رسائل متنوعة بثتها مصر في مختلف الاتجاهات خلال شهر نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري، كانت بمثابة اختراق لملفات ظلت خطوطا حمراء سنوات عدة.

الرسائل الأخيرة جرى التعامل معها بمشرط جراح، كون المساس بالملفات التي تتعلق بها، أشبه بالاقتراب من حقول ألغام. وذلك لارتباطها بتقاطعات شديدة الحساسية في علاقات مصر بملفات الشرق الأوسط الملتهبة، وعلى رأسها الوضع في الخليج وصراع الطاقة في شرق المتوسط.

زيارة سلاجقة القاهرة

منتصف الشهر الجاري، عاد ملف العلاقات بين مصر وإيران إلى الواجهة مجددا، في أعقاب إعلان وزارة الخارجية المصرية عن لقاء جمع الوزير سامح شكري بعلي سلاجقة مساعد الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، الذي ترأّس وفد بلاده المشارك في مؤتمر المناخ.

هذه المشاركة الإيرانية في مؤتمر شرم الشيخ وصفتها مصر بـ”رفيعة المستوى”، وفق ما نقله  السفير أحمد أبو زيد، المتحدث الرسمي ومدير إدارة الدبلوماسية العامة بوزارة الخارجية، عن الوزير شكري، الذي أعرب عن حرصه بوصفه رئيسًا لـ”COP 27″، على إلقاء الضوء على التشاور والتنسيق القائم بين مصر وإيران حول مختلف موضوعات العمل المناخي. ذلك في إطار عضوية البلدين في مجموعة الـ77 والصين، وحركة عدم الانحياز والأطر متعددة الأطراف المختلفة، التي تلعب دورا مهما في إطار مفاوضات المناخ.

علي سلاجقة نائب الرئيس الإيراني في مسجد الحسين (وكالات)
علي سلاجقة نائب الرئيس الإيراني في مسجد الحسين (وكالات)

اقرأ أيضًا: مصر وإيران: سياقات إقليمية متغيرة تدفع بتقاطع المسارات

ومع ذلك، فإن تواجد سلاجقة، وهو أرفع مسئول إيراني يزور مصر منذ نحو 9 سنوات، لم يكن في حد ذاته رسالة، رغم وصف شكري لها بـ”رفيعة المستوى”. بل إن الرسالة الأوضح والأبرز كانت في الجولة التي أجراها الأول في قلب القاهرة، وزيارته مسجد الإمام الحسين، حيث كانت في استقباله سمية إبراهيم رئيسة حي وسط القاهرة. تلك الزيارة التي تداولت تفاصيلها وسائل الإعلام المصرية الرسمية، وحظيت باحتفاء واهتمام واسع في وسائل الإعلام الإيرانية.

وقد وصفت وسائل الإعلام الإيرانية هذه الزيارة بـ”التطور الهام”. وجاءت في أعقاب رسائل المغازلة القادمة للقاهرة من طهران، بعدما أبدى كبار مسئوليها رغبة في استعادة المستوى الدبلوماسي الكامل للعلاقات مع مصر، دون الاكتفاء بمستوى مكاتب رعاية المصالح.

رسائل إيرانية

وفي أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، أعلن المتحدث باسم الخارجية الإيرانية، سعيد خطيب زاده، عن أمله في التقدم بالعلاقات مع مصر إلى الأمام لمصلحة المنطقة. إذ لفت في تصريحات نقلتها وكالة أنباء فارس حينها، إلى محادثات قصيرة في بغداد بين وزيري الخارجية الإيراني والمصري، على هامش مؤتمر الجوار العراقي، الذي استضافته بغداد في أغسطس/ آب الماضي.

وهي تصريحات تواكبت، آنذاك، مع إعلان المدير العام للشرق الأوسط وشمال إفريقيا بوزارة الخارجية الإيرانية، مير مسعود حسينيان، بأن بلاده تعمل على تحسين العلاقات مع مصر، وأن حل المشكلات بين إيران والسعودية قد يكون له تأثير على هذه القضية [يقصد المصرية].

علاقة مرهونة بالخليج

ويبقى أن استعادة العلاقات بين مصر وإيران، مرهونًا بتقاطعات إقليمية، يأتي في مقدمتها العلاقات المصرية الخليجية، وبالتحديد ما يتعلق بالمملكة العربية السعودية والإمارات.

وقد أكدت مصر في أكثر من مناسبة على ضرورة التزام إيران بوقف تهديداتها للأمن القومي العربي. وهو ما يشير إلى رسائل ضمنية مصرية إلى الأطراف الخليجية في ظل الأزمة العنيفة التي تضرب الاقتصاد المصري، وسط حالة من الفتور تحدثت عنها تقارير دولية أشارت إلى عدم الحماس الخليجي لتقديم مساعدات اقتصادية مباشرة جديدة لمصر، في وقت تتجه فيه السعودية لإيداع مليارات الدولارات في البنك المركزي التركي.

وفي 31 يوليو/ تموز الماضي، أبدى رئيس مكتب رعاية المصالح الإيرانية بمصر، محمد سلطاني فر، استعداد طهران لدخول أسواق مصر، عبر إنشاء مصنع لإنتاج السيارات المحلية وعقد استثمارات مشتركة. بما في ذلك إعادة تشغيل البنك المصري الإيراني المشترك (ميد بنك). وكذا تأسيس شركات تعاون في مجالات النسيج والملاحة البحرية وتجارة السجاد، إضافة إلى التعاون في مجالي النفط والغاز.

