كانت السنوات المائة الأخيرة كارثية بالنسبة للإمبراطوريات. ففي بداية القرن العشرين انهارت الإمبراطوريات التقليدية، إذا جاز التعبير: العثمانية، النمساوية- المجرية، الصينية. وفي أواسط القرن نفسه سقطت الإمبراطوريات الحديثة: البريطانية، الفرنسية، البرتغالية. وقبل أكثر من 30 عاما بقليل انتهى عصر ما يمكن أن نسميه شبه الإمبراطورية النوعية- الاتحاد السوفيتي.

كل واحد من هذه الأحداث تم فهمه كانتصار للقوى التي تجمعت على محيط الإمبراطورية، أو بكلمات أوضح في أرياف الإمبراطورية. هنا تصاعدت حدة الأمزجة المعادية للإمبراطورية في جميع أنحاء العالم. وأصبحت التجربة الإمبراطورية هدفا للانتقادات الحادة. ولكن ما هي حصيلة النتائج التي يمكن أن نخرج بها من هذا القرن العاصف؟ وهل هناك دول كثيرة من تلك التي تحررت من الاستعمار، استطاعت أن تتجاوز في تطورها المستعمرات السابقة؟ وهل ترسخت في الكثير منها التقاليد الديمقراطية؟ وهل ارتفع مستوى معيشة سكانها؟

في مقال للعالم الاقتصادي الروسي المعروف والمشرف العلمي لمركز أبحاث المجتمع ما بعد الصناعي البروفيسور فلاديسلاف إنوزيمتسوف، كتبه في إبريل عام 2005، حول انبعاث روح الإمبراطورية لدى الولايات المتحدة رأى أن واشنطن ظهرت أمام العالم في الآونة الأخيرة بمظهر ليس فقط القائد الوحيد والأوحد، وغير المشكوك فيه، في مجالات الاقتصاد والتكنولوجيا والقوة العسكرية، بل وأيضا في صورة الإمبراطورية التي تتشكل ملامحها.

ومن الواضح أنه سوف يتم خلال السنوات القليلة القادمة تفكيك لبقية التراكيب والهياكل السياسية التي تشكلت في النصف الثاني من القرن العشرين. وسوف يكون العالم الجديد مضطرا للتعايش ليس مع قوة سوبر عظمى أو قوة خارقة، وإنما بالضبط مع إمبراطورية بكل ما تتضمنه الكلمة من معاني.

مثل هذا المستقبل يخيف الكثيرين، إذ إن النظرة السلبية لقوة الإمبراطورية وقدرتها هي من الصفات التي تميز زمننا المعاصر، بالضبط مثل الإعجاب بالمثل الديمقراطية.

ويكفي هنا أن نقرأ كتاب “ملك الخواتم” لكي نرى التراتبية الدقيقة في كل شيء إلى أن نصل إلى الشخصية التي لا توجد فوقها أية حكومة أو سلطة.

ولكن أليس من الغريب أن هذه النظرة للإمبراطورية تشكلت في الدول الاستعمارية فقط بعد أن أصبحت الإمبراطوريات نفسها في ذمة التاريخ؟ ونحن هنا نتعامل مع هذا المثال على غرار تحليلنا كيفية تراكم الآراء والنظرات السلبية في المجتمع تجاه أي مشروع اجتماعي انتهى إلى الفشل. فهل يمكن أن تضمن المبادئ والأفكار الإمبراطورية لنفسها “الكارت الأخضر” من أجل المرور إلى العالم والانتشار فيه؟

من جهة أخرى، ووفقا لمصادر التاريخ، يظهر أن مفهوم الإمبراطورية لم يتضمن بداخله، على مدى قرون طويلة، أي أفكار سلبية. فالرومان عندما كانوا يعملون على توسيع إمبراطوريتهم، حملوا في ذات الوقت إلى الشعوب المتخلفة ثقافات العالم القديم. وإسبانيا عندما كانت تقوم ببناء المستعمرات في أمريكا، رأت نفسها صاحبة رسالة، وحاملة العقيدة الوحيدة الحقيقية والصادقة إلى العالم.

أما الإنجليز عندما امتلكوا ما يقرب من نصف الكرة الأرضية، حاولوا إثبات عمومية المبادئ وعالميتها، وقابلية تطبيق كل الأفكار على الجميع.

تلك المبادئ والأفكار التي كانت حصيلة جهود الحضارة الأوروبية. واليوم فقط نتحدث بكل ثقة عن الاستعمار والمستعمرات التي كانت موجودة، ولكن في الماضي! ففي بداية القرن العشرين كان البريطانيون يفهمون الإمبراطورية التي أقاموها على إنها “الأمة”، وليست أبدا أداة للسيطرة على أراضي وحدود غريبة. وحاولت الإمبراطورية أن تجعل من نفسها وحدة للتنوع في مواجهة العالم المتبقي، أو بالأحرى بقية العالم-ذلك العالم المركب على نحو أو آخر، والمعادي لها- بطبيعة الحال- بدرجة أو بأخرى. في هذا السياق كانت الإمبراطورية تعتبر بدون أي شك تجسيدا للمؤسسة الأكثر مالا وتنظيما من العالم المحيط بها.

عملية القياس هنا ليست برهانا. غير أنه من الصعب جدا في هذه الحالات الابتعاد عن إغراء مقارنة تاريخ القرن العشرين بتاريخ القرون العشرة الأولى للقبة المسيحية. ففي تلك الأزمنة البعيدة صارت الإمبراطورية الرومانية التي بدت راسخة ومستقرة ووطيدة ضحية للهجمات الخارجية والعصيانات والانتفاضات والثورات من جانب الأقاليم، وتفتت حدودها وأراضيها إلى مقاطعات وإمارات مستقلة حاولت كل جميعها نسخ التقاليد الرومانية، وظلت لفترة طويلة تحافظ على إخلاصها للغة اللاتينية. ولكن بعد ذلك ولدت من صراعها مع بعضها البعض إمبراطوريات جديدة، قامت بدورها بتعزيز سلطتها وتقوية نفوذها مرات مضاعفة على العالم.

وكانت عواصم هذه الإمبراطوريات الجديدة تثير الإعجاب بجمالها وثرائها في تلك السنوات، عندما تحولت التماثيل والآثار الرومانية إلى مصدر غني للحصول على الأحجار من أجل البنايات البدائية للقرون الوسطي. ألسنا شهودا على “تكرار”، وليس “استمرار”، التاريخ؟

إن الإمبراطورية البريطانية إحدى الإمبراطوريات الكثيرة التي كانت موجودة منذ مائة عام فقط وأصبحت في ذمة التاريخ. ولكن حلت محلها دول مستقلة تتحدث بالإنجليزية، وتلتزم شكليا بالمبادئ الديمقراطية، بل وأحيانا يرتدى قضاة هذه الدول الباروكة البيضاء والتي ليس من الممكن أبدا أن تكون ضمانة لالتزامهم بالعدالة. وما نراه اليوم ليس أكثر من خطوة أولى لواحدة من المستعمرات البريطانية، ألا وهي الولايات المتحدة الأمريكية، على طريق إقامة إمبراطورية جديدة على حساب احتلال مستعمرات بريطانية أخرى سابقة.

إذًا، هل تعتبر هذه العملية غير طبيعية، أو ضد المسار الطبيعي؟ هل ستصبح الإمبراطورية الأمريكية صلبة؟ وهل يمكن للسياسة “الإمبراطورية” للولايات المتحدة أن تجعل العالم أكثر أمنا وأمانا، وأكثر فهما وتوقعا؟

كانت الإمبراطورية في كل العصور تفرض النظام على الفوضى والتشويش. وبناء إمبراطورية جديدة لا يمكن أبدا أن يكون استثناء.

وإذا أخذنا بعين الاعتبار الانهيارات الاقتصادية في العالم الثالث خلال السنوات الخمسين الأخيرة، واتساع نطاق اضطهاد السلطات المحلية لمواطنيها والتنكيل بهم، والنتائج المدمرة للنزاعات الدينية المصحوبة بأعداد هائلة من الضحايا، وتفاقم المشكلات الأيكولوجية، وعجز عشرات الدول ذات السيادة عن إعطاء ضمانات لمواطنيها بصيانة حقوقهم الأولية- إذا أخذنا كل ذلك بعين الاعتبار، يجب أن نعترف بأن النظام الجديد يمتلك فرصة هائلة ليصبح أفضل بكثير من النظام القديم، بل وحتى في نظر سكان الأراضي المُستعمَرة نفسها.

ولكن هل يتناقض ذلك مع نماذج العالم التي تأسست بعد الحرب العالمية الثانية، والتي تذكرنا الآن بقوة شديدة بعواصم الإمبراطوريات القديمة؟ وهل اتفاقات يالطا تناولت أو حتى مست مصائر الشعوب الآسيوية أو الإفريقية؟ ألم تعين الأمم المتحدة أنظمة انتداب لإدارة المستعمرات في الوقت الذي لم يكن فيها أصلا مجلس وصاية؟ إذن فما هي المشكلة؟ يبدو أن المشكلة في مستقبل الولايات المتحدة في كونها تريد أن تصبح “روما الجديدة” بالمعنى الكامل للكلمة (ولكن ليس روما في القرن الأول الميلادي، وإنما في القرن العاشر).

من الممكن هنا أيضا التعرض إلى فكرة (الإمبراطورية- الإمبريالية) على مستوى الحزبين الرئيسيين في الولايات المتحدة بالذات. إذ تسيطر فكرة بأن مواقف الحزبين الرئيسيين الأمريكيين- الجمهوري والديموقراطي- تتفق في خطوطها الأساسية في السياسية الأمريكية. هذه الفكرة، بشكل عام، صحيحة جزئيا في علاقتها بالمهمة التاريخية الرئيسية التي يتفق عليها الحزبان بصورة كاملة، ألا وهي “ازدهار واتساع وتجذر القوة الأمريكية في العالم كله”.

ومع ذلك، وبالرغم من اقتراب الولايات المتحدة من الوصول إلى حلمها “العزيز والمقدس”، نموذج “المستقبل الأمريكي”، والذي أصبح أمرا واقعا بالفعل، يظل هذا “المستقبل الأمريكي” محل جدال حاد ومتصاعد. وفي ظل هذه المرحلة الانعطافية من تاريخ الولايات المتحدة، والبشرية كلها، يدخل الجدال بين الشكلين “الديموقراطي” و”الجمهوري” إلى منعطف أكثر حدة وقسوة. ومع ذلك.

فالحديث في واقع الأمر يدور في حالتنا هذه ليس ببساطة حول الإشكاليات الداخلية الأمريكية بهذا الصدد، وإنما تحديدا حول أن المواجهة المستعرة بين نمطين أو “موديلين” لـ “المستقبل الأمريكي” تحدد مصير البشرية جمعاء، وهذا هو المنطق الشرس جدا للعالم أحادى القطب.

في هذه الحالة يساعدنا كتاب “الإمبراطورية” للكاتبين مايكل هارت وأنطونيو نيجري على فهم الاختلاف بين الديمقراطيين والجمهوريين، حيث ينطلق المؤلفان من أن المنظومة الرأسمالية قد وصلت إلى مرحلة نوعية جديدة تماما. هذه المنظومة ما بعد الصناعية، اليوم، غير محددة بأطر الدول البرجوازية الوطنية.

ولكنها أصبحت تمتلك طابعا كوكبيا. وهو ما يسميه المؤلفان بـ “الإمبراطورية”. وتتمثل، وفقا لرأيهما، في إسقاط (أو تنفيذ) الموديل الأمريكي الذي وضعه آنذاك الآباء المؤسسون للولايات المتحدة في أساس النظام السياسي الأمريكي. مثل هذه “الإمبراطورية” لا تتناقض مع الليبرالية أو الديمقراطية. بل على العكس، فمؤسسو “الإمبراطورية” يبررون توسعاتهم تحديدا تحت دعوى رسالة نشر “الحرية والديمقراطية” بين شعوب العالم الأخرى “المتخلفة وغير المتحضرة”. ولكن ما هي تركيبة هذه “الإمبراطورية”؟

يرى هارت ونيجري أن مبدأ أو فرضية “الإمبراطورية” الكوكبية ما بعد الصناعية ما بعد الحداثية تختلف نوعيا عن تلك الظاهرة التي أطلق عليها فلاديمير لينين في استسهال “الإمبريالية”.

وجوهر الاختلاف يتلخص في أن “الإمبريالية” هي السياسة الكلونيالية للدول البرجوازية الوطنية التي تسيطر عن طريق القوة على الدول والأراضي الأخرى (كقاعدة، الدول والأراضي المتخلفة) لتنهبها وتستغلها بلا رحمة أو شفقة، وفي ذات الوقت لا تهتم إطلاقا بعملية إلحاقها بالسياسة العامة للمنظومة العالمية- المتروبوليتانية.

أما “الإمبراطورية” التي تتشكل اليوم، فهي تسعى ليس فقط إلى وضع أراضي ودول العالم كله تحت سيطرة الولايات المتحدة كدولة قومية، وترغمها على الخضوع للمصالح الاستراتيجية الأمريكية، ولكنها تسعى أيضا إلى تغيير صورة العالم وحدوده بشكل نوعي.

وذلك بوضع البشرية كلها في منظومة سياسية- اقتصادية مع المحو التدريجي للحدود الاجتماعية والثقافية والدينية والإثنية والوطنية. في هذه “الإمبراطورية” لا تسيطر “أمريكا” بقدر ما تسيطر “الأمركة” كشكل سياسي- اقتصادي.

إن الجدال الحاد بين الديمقراطيين والجمهوريين ينتهي تحديدا إلى هذه النقطة. فالجمهوريون ينادون بهذا النمط لـ”المستقبل الأمريكي”، ويواصلون التفكير والعمل في نطاق نوعية “المصالح القومية”. وشكل الكولونيالية الخاص بهم، والمحدد تماما والكامل على المستوى التقني، ينتج في ملامحه العامة النمط الأطلنطي الكلونيالي الكلاسيكي.

والأمر المنطقي هنا ببساطة هو السيطرة عن طريق القوة والغزو والاحتلال على الأراضي والدول، وشراء النخب المحلية، وبذل الضغوط الاقتصادية- السياسية. وكذلك أيضا تعزيز المواقع الاستراتيجية- العسكرية في المنطقة.

أما الموديل الذي ينادى به الديمقراطيون، ويدافعون عنه، فهو موديل آخر نسبيا. وهو في الواقع “إمبراطورية” وليس “إمبريالية”. غير إنه هو أيضا “قرن أمريكي” أو “عصر أمريكي” لا يوجد فيه أي مكان لسيادة الدول أو الشعوب أو الثقافات.

ولكن في هذا المشروع ستصبح الولايات المتحدة عالمية، ليس فقط بالسيطرة على الدول والأراضي الأخرى، ولكن أيضا بتمزيق العالم كله، وهضمه، ثم تحويله إلى ولايات متحدة أمريكية، أي زرع “نمط الحياة الأمريكي” فيه، ونشر السوق والليبرالية والديمقراطية كمعايير عامة ضرورية وإلزامية بصرف النظر عن المنطقة التي يدور عنها الحديث. وهو ما يصفه المفكرون بتفكيك العالم، وإعادة تركيبه من جديد وفقا لرؤية فوقية محددة قوية وقادرة.

الإمبريالية في مفهوم الديمقراطيين ليس لها مركز. فمركزها عابر للقومية. وهذا المركز في كل مكان، وليس في أي مكان. في هذا الوضع ستحصل الولايات المتحدة، بلا أدنى شك، على جميع فوائد وعائدات إدارة العالم وتوجيهه.

على هذا النحو يحاول الديمقراطيون والجمهوريون، في ولع وحمية ودراماتيكية، وعبر رؤوس القوميات والدول والشعوب والحضارات والثقافات، حل تلك الإشكالية الخيالية- الضخمة: “إمبراطورية” أم “إمبريالية”؟ ومن ثم يتوقف مصير العالم كله على نتائج “حل” مثل هذه المعادلة أو الثنائية المعقدة. غير إنه في كلتا الحالتين، وليس فقط في واحد من المشروعين، لا يتم النظر إطلاقا إلى مصالح أي أحد.