كان يكبُرني بعشرة أعوام وأكبُر أنا نجله “فادي” بما لا يقل عن عشرين عامًا، وكنا جميعًا أصدقاء. من جيل المنتصف أنا، ذلك الجيل الحائر بين جيلين من مناضلي الحركة الوطنية المصرية في العصر الحديث؛ جيل أمين إسكندر في العشرية السابعة من القرن العشرين، وجيل فادي إسكندر في العشرية الأولى من هذا القرن.
كنت في نهايات القرن الماضي أعيش خارج مصر، وكنت أتلقف كتابات الرجل ومُجايليه الكبار كالأستاذ حمدين صباحي والأستاذ عبد الله السناوي والأستاذ محمد حماد والأستاذ جمال فهمي في “العربي” ثم في “الكرامة” بشغفٍ لا يضاهيه شغف، كمن ينتظر خطابات محبوبته التي حال التنائي بديلًا عن تدانيها، وإن لم يَنُب التجافي عن طيب لُقياها. على وقع كلماتهم التي كان مدادها يقطر هُيامًا ووَلهًا. وكيف لا وهو “أمين الأمة” التي إن كان المرحوم الأستاذ عبد الغفار شكر هو قطب يسارها الكبير، فأمين إسكندر هو مؤرخ ناصريتها الأثير.
كان الرجل أمينًا بكل ما تحتويه الكلمة من معانٍ، باحثًا مُلتزِمًا لا يحكمه سوى المنطق وقول الحق في سرد أحداثٍ كانت أسرارها خافيةً عنا وفي تحليلها والتعليق عليها بصرامة عقل الباحث وبرهافة قلب العاشق بما لا يخالف ضميره، وما يعتقد فيه وهي مهمة تكاد أن تكون مستحيلة إلا على من أتاهم الله الحكمة على شاكلة الرجل العظيم، حيث لا ينزلق الفؤاد إلى الهوى ولا يذهب المنهج بصاحبه إلى جمود المشاعر الإنسانية.
كان من أهم ما قرأت “للأمين” كتابين هما “نقد التجربة الناصرية – رؤى من الداخل” و”التنظيم السري لجمال عبد الناصر”، وهما وثيقتان لا يجوز أن تخلو منهما مكتبة باحث جاد في الحركة الوطنية المصرية أيًا كان توجهه الفكري وتخصصه العلمي.
أتذكر وهو القطب العروبي الناصري الكبير أن حبه للرئيس الراحل جمال عبد الناصر لم يقف حائلًا في سبيل قَولِه للحق يوم قام بعض الشباب بالهجوم على صديقتنا السيدة الفاضلة ليلى صديق لغضبها مما حدث من حكومة ثورة 1952 مع والدها البطل المرحوم يوسف صديق صاحب الفضل الأساسي في نجاح الثورة.
تحدثت إليه كثيرًا بقدرٍ من الأسى والعتب -الذي لا يستحقه هو- وكان ينصت في جدية ولما انتهيت ابتسم وقال لي بصوته النحاسي الطيب “ما هي أكيد لازم تزعل. أمال عاوزينها تكون مبسوطة بعد اللي حصل مع أبوها؟”.
لا أنسى يوم زفاف “فادي” الذي أقيم بحديقة الأزهر في ليلة من ليالي أكتوبر الحارة منذ نحو خمس سنين كيف رقص “الأمين” كغزالٍ أو كفراشة مع “أم فادي” على نغمات هادئة من ألحان زمننا العتيق فالتزم الجمع الصمت في حضرة المُحبين. كان الفَرَح ليلتها عميمًا وكانت ثمرته “فَرَحٌ” ملأت حياة جدها بهجة إلى أن غادرها بالأمس إلى معية المسيح الذي هو دون شك، أفضل جدًا. رحم الله “أمين الأمة” الذي نحن جميعًا على فراقه لمحزونون.