تركيا ورسائل المصافحة

بعد أيام قليلة من الرسائل التي حملتها رئاسة مساعد الرئيس الإيراني في وفد بلاده بقمة المناخ في شرم الشيخ، وجولته بالقاهرة، جاءت المصافحة التاريخية بين الرئيسين عبد الفتاح السيسي والتركي رجب طيب أردوغان، بكثير من الحديث عن العلاقات الثنائية بين البلدين وإمكانية تطويرها إلى ما هو أبعد مما عليه الوضع الآن.

فللمرة الأولى وبعد سنوات شابها التوتر منذ إطاحة نظام الإخوان في مصر، تصافح الرئيسان على هامش افتتاح كأس العالم لكرة القدم في قطر، وتوسطهما أمير قطر تميم بن حمد. وهي مصافحة وصفها الرئيس التركي بـ”خطوة أولى نحو مزيد من التطبيع في العلاقات بين البلدين”، مضيفًا أن تحركات أخرى ستليها.

وفي تصريحات أدلى بها للصحفيين على متن رحلة عودته من قطر، أشار أردوغان إلى طلب وحيد لأنقرة من مصر بتغيير أسلوبها تجاه وضع تركيا في البحر المتوسط.

اقرأ أيضًا: مصر وتركيا.. “العقدة الليبية” لا توقف مسار استعادة العلاقات

وكان المتحدث باسم الرئاسة المصرية، السفير بسام راضي، صرح بتوافق بين الجانبين المصري والتركي على أن تكون تلك (المصافحة) بداية لتطوير العلاقات الثنائية بين الجانبين. وأضاف: “تم التأكيد المتبادل على عمق الروابط التاريخية بين البلدين والشعبين المصري والتركي”.

كان بوسع الرئيس التركي الاكتفاء بدلالات الصور التي بثتها وكالات الأنباء العالمية حول المصافحة، كرسالة؛ سواء على المستوى الإقليمي وبالتحديد لليونان وقبرص فيما يخص النزاع في منطقة شرق المتوسط، أو على المستوى الداخلي، حيث تضغط عليه المعارضة لتصحيح مسار علاقات أنقرة مع القاهرة.

إلا أنه فضل أن يتحدث بشكل أكثر صراحة عن هدفه من وراء مساعي تطبيع العلاقات مع مصر، والمتمثل في تغيير القاهرة أسلوبها تجاه تركيا في البحر المتوسط. ما يعني مزيدًا من الضغوط على اليونان.

وزير الخارجية المصري سامح شكري ونظيره اليوناني نيكوس ديندياس (وكالات)
وزير الخارجية المصري سامح شكري ونظيره اليوناني نيكوس ديندياس (وكالات)

اليونان ترد

ساعات قليلة كانت فاصلة بين تصريحات الرئيس التركي عقب مصافحة نظيره المصري، والإعلان عن زيارة وزير خارجية اليونان، نيكوس ديندياس، القاهرة، والتي وصفها مراقبون بأنها تحمل رسائل مزدوجة من الجانبين.

أجرى ديندياس مباحثات موسعة في القاهرة، مع نظيره المصري سامح شكري، أعقبها الإعلان عن اتفاقية بشأن استقدام اليونان 4 آلاف عامل مصري، بخلاف اتفاقية أخرى أمنية، في خطوة تحمل بين طياتها رسالة لا تخطئها عين، بشأن متانة العلاقة مع القاهرة، ردًا على تصريحات أردوغان.

وخلال مؤتمر صحفي مشترك بين الوزيرين، شدد شكري على أن مصر واليونان تسعيان لتحقيق الاستقرار والأمن في شرق المتوسط للعمل على مواجهة التحديات المختلفة. وأشار إلى وجود توافق في الرؤى بين البلدين حول القضايا الدولية والإقليمية.

وأضاف: “نحن نعمل في إطار علاقة تطورت عبر السنوات الماضية لتصبح علاقة استراتيجية كاملة وقدر التفاعل على مستوى قيادتي البلدين ووزيري الخارجية والأجهزة الحكومية المختلفة والسعي لتطوير العلاقة على المستوى الثنائي أتى بآثار إيجابية على البلدين”.

اقرأ أيضًا: شرق المتوسط.. تحالفات جيوسياسية من أجل الغذاء والطاقة (2-2)

وعبّر عن اعتزازه بـ”الأرضية القوية” التي تربط بين الشعبين المصري واليوناني. وأكد على العمل على استمرار التفاعل والتواصل بين البلدين.

أشار شكري أيضًا إلى أن زيارة وزير الخارجية اليوناني تتزامن مع وجود وزير الدفاع اليوناني في القاهرة لإجراء مباحثات مع نظيره المصري. بما يؤكد “تنوع مجالات التعاون بين البلدين لتشمل التعاون والتنسيق السياسي والاقتصادي والأمني والعسكري”.

ويرى اللواء محمد عبد الواحد، الخبير في شؤون الأمن القومي والعلاقات الدولية، أن المؤتمر الصحفي بين وزيري خارجية مصر واليونان حمل رسالة طمأنة لليونان، مفادها أن اللقاء بين الرئيس المصري ونظيره التركي لا يتعارض مع المصالح بين القاهرة وأثينا.

ويشير عبد الواحد إلى رسالة أخرى ضمن حديث شكري مرتبطة بشرق المتوسط، وهي تؤكد أن هدف القاهرة من تهدئة الخلافات الدولية واستعادة العلاقات مع أنقرة، في المقام الأول هو تحقيق الاستقرار في منطقة شرق المتوسط، متوقعًا أن يكون لمصر دورًا في مرحلة متقدمة، إذا اكتملت عملية تطبيع العلاقات مع تركيا، بحيث تعمل على تقريب وجهات النظر بين أنقرة وأثينا.