حتى يومنا هذا، ورغم رحيله منذ اثنتي عشرة سنة في مثل هذا الأسبوع بالتحديد في 20 نوفمبر سنة 2010 هو الوحيد الذي يستطيع أن يمنحني بسمة صافية على الوجه في ساعة نكد، وضحكة من القلب في ساعة حزن، في الأيام التي يحل فيها الاكتئاب ضيفًا ثقيلًا على حياتي أهرع إلى ركن محمود السعدني في مكتبتي، وأجلب منه عددًا من كتبه وكتاباته، وأغلق على نفسي الباب، أقرا السعدني وفي الخلفية يهمس في قلبي صوت فيروز.

أول مرة رأيت فيها الكاتب الكبير محمود السعدني كنت ما أزال طالبًا في المدرسة السعيدية، وكان هو ملْء السمع والبصر، جاءنا يحاضرنا في ندوة مفتوحة مع الشباب، من يومها لم أترك للأستاذ «السعدني»، كلمة مكتوبة، إلا قرأتها بنفس الشغف الذي تلبسني مع أول لقاء لي مع كلماته.

ومن بعد شاء حظي الذي أشرف به أن أتعرف عليه في منزل أستاذي المحامي الكبير «فريد عبد الكريم»، الذي تدربت في مكتبه للمحاماة أوائل الثمانينيات من القرن الماضي، واقتربت منه أكثر فأكثر في صحبة أستاذي الراحل الكبير «محمد عودة» الذي تتلمذت على يديه في الصحافة.

لا أتذكره (سواء وهو حي بيننا، أم بعد رحيله عنا) إلا وتملأ الابتسامة الحلوة روحي، أتذكره وكثيرين من أبناء جيله وفي قلبي أمنية مستحيلة أن يكونوا بيننا اليوم، موقنًا أن حياتنا نحن الذي اقتربنا منهم ستكون أفضل، وأن أرواحنا في وجودهم ستكون أسعد.

جوقة الحكائين وملوك الكلام

عرفت الأستاذ السعدني واقتربت منه ضمن تعرفي واقترابي من مجموعة من كبار الكتاب والمثقفين، وكان هو واسطة العقد في جوقة من أعلام حياتنا الثقافية وكبار رجال دولة الكتابة في مصر، كان من بينهم أستاذي وصديقي الكبير محمد عوده، الذي كان نعم المعلم والمربي، قبل أن يمنحنا شرف صداقته وأبوته الصادقة.

وكان منهم الأستاذ كامل زهيري نقيب نقباء الصحفيين الذي فتح لي عقله وقلبه ودارت بيننا حوارات لا تنقطع في كل شيء، في الصحافة والنقابة، في السياسة وفي الأدب وفي الفن، وكان له في كل ذلك باع طويل، وآراء ونقاشات ونظريات وعبارات لا تنسى على مر الزمان.

وكان من بينهم أيضًا الكتاب والصحفيين الكبار الأساتذة حسين فهمي ومحمود المراغي ونجاح عمر ويوسف الشريف وعبد العظيم مناف وحسنين كروم، وصلاح عيسى وحسين عبد الرازق وغيرهم كثيرين من الذين شاركوا في إثراء حياتنا الفكرية والثقافية على مدار النصف الثاني من القرن الماضي.

**

وكان من بين هؤلاء جميعًا من توفرت لهم الفرصة والقدرة على التعرف على ثقافات العالم شرقه وغربه، مع اقتدار على هضمه واخراجه في صورة إبداع جديد، وبقيت لكل واحد منهم مَسْحَةٌ فنية خاصة به.

وكان من بينهم ملوك الكلام، وأئمة الحكائين، لكل واحد منهم قدرات هائلة على جذب المستمعين إذا تكلم، يُجيدون فنون الحكي الشفاهي، يتبارون في ذلك إن جمعتهم جلسة واحدة، تتمنى لو أن الوقت امتد بك طويلاً حتى لا ينقطع كلام الواحد منهم، يتقنون فنون الكلام والحكي، يتنقلون بين التاريخ والفن، وبين الأدب والشعر، وبين حكايات الملوك وأسرار الرؤساء وكواليس السياسيين وملاعيب الصحفيين كأنك في بساتين يانعةً ثمارُها على الدوام.

**

كان السعدني وسط هذه الكوكبة نجمًا لامعًا، ويكاد يكون هو الوحيد من بين هؤلاء الذي ترك لنا قصته مع الحياة، وبدت كتبه وكأنها الملخص البديع لحياته، تقرأ فيها الكثير من تفاصيل حياة «الولد الشقي»، وفيها القصة بكل بمراراتها، وانتكاساتها، وأفراحها وأتراحها، يقصها عليك حكاء ماهر تملؤها السخرية اللاذعة التي صبغت حياته، والتي كانت نتاجا طبيعيًا لموهبة كبيرة وحياة ثرية، وانغماسًا حقيقيًا في حواري مصر وأزقتها ودروبها وناسها الشقيانين.

حكى السعدني قصة حياته بشكل مباشر في أربعة أجزاء، في الجزء الأول من كتابه «الولد الشقي» يتحدث عن طفولته وصباه في الجيزة، وفي الجزء الثاني عن بداياته في العمل الصحفي، وخصص الجزء الثالث لتجربة «الولد الشقي في السجن» وفيها الكثير من الشخصيات التي عرفها فيه، وجاء الجزء الأخير ليتحدث عن تجربة مريرة عاشها «الولد الشقي في المنفى».

واستكمل السعدني بقية القصة في كتب أخرى مثل «السعلوكي في بلاد الأفريكي» عن رحلاته في أفريقيا أو «الموكوس في بلاد الفلوس» عن أيام لندن، أو بعض رحلاته في بلاد الله التي سماها «رحلات ابن عطوطة».

تاريخ ما أهمله التاريخ

واحد من أهم كتب السعدني كتاب «مصر من تاني» فيه ما لم يذكره كُتَّاب التاريخ الذين يؤرخون للحكام، ويهملون تاريخ الناس، وجاء  السعدني ليقرأ التاريخ بعيون الشعب لا بعيون الحكام، قراءة قدَّم خلالها جولة شعبية في تاريخ مصر تبدأ بالفتح الإسلامي وتنتهي سنة 1954، يمر خلالها على كل ما مر من الحوادث التي اثرت في مجرى التاريخ، مرورًا بالدولة الأموية والعباسية والطولونية والإخشيدية والفاطمية والأيوبية ثم دولة المماليك، بكل ما كان فيها من تقلبات بالغة الأثر، في تلخيص مبهر يطوف على ما جرى في تاريخ مصر الحديث من أول الحملة الفرنسية وثورات المصريين ودور القيادات الشعبية فيها.

يذكرك «مصر من تاني» بما كتبه حسين فوزي في «سندباد مصري»، وما نبَّه إليه أحمد بهاء الدين في كتابه «أيام لها تاريخ»، وما أبدعه صلاح عيسى في «حكايات من دفتر الوطن».

من أمتع كتبه بالنسبة لي كتابه الفريد «الطريق إلى زمش»، تعلو ضحكتي أثناء انهماكي في القراءة، صحيح أنه من نوعية الضحك الذي هو كالبكاء، ولكنك ستضحك في كل الأحوال من قلبك، يضحكك السعدني على المأساة، ويحولها بسخريته اللاذعة إلى تجربة ثرية ضاعت فيها أجمل أيام العمر وسنوات الشباب، حين أرّخ لما يسمى القبضة الكبرى التي طلت الكثيرين من قيادات وكوادر التنظيمات الشيوعية، وكان هو من بين من قبض عليهم في تلك الحبسة من دون أن يكون شيوعيًا، ولم يكن منتميًا في يوم من الأيام لأي من تنظيمات الشيوعيين.

تمام يا افندم مشكلة مصر

هذا الأسبوع وفي ذكرى رحيله انتحيت جانبًا مع كتاب له اسمه “تمام يا افندم”، شعرت أنه ما يزال يكتب لنا وكأنه مطلعٌ على أحوالنا، فالكتاب ينطبق على عصرنا الذي نعيشه أكثر ألف مرة مما كان ينطبق على العصر الذي كتبه فيه، وهو يقدم شرحًا للتعبير الذي عايشه في السجن مقبوضًا عليه بتهمة الشيوعية.

” تمام يا افندم” تعني أن كل شيء تمام التمام، وعلى ما يرام، الجدران لم يصبها الانهيار، والسقوف ليس بها شقوق، والأبواب في أحسن حال، والأسوار متينة وعال العال، وعدد المساجين لم يطرأ عليه أي تغيير، يقول عدد المساجين، وليس حال المساجين، لأن حال المساجين لا يهم أحدًا على الاطلاق.

**

التمام هو أهم شيء في السجن، أهم من النزلاء، وأهم من الإدارة نفسها، فالتمام في السجن هو أسلوب ونظام، كما يقول السعدني، ولكنه أيضاً نظرية في الحكم، في السجن ـ حسب وصف السعدني ـ لحظة التمام هي لحظة متوترة ومشحونة بالقلق، يقف شاويش العنبر أمام حضرة الصول، ويضرب كعبه بالأرض ويصرخ كعنتر بن شداد: “تمام يا افندم”، ثم تتوالى الإجراءات، الصول أمام ضابط العنبر، وضابط العنبر أمام البيه الوكيل، والبيه الوكيل أمام البيه المأمور، والبيه المأمور أمام البيه المدير، الكل يصرخ واحد وراء الآخر: “تمام يا افندم”.

رغم من كل هذه “التمامات” إلا أن الجاري من أحوال السجن يقول إن كل شيء لا علاقة بالتمام، فليس في العالم كله فساد كالفساد الموجود في السجن، أغلب الحراس بلا ضمير، والسجن بالنسبة لهم هو مكان للتربح، والسجناء آخر غلب وآخر ضياع على حسب وصف السعدني.

**

“تمام يا افندم” ليست قاصرة على السجن، ولكنها سياسة عامة في كل المجالات، يسأل الرئيس كل مرؤوس في مجاله فيكون الجواب “تمام يا افندم” بينما التقارير أمامه تقول عكس ذلك.

“تمام يا افندم” لا تعني أن الناطق بها كذاب فحسب، ولكنها تعني شيئاً آخر أخطر، وهو أن صاحب العبارة لن يتحرك من أجل التحسين أو التغيير أو التطوير، ولذلك فلا نهضة في مصر، ولا تغيير ولا تطوير ما دام كله “تمام يا افندم”.

“تمام يا افندم” أكبر أحزاب مصر

والحق أن سياسة “تمام يا افندم” على عهد السعدني أصبحت في عهدنا هذا نظامًا، وتحولت من أسلوب ونظام تشغيل إلى نظرية في الحكم نهشت دولاب الدولة وفرّغته من كل مضمون، وجعلت الدولة في أفضل وصف لها “شبه دولة” وهي ليست كذلك فقط، بل صارت “شبه دولة منحرفة”.

تحولت “تمام يا افندم” بمرور الوقت إلى حزب واسع العضوية، له أنصار، وله كتائب إلكترونية، وله صفحات فيسبوكيه، وله جرائد، فضائيات، وإعلاميين واعلاميات، وفنانين وفنانات، وكلهم مدافعين أشاوس بالحق والباطل عن شبه الدولة تحت زعم أن كل شيء تمام سيادتك.

أنصار كل شيء تمام وعلى ما يرام يقفون اليوم كسد النهضة الإثيوبي حائلاً أمام أن تجري في المستنقع مياه جديدة تزيل ما فيه من عفن، ويعادون كل أفكار تطرح ضرورة التغيير، أو تطمح إلى التطوير أو تحاول أن تشق الطريق إلى تحسين الأحوال.

**

ثلاثة أحزاب كبار في مصر، أكبرهم حزب تمام يا افندم

أولهم حزب الأهلي وأنصاره فوق قدرة الإحصاء، ثم حزب الزمالك وهم كثير ولكن مغلوبون على أمرهم كفريقهم وناديهم، رضوا بالهم ولم يرض الهم عنهم، والحزب الثالث هم حزب “تمام يا افندم”، وهو الحزب الوحيد الذي يجمع في عضويته أعضاء الحزبين، ويوحد بينهم ويذيب الفوارق بين الحزبين الكبيرين.

في الكرة حزبان كبيران، وأحزاب الهامش، لكن في السياسة حزب واحد مسيطر، يأخذ أكثر من شكل، ويتسمى بأكثر من اسم، ويظهر له قيادات يتغيرون ولا تتغير مبادئ الحزب ولا نظريته الأساسية التي قام على أساسها ويربي أعضاءه وأنصاره على تبنيها لا يتخلون عنها ولا يجدون لها بديلاً.

حزب “تمام يا فندم” بُني في الأصل على أكتاف الموظفين والعاملين في دولاب الدولة، في القطاع العام، وقطاع الأعمال، والقطاع الخاص، وقطاع الحرامية من رجال الأعمال، وهو في الأصل حزب مؤسسات، وأجهزة وإدارات، تجدهم في كل مصلحة حكومية، وكل إدارة، من أول إدارة عموم البلاد إلى أصغر غفير في أبعد قرية في مصر.

أقسى همومنا يفجر السخرية

في رائعة سيد حجاب الباقية على مر السنين كلمات تتر المسلسل الشهير “ليالي الحلمية”، وفيه ذلك الملخص البديع لحالنا:

أقسى همــومنا يفجر الســــــخرية.. وأصفى ضحكة تتوه في بحر الدمـــوع

الفارق بين زمان واليوم أن خطورة حزب “تمام يا افندم” القديم تتمثل في إبقاء الحال على ما عليه، أما حزب “تمام يا افندم” اليوم فخطورته تتمثل في أنه يورطنا في وصول الحال إلى ما هو أسوأ.

“تمام يا افندم” أوقعتنا في الكثير من الورطات، وورطتنا في الكثير من المشاريع التي لم تدرس جدواها، وما تزال تمارس لعبتها المفضلة في المزيد من توريط البلد في الكثير من المشاكل والأزمات، ولا أمل في التغيير ما دام حزب “تمام يا افندم” هو الذي يشكل الوزارات ويجري التعديلات الوزارية، ولا يقدم جديدا غير في التون والطريقة التي يقال بها لصاحب الدولة: “تمام يا افندم”.

**

سخريته محمود السعدني ما تزال طازجة، وهي -عكس السخريات الساذجة- نتاج ثقافته الواسعة، وبنت مهاراته ومواهبة المتعددة، وحين أتذكره اليوم في مناسبة رحيله أعيد اكتشاف أن في جعبتي (كما في جعبة الكثير من مريديه ومحبيه) عشرات الحكايات التي سمعتها منه، أو منقولة عنه.

ترك «محمود السعدني» وراءه ميراثا من الكتابة التي أرادها على طريقة تخصه وحده، صنع بها طريقا وعبَّده ليسلكه من بعده مريدون من أتباع الطريقة التي ذخرت بهم الكتابة الساخرة من بعده.

وأستطيع أن أجازف بالقول إن إنتاج «السعدني» لا يقتصر فقط على كتبه الموجودة في كل بيت، ولا حتى في هذا الكم الكبير من كتاباته المنتشرة على صفحات العديد من المطبوعات، بل يبقى إنتاج «السعدني» الكبير مثل بعض عمالقة عصره، يتمثل في هذا الكم الهائل من الكلام المنثور على صفحات ألوف المساءات التي كان دائمًا ملكها المتوج.

**