أثار ما حدث مساء الاثنين الماضي من بهجة الشعوب العربية واحتفالها بعد مباراة كرة القدم بين السعودية والأرجنتين سؤالًا انبثقت عنه أسئلة عديدة تتالت متصاعدة في ذهني -وأنا غير المُتابع بدأبٍ لفعاليات كأس العالم- فتجاوزت المسألة الرياضية إلى مستوياتٍ أخرى غير ذات صلة مباشرة، أو هكذا بَدَت.

كان السؤال الفاتحة هو: “تُرى لو أن الأرجنتين كانت هي الفائز، هل كانت ردود أفعال شعوب أوروجواي والبرازيل وتشيلي وبوليفيا التي تربطها بالأرجنتين حدودٌ جغرافية وامتدادات حضارية، ستُماثل ما حدث من ردود أفعالٍ لشعوب مصر والأردن ولبنان وفلسطين وتونس والمغرب على تباعدها الجغرافي عن السعودية وتنوع أصولها الحضارية؟” ولما كانت الإجابة بالنفي، فقد بدأت موجة الأسئلة تترا بحثًا عن تفسيرٍ موضوعيٍ بعيدًا عن “تديين” المسألة الذي انتهجه البعض و”تسييسها” الذي تبناه البعض الآخر.

هل كان الأمر بمثابة احتفال بسقوط واحدة من القوى الكروية العظمى فتصادف أن تم ذلك بأقدام فريقٍ عربي، أم أن الاحتفال كان بالأساس لتمكن فريق عربيٍ من الانتصار على تلك القوة العظمى؟ ولماذا كان عَلم فلسطين حاضرًا بقوة أثناء وبعد المباراة وبمباريات أخرى رغم عدم تواجد فلسطين رسميًا في البطولة؟ هل مازال التضامن العربي قائمًا ولو في أدنى صُوَرِه التي تتمثل في مجرد الاحتفال بفوز فريق عربي وبرفع عَلَمٍ في مباراة لكرة القدم؟ وإذا كان هذا التضامن قائمًا على أي نحو، فهل يمكن البناء عليه بتطويرٍ أكثر اتساعًا وموضوعية لإحياء فكرة القومية العربية بأسس مختلفة تتسق -بواقعيةٍ- مع ملامح عالم جديد وتتدارك أخطاءً تاريخية تسببت في انهيار التجربة في ستينات القرن الماضي حيث كانت الإجراءات تُملى بقرارات فوقية دون امتدادات شعبية ومشتركاتٍ اجتماعية واقتصادية.

كان للمرحوم الأستاذ خالد بكداش السكرتير العام للحزب الشيوعي السوري الأسبق وصف دقيق جدًا لتجربة القومية العربية بنسختها الستينية وهو ما أظنه مازال صالحًا للتأمل وإن تبدلت الأحوال، حين قال إن الأمة العربية هي شعب واحد في دول متعددة. كان الرجل يتحدث عن شعب عربي تجمعه وحدة اللغة والأرض والتكوين النفسي المشترك لكن لا حياة اقتصادية مشتركة تصيغ أركان الصورة العامة المؤسِسَة لتكوين الأمة.

لم يكن مقصود الرجل هنا هو تكوين “سوقٍ عربيةٍ مشتركة” مثلًا لكن علاقات إنتاج ونمط اقتصادي ينتقل بموجبهما المجتمع العربي من مرحلة إلى أخرى وهو ما يمكن مقارنته بظروف نشأة الاتحاد الأوروبي الذي لم يتوافر له عند تكوينه سوى وحدة الأرض وأسس الديمقراطية العلمانية والنمط الاقتصادي المتماسك بينما غابت وحدة التكوين الحضاري واللغوي والثقافي. لم تكتمل تجربة التطور التاريخية بانصهار المجتمعات العربية من أصحاب الحضارات القديمة في مصر والعراق والشام والمغرب، فلا هي استمرت مُنعزِلًة على حالها ولا هي تطورت إلى نسق جديد يجمع بين الدولة القطرية والدولة الوطنية معتمدًا بالأساس على منطق موضوعي ديمقراطي لا عاطفي شمولي.

ربما كانت المشتركات الثقافية -رغم كونها ميزة كبرى- هي واحدة من أهم المشكلات التي أعاقت اكتمال التجربة، حيث غَلَبَ المكون الثقافي فَتَغَلَب طاغيًا على ما كان ينبغي أن يجمع بين الشعوب اقتصاديًا واجتماعيًا ما سَهَل ضرب التجربة من الداخل ومن الخارج على حدٍ سواء.

حَدَث أن ترهلت مؤسسات القومية العربية بنسختها الستينية كنموذج عمل وإن ظلت قضية فلسطين-الشعب هي المُحرك الأساس لردود أفعال المجتمعات العربية حتى وإن تدهور بها الحال إلى مواقف لا تُقَدِم جديدًا موضوعيًا على أي مستوى يتجاوز رفع العَلم في مباراة بكرة القدم.

حَدَث أن تضعضعت مؤسسات الدولة الفلسطينية الهشة منذ التكوين بل وتلاشى إرث “أوسلو” الذي كان يضفى قدرًا من الشرعية عليها. حَدَث أن حادت بعض الفصائل الفلسطينية بالقضية في دربِ تيهٍ بائسٍ فصبغتها بملمح ديني ساهم في تفتيتها وتفريغها من أهم مضامينها وأكثر أسس تماسك عناصرها صلابةً وهو “الوحدة الوطنية”. حَدَث كل هذا في الوقت الذي مازالت فيه إسرائيل تحاول محو الذاكرة الوطنية الفلسطينية (وهو الأهم والأخطر) وتهجير الشعب الفلسطيني وإعمال القتل والتنكيل والإبعاد لما يقترب من ثلاث أرباع القرن في ممارسة تجاوزت العنصرية البغيضة إلى الفاشية المقيتة خصوصًا بعدما تم الاتفاق منذ أيام قلائل على توزير المتطرف “بن غفير” قائمًا على الأمن الداخلي والذي كان قد قُدِمَت بِحقِه خمسين لائحة اتهام ضمت اتهامات جنائية وأخرى عن أعمال شغب وتحريض على التمييز والعنصرية وهي إشارات بالغة الأهمية لما سيشهده قادم الأيام من أحداث.

حَدَث كل هذا على مدار سنين طوالًا سالت فيها دماء كثيرة وتهدمت مجتمعات بأسرها لتأتي مباراةً في كرة القدم لا يزيد عمرها عن الساعة والنصف فتعيد تذكيرنا بأن التضامن العربي -الذي يبدو كخيط رفيع لا يكاد يُبين- مازال قائمًا، وأن سياقًا جديدًا للتعاون يمكن أن يُبنى عليه لكن الأمر يحتاج إلى جهود تطرح نماذجًا مُغايرة وقابلة للتطبيق في عالم مختلف.