

المؤكد أن فكرة “الحوار” في حد ذاتها لم تكن في يوم من الأيام جزءاً من أدبيات السلطة الحالية، ولا هي تحتل مكانة في طريقة حكمها وقراراتها على أي نحو، ومع ذلك فإن المقبل يجب أن يكون واضحاً لكل من السلطة والمعارضة على السواء:

فبالنسبة للسطة عليها التوقف الكامل والفوري عن القبض على المواطنين في قضايا تتعلق بالتعبير عن الرأي أو النشر على شبكات التواصل الاجتماعي، واتخاذ من الخطوات ما يشير إلى أن تغييراً ما سيحدث، فضلا عن الإفراج العاجل عن كل سجناء الرأي ممن لم يتوروطوا في العنف، وتقديم ما يشير إلى أن الحصار الكامل للحريات يمكن أن ينتهي قريباً، وأن تغييراً سياسياً في طريقة إدارة المشهد العام يمكن أن يحدث، إضافة إلى رفع القيود المفروضة على وسائل الإعلام والمجتمع المدني، والتعهد بأن أحداً لن يتعرض للملاحقة والحبس على خلفية التعبير عن الرأي، ومنح المواطنين أملاً في أن الحديث المتواتر عن الانفتاح السياسي القادم جاد وليس مجرد مناورات سياسية، وأن التعبير عن الرأي بالكلمة والصورة والإبداع بكل صوره هو حق دستوري وليس منحة من السلطة، وأن المنح والمنع هي قواعد يحددها الدستور والقانون وليس أجهزة أو أفراداً مهما كانت مواقعهم.

أما المعارضة المدنية فعليها التأكيد بشكل قاطع وجاد وبلا تردد أن استمرار حملات القبض على المواطنين، وغلق المجال العام وحصار الإعلام هو خصم من كل دعوات الحوار والانفتاح، وأن استكمال طريق الحوار الذي اختارته ووافقت عليه لا يمكن أن يتم في أجواء تحاصر الكلمة والرأي، وتقمع كل المختلفين مع السلطة، وتمنع الكل من الحديث والنقد والتعبير، وأن استمرار هذه السياسات يؤكد أن شيئاً لن يتغير، وأن المستقبل لن يختلف عن الماضي.

على المعارضة المدنية أن تكون أكثر وضوحاً في التعبير عن جمهورها الذي راهن على إمكانية نجاح الحوار في خلق التغيير المنشود، وأن تتحمل مسئوليتها في هذه للحظة المهمة، وأن تعلن أن استمرار الحوار يستلتزم تغييراً جادا ً في طبيعة وطريقة تعامل السلطة مع ملف الحريات العامة.

إما أن يكون الحوار جاداً ويمكن أن يعبر بالبلد إلى مستقبل مختلف وأكثر انفتاحاً وتنوعاً واحتراماً لحقوق وحريات المواطنين، أو الإعلان أنه ليس في الإمكان أفضل مما كان، وأننا ماضون في نفس الطريق الذي بدأ منذ عدة سنوات عبر حصار المجال العام وقمع الحريات، وعندها لكل حادث حديث.