مازالت توابع الاتفاق المبدئي الذي توصلت إليه مصر مع صندوق النقد الدولي تتواصل في الظهور واحدة تلو الأخرى، ويبدو أن الحكومة والبنك المركزي قدما ثاني البراهين للمجلس التنفيذي للصندوق على سعيهما نحو ضبط السياسات المالية والنقدية، بما صدر من قرارات تخص مبادرات التمويل ذات الفائدة المنخفضة، خلال الأسبوع الماضي.

حيث أخطر البنك المركزي المصري البنوك المحلية بالتوقف عن منح التمويلات الخاصة منخفضة الفائدة عند سعر 8٪ لدعم القطاع الصناعي والزراعي والعقاري والطاقة المتجددة، وفي ذات التوقيت صدر قرار السيد رئيس الوزراء بضم مبادرات التمويل المختلفة ذات الفائدة المنخفضة إلى مسؤولية وزارة المالية بدلًا من البنك المركزي، مع تحمل وزارة المالية مهمة تعويض البنوك عن تكلفة التمويل المسددة، مع الالتزام بتدبير الأموال المخصصة للمدفوعات المقبلة، ونشرها في بيان شهري يوضح تفاصيل تلك المعاملات التمويلية.

كما حظر قرار رئيس الوزراء على الجهات والهيئات كافة بما فيها البنك المركزي إعداد أو صياغة أي مبادرة تمويلية يترتب عليها أعباء مالية مباشرة أو غير مباشرة على الخزانة العامة إلا بعد موافقة مجلس الوزراء ودراستها من قبل وزارة المالية، مع نقل الدعم المقدم لخمس مبادرات من البنك المركزي إلى وزارات المالية، ووزارة الإسكان والمجتمعات العمرانية، وصندوق دعم السياحة التابع لوزارة السياحة والآثار. وهي مبادرات (التمويل العقاري لمحدودي ومتوسطي الدخل، ومبادرة دعم السياحة، ومبادرة المشروعات الصغيرة والمتوسطة ومتناهية الصغر، فضلًا عن  مبادرات تشجيع طرق الري الحديثة، والوقود المزدوج للمركبات)، وذلك دون أي حديث عن مبادرة دعم الصناعة.

السبب المباشر في تلك القرارات هو ما يبدو أنه أحد بنود الاتفاق مع صندوق النقد، حيث لا يمكن الحديث عن انضباط للسياسة النقدية مع وجود تشوه في أسعار الفائدة، فمن غير المنطقي أن تزيد أسعار الفائدة داخل مصر بنسبة 5٪ خلال هذا العام، ليصل سعرها الرسمي عند 13.75% و14.25% للإيداع والإقراض، وتكون أسعار الفوائد في البنوك تصل إلى 16٪ وذلك بغرض تقليل الإقبال على الاقتراض، بينما يقدم البنك المركزي مبادرات مدعومة بحوالي نصف قيمة الفائدة لزيادة فرص الاقتراض لقطاعات محددة، هذا بالتأكيد تشوه سعري غير مبرر ويعطل من فعالية السياسة النقدية في مواجهة التضخم، وبالتالي ما تم من نقل مسؤولية تلك التمويلات على الموازنة العامة الدولة لتتحملها وزارة المالية بدلًا من البنك المركزي هو أمر سليم لضبط هذه الفجوة.

ظهور حجم هذا الدعم المقدم في الموازنة العامة للدولة، سيرفع بالتأكيد هذا العبء عن كاهل أرباح البنك المركزي، ويجعل مهمته محددة في التعامل مع سعر الصرف والتضخم، بزيادة أو خفض أسعار الفائدة بنسب موحدة أمام الجميع، ومن ناحية أخرى فإنه يضع أمام الحكومة مسؤوليتها في التمويل والدعم للأنشطة الاقتصادية التي ترغب في تحفيزها، سواءً بتقديم الدعم أو الإعفاء من الضرائب أو الجمارك أو تقديم بعض التسهيلات الإجرائية، فهذه الأمور في صلب مسؤوليات صناع السياسة المالية للدولة، تمامًا كما تقدم الدولة برامج دعم للفئات الأكثر فقرًا مثل برامج دعم السلع التموينية أو مبادرات الدعم النقدي تكافل وكرامة أو مشروعات حياة كريمة وغيرها من أشكال الدعم المختلفة، ولاسيما أن القطاع الصناعي على سبيل المثال لديه مبادرتان للتمويل 5٪ و8٪ للمشروعات الصغيرة بينما تقترض المشروعات متناهية الصغر عند أسعار فائدة تتراوح من 15٪ و35٪ بحسب الجهة المقرضة، وبالتالي يتم التمييز بين أصحاب ذات النشاط في حجم الفائدة المقدمة مع تفاوت كبير في أسعار الفوائد، وهي أمور تحتاج لمعالجة واضحة.

الدستور المصري وخطة الدولة طويلة الأمد “رؤية مصر 2030” واتجاهات سياسات الحكومة المالية والاقتصادية بشكل عام، تميل لكون المالية العامة غير محايدة بل هي مالية وظيفية، أي أن النفقات العامة لا تنحصر عند حدود النفقات التقليدية في حفظ الدفاع والأمن وحسن سير الخدمات، بل لها أدوار في تحقيق التوازن الاقتصادي عبر سياسة إدارة الطلب الكلي، والتأثير في حجم الدخل القومي وكيفية توزيع الثروات والخدمات، وبالتالي تلجأ الدولة للاقتراض الداخلي والخارجي بغرض تمويل هذه النفقات التي تراها من صلب مسؤولياتها السياسية والاقتصادية والتنموية.

وأمام هذه الأدوار نجد أنفسنا أمام مشكلاتنا الهيكلية، وهي كيف نحدد أولويات الإنفاق العام بأنواعها المختلفة (استثماري / جار / اجتماعي)، حيث الموارد محدودة، وحجم الاقتراض المتزايد بإصدار السندات وأذون الخزانة يؤثر بشدة على الموازنة العامة للدولة والميزان التجاري، ويجعلنا أكثر ضعفًا تجاه أي اضطرابات اقتصادية عالمية قد تهدد مصادر الاقتراض من الأموال الساخنة.

هل تنخفض أسعار الفائدة بدون الاكتراث بمستويات التضخم المرتفعة، من أجل تسهيل الائتمانات والتمويلات المقدمة للقطاعات الإنتاجية وفي مقدمتها القطاع الصناعي، أملًا في رفع مستويات الإنتاجية والاستفادة من انخفاض العملة في زيادة قيمة الصادرات؟ أم نحافظ على أسعار الفائدة لكبح جماح التضخم، ونتحمل مزيدًا من تأجيل القطاع الصناعي لأي خطط في التوسعات وتضرر البعض منها أكثر بشبح الإغلاق وتوقف الإنتاج مع نتائج حتمية برفع تكلفة السلع وتمريرها للمستهلك، وزيادة في مستويات البطالة، في مقابل توفير جاذبية للأموال الساخنة للاستثمار في أدوات الدين المصرية لتوفير السيولة الأجنبية من الدولار واستيراد السلع ومستلزمات الإنتاج؟

الاختيارات على استقامتها مرة للغاية، وما شاهدناه من استغاثات قطاع الصناعة تحديدًا من تهديد مبادرة تمويل الصناعة ذات سعر الـ8% هم محقون فيها تمامًا، وبالتأكيد أيضًا أن كافة التساؤلات التي نطرحها هي على طاولة مناقشات الحكومة والبنك المركزي وكافة المؤسسات المعنية، لاسيما وأنها تتعلق بتوجهات رئيسية في السياسات المالية والنقدية، ستؤثر حتمًا على التوازن الاقتصادي العام.

ولكن هذه التحديات التي يضعنا أمامها صندوق النقد الدولي، قد تتيح بعض الفرص والدوافع لاتخاذ إجراءات هامة تتعلق بإعادة النظر في تسعير الأراضي الصناعية وتكلفة الرسوم والضرائب التي يتحملها المنتجين الصناعيين تحديدًا الذين تعول عليهم الدولة والحكومة لزيادة إنتاجهم ورفع حجم الصادرات والإحلال محل الواردات، فضلًا عن ضرورة إعادة تفعيل مبادرة بنك التنمية الصناعية لتوفير تمويل الأنشطة الإنتاجية الصناعية للتوسع في زيادة الاستثمار والتوسع في الإنتاج.

قد تشهد الأسابيع المقبلة في شهر ديسمبر خطوات جديدة في سبيل إتمام الاتفاق مع صندوق النقد الدولي، يتنبأ البعض بحكم الخبرات الدولية السابقة مع صندوق النقد الدولي بحدوث تغيير في بعض بنود الإنفاق الاجتماعي وتحديدًا في برامج الدعم، لكن لا أحاديث رسمية حتى الآن عن خطوات في هذا الاتجاه خاصة مع موجات ارتفاع الأسعار التي يعاني منها المواطنون بشدة، لكن ما يطرح نفسه بشدة هو ضرورة التفكير في حجم وأوجه الإنفاق العام الاستثماري والسعي لترشيده وضبط حجمه ومراجعة أولوياته في ظل التحديات الراهنة، وتقليل الحاجة للأموال الساخنة في تدبير النفقات الدولارية، وكيفية الارتقاء بظروف الإنتاج الصناعي في وجود الصعوبات الحالية، باعتباره طوق النجاة أمام هذه الدائرة القاسية من التضخم والاقتراض واضطرابات الاقتصاد العالمي المنتقلة إلينا.