يعاني آلاف العمال المصريين من آثار سياسات بيع وتصفية شركات القطاع العام، التي تتبعها الدولة منذ السبعينيات في وقت لم يكن نمو القطاع الخاص كافيا لاستيعاب الأيدي العاملة التي تم تسريحها. لتصبح الخيارات المتاحة أمامهم إما العمل في مجالات غير إنتاجية، بينما اتجه عدد كبير منهم إلى العمل كـ”سائقي توك توك”، كما يقول إسلام وجيه أحد العمال المسرحين مؤخرا من الشركة المصرية للملاحة، التي قررت الدولة تصفيتها.
اقرأ أيضا.. “تصفية من أجل التطوير” حجة القاهرة للزيوت والصابون للإطاحة بالعمال
تشهد مصر في الآونة الأخيرة تغيرات كبيرة في السياسات الاقتصادية، مست بنية القطاع الإنتاجي بشكل عام، وأثرت على العمالة بشكل خاص، في ظل تسارع وتيرة برنامج الإصلاح الاقتصادي، الذي تنتهجه الدولة بداية من عام 2014. بالإضافة إلى سياسات الاقتراض من صندوق النقد والبنك الدولي، ما أدى لما يمكن أن نطلق عليه “نزيف العمالة المصرية المدربة”.
برنامج الإصلاح الاقتصادي تضمن مجموعة من السياسات وأدوات تحرير الاقتصاد، منها الخصخصة والتصفية، التي تركت آثارها على العمال، بسبب تخفيض أعدادهم ضمن إعادة هيكلة الشركات العامة ما وسع من دائرة البطالة. وخسارة العمال لمظلة التأمين الاجتماعي والصحي، إضافة إلى خسارة القطاع الصناعي عمال مهرة في قطاعات صناعية مهمة.
ومن ناحية أخرى، فإن تجارب التصفية التي حدثت مؤخرا، حملت الكثير من النتائج السلبية بسبب عدم التخطيط والتردد الحكومي في اتخاذ قرارات البيع أو التصفية من البداية. إذ تأخذ الحكومة قرارا بالبيع تارة، قبل أن تتراجع وتعلن دراسة ملفات تطوير الشركات تارة أخرى. وبين الحالتين، يعيش آلاف العمال بين مشاعر خوف وعدم أمان وظيفي وقلق من المستقبل، وإلى جانبهم ربما ملايين من أسرهم . يضاف إلى ذلك افتقادهم بدائل وفرص في سوق العمل. غير ذلك فقدت القطاعات الصناعية عمالا مصريين مدربين في تخصصات عدة.
وقائع التصفية
وتحت حجة عدم الجدوى الاقتصادية وتآكل رأس المال، قررت الدولة تصفية شركات قطاع الأعمال مثل القومية للأسمنت والملاحة المصرية والحديد والصلب في حلوان. قبل أن تنضم إليهم شركة الكوك المصرية لتترك هذه الشركات المصفاة خلفها آلاف العمال دون عمل أو مظلة تأمينية. ورغم أن الدولة دائما ترفع شعار “الحفاظ على حقوق العمال”، إلا أن الأمر يظل مجرد شعار دون تنفيذ، ليبقى “إهدار حقوق العمال” الشكوى المستمرة بعد تصفية أي شركة عامة. كما أن الأمر يمثل هاجسا يصيب العمال بحالة من الفزع والخوف، وهو شعور بدأ يؤرق عمال شركات أخرى خوفا من اللحاق بركب البطالة.
وعود التطوير تنهار
“الرئيس السيسي رفع شعار لا بيع.. لا تصفية.. لا خصخصة” بهذه الكلمات استهل رئيس النقابة العامة للصناعات المعدنية و الهندسية، المهندس خالد الفقي مؤتمره الصحفي، لعرض رؤية النقابة العامة للنهوض بشركة الحديد والصلب في حلوان في ديسمبر/كانون أول 2019 قبل تصفيتها. كما نوه إلى توصية الرئيس عبد الفتاح السيسي بضرورة تطوير الشركة.
ورغم إعلان وزير قطاع الأعمال الأسبق الدكتور أشرف الشرقاوي، إعطاء تطوير شركة الحديد والصلب أولوية لعمل الوزارة، وفتح الباب فعليا أمام عروض روسية و أوكرانية لتطوير الشركة، إلا أن القصة انتهت بصدور قرار التصفية.
لا تختلف شركة الكوك المصرية التي تمت تصفيتها مؤخرا عن حال الحديد والصلب، فبعد تولي وزير قطاع الأعمال الحالي الدكتور محمود عصمت، استهل عمله بتعهد يشمل دراسة ملف تطوير الشركة. الأمر أكده الدكتور إيهاب رمزي، عضو مجلس النواب، لكن في سبتمبر/أيلول الماضي أعلن رسميا تصفية الشركة، وهو ما جرى أيضا مع شركتي الملاحة المصرية والقومية للأسمنت.
يقول إبراهيم عادل عضو نقابة شركة الكوك، إن عدد العمال الذين تم تسريحهم يقارب 1200، منهم 200 تحت السن، و500 شاب. كما أضاف أن الشباب منهم يطالبون بالانتقال للشركات التابعة للشركة القابضة الكيماوية أو المعدنية في أية محافظة كانت، مقابل عدم التنازل عن التعويض المقرر تسلمه عند قضاء الـ20 عام عمل. وأكد أنهم يطالبون بذلك لتوفير فرصة عمل آمنة، وحال عدم نقل الشباب لشركات أخرى فإنهم يطالبون بتعويضات مجزية عن فترة عملهم في الشركة.
ويضيف “عادل” أن هناك فئة كبيرة بين فئات العمال المتضررة، مستوى تضررها أكبر وهي العمالة اليومية التي تعمل بدون عقود تحميهم عند بيع أو تصفية الشركة. إذ أنهم يعملون لسنوات على أمل التعيين بالشركة لكن مصيرهم في النهاية كان التصفية.
آثار التسريح النفسية
يتعرض العمال المسرحون لاضطرابات نفسية جراء الانتقال من نمط حياة اعتادوا عليه مرتبط بمواعيد العمل والانتظام فيه بشركاتهم إلى نمط حياة آخر مرتبط أكثر بالعمل الموسمي. ويحمل العامل مشاعر عدم الأمان الوظيفي ما يؤثر عليه نفسيا. يقول محمد عبد الرحمن، الباحث في علم النفس بجامعة القاهرة، لـ”مصر 360″: “يتعرض العامل إلى اضطرابات في السلوك، منها الاضطراب العصبي الحاد وسرعة الغضب، وانطفاء الغضب المفاجئ”.
يضيف “عبد الرحمن” أن العامل يصاب غالبا بأعراض مزاجية حادة، والتنقل المفاجئ بين شعورين متناقضين كالضحك والبكاء مجتمعين، والإصابة بالاكتئاب. كما يمكن أن يصاب العامل بالخرف وهو تدهور حاد في الذاكرة والقدرة على أداء الأنشطة اليومية.
البحث عن الحقوق
ورغم تأكيد الدولة ممثلة في رئيس الوزراء ووزير قطاع الأعمال العام ووزير القوى العاملة، حرصها على صرف التعويضات اللائقة لعمال الشركات التي تم تصفيتها، إلا أن العمال يخوضون رحلة شاقة للحصول على التعويض والمستحقات، منهم من نجح ومنهم مازال يكافح من أجل مستحقاته.
على سبيل المثال قضى عمال الحديد والصلب وهي حالة واحدة ضمن حالات التصفية، 6 أشهر كاملة من المفاوضات لصرف مستحقاتهم، وبعدها قضوا نصف عام من الترقب والانتظار في ظل تعثر توفير تكاليف المعيشة التي تزداد أسعارها كل يوم تقريبا.
ويعاني العمال الشباب فعليا بدرجة أكبر، خاصة من ليس لهم حق في الحصول على بدل معاش، غير أن المستحقات التي سيتحصلون عليها بما يعادل سنوات عملهم بالشركة لا تمثل قيمة تعويض كبيرة ماليا، وفقا لما طرحته الوزارة، مما يضعهم في مرمى شبح البطالة وهم غالبا في فئة عمرية يتحملون فيها مسئوليات عائلية.
يعاني عمال شركة الملاحة المسرحون بسبب تغير بنود الاتفاقية التي توصلوا إليها مع وزارة قطاع الأعمال بعد تفاوض لمدة عامين. حيث قلصت الوزارة المبلغ المتفق عليه كتعويضات. ومؤخرا وبعد استمرار عملية التفاوض، كانت النتيجة رفعها بحد أدنى 100 ألف جنيه، وحد أقصى 450 ألف جنيه، ولكن لم تنفذ تلك البنود حتى الآن.
غياