لابد أنك لاحظت، وسط زحام أخبار ومباريات المونديال، السرعة التي تحولت بها الرغبة في “تقديم ثقافتنا إلى العالم” إلى الرغبة في “منع العالم من تقديم ثقافته” أو حتى مجرد عيشها كما تعوّد.  لقد اشتعل الجدل حول ذلك فجأة كما لو أن المونديال قد وصل في غفلة من الزمن،  وأننا لم نعرف موعده قبل  12 عاما، لكن يبدو أنه طوال هذه الأعوام لم نعرف حقا ما هي  معالم الثقافة التي  أن نرغب في أن نقدمها إلى العالم. ومتى تبدأ حدودها، والأهم أين تنتهي، ربما يجوز القول أيضا أن مسألة “ثقافتنا” لم تكن مطروحة من الأصل بشكل جاد، وسط  الظروف السياسية المضطربة التي ألمّت بالمنطقة خلال العقد الماضي، والتي هدد بعضها إقامة المونديال من الأساس.

اقرأ أيضا.. مقاطعو المونديال.. كل هذه “البطحات” في رؤوسنا

على كل حال، من المهم أن نتذكر أولا أن منظم المونديال، أو أي بطولة رياضية، ليس مطالبا بأن “يقدم ثقافته” إلى أحد، فنحن بصدد حدث رياضي، تتداول الأمم استضافته، والأساس فيه حسن التنظيم وإدارة استقبال مئات الآلاف من الوافدين، جمهورا وفرقا رياضية، وتوفير الأمن وأكبر قدر من حسن الإقامة للمشاركين. وتلك كلها مهام كبيرة، لا تحتاج إلى إضافة مهام أخرى، لا ثقافية ولا غيرها. وكم من بطولات رياضية كبرى اكتفى منظموها بتقديم فعاليات فنية محدودة أو مراسم بسيطة، واضعين تركيزهم كله على العملية التنظيمية.  وسواء كانت الدوافع ذاتية في طرح تلك المهمة “الثقافية” خلال مونديال 2022، أو أنها نبعت من افتراض توقع الآخرين لعيش تجربة مختلفة في العالم العربي، فإنه لا يمكن إغفال وجود حماس واضح لدى الجمهور العربي/ الإسلامي، في انتهاز هذه الفرصة النادرة، لطرح نفسه أمام العالم، أو لجعل العالم يراه، خاصة أنه، بسبب كثير من العوامل، والقصص التي قرأها واستمع إليها من سدنة ثقافته، يؤمن بأن لديه حصريا الحق والحكمة والإيمان الصحيح، وأن تلك الحكمة بالغة الوضوح والإفحام، بحيث لا ينقصه سوى الفرصة لعرض حكمته  تلك على العالم، لإبهاره، وكسبه بسهولة إلى عالم الحق. ومن هنا تأتي آلاف القصص، عن علماء أجانب، أو فلاسفة أو محض أشخاص عابرين، ممن استمعوا إلى حكمة أو حديث أو آية، فأعلنوا إسلامهم فورا. ومن هنا يصدق الآلاف – ربما أكثر – قصص تحول المئات إلى الإسلام في غمضة عين، أو في أيام قليلة. فمابالك وقد توجه إلى الدوحة علماء دين لهم جماهيرية، مثل ذاكر نايك وعمر عبد الكافي، فضلا عن الشيخ الشاب حاتم الحويني الذي لم يتوقف عن “الإعلانات” شبه اليومية بدخول العديد من الزوار في الإسلام. فإذا أضفنا إلى ذلك الملمح العربي في حفل الافتتاح، وقراءة آية قرآنية على مرأى ومسمع من العالم كله، ودعوة الزائرات إلى “تجربة الحجاب“،  يمكن تصوّر الحالة الوجدانية لملايين الناس، الذين لا يزالون ينظرون إلى العالم وفق نظرة الفسطاطين، والذين يشعرون أنهم يعيشون لحظة فخر وانتصار.

جانب من مشجعي إحدى مباريات كأس العالم

من هذه المنطقة الشعورية، يمكن تخيّل ردود الأفعال الهائمين في لحظتهم الثقافية الدينية تلك حين يصطدمون بالعصر الحديث. حين يصل إلى مطاراتهم من يسيطرون بالفعل لا على بطولات كأس العالم فحسب، بل على العالم نفسه. يأتون هم أيضا بـ “ثقافتهم”، ومنها محاربة التمييز على أساس الميول الجنسية، والدفاع عن المثلية وحقوق مجتمع الميم. ومنها بالطبع الحق في ممارسة الحريات الخاصة – أما العامة فمفروغ منها – كشرب الكحول وارتداء ما يشاؤون من ملابس، سواء كانت تلك الملابس تحمل شارات معينة أو مجرد ملابس “متحررة”. إن كل ذلك، وأكثر، لابد أنه يدفع أولئك الذين صنعوا أجواء دينية مهيبة إلى الشعور بالصدمة، والخوف من “تدنيس” تلك الأجواء. هكذا يسعدون كثيرا بأن يمنع “الفيفا” اللاعبين الأوربيين من ارتداء شارات “حب واحد” لدعم المثليين، ثم يغضبون ويسخرون لأن اللاعبين الألمان كمموا أفواههم كإشارة رمزية “للإسكات” الذي تعرضوا له. لقد وجد الغاضبون أن حتى تلك الإشارة غير مقبولة، لأنه يبدو أن “ثقافتنا” تفترض أن عليك أن تسكت في صمت! ومعنى هذا التعبير الغريب أن عليك أن تصمت من دون أن تعلن حتى أنك مجبر على هذا الصمت.

والواقع أن هذا الصمت المزدوج يكاد يكون الجوهر الحقيقي لثقافتنا المعاصرة، موصولا بكل مرادفاته؛ الكبت، المنع. القيود، الحرام.  ولهذا فإننا – للغرابة – نسعد كلما طال المنع أرضا جديدا، في الداخل والخارج، وهكذا، في ظل عجزنا عن الإضافة إلى العالم (لأن الثقافة السلبية لا تنتج)، لا نستطيع تعريف أنفسنا، ولا ثقافتنا،  إلا بالقدر الذي نمنع به الآخرين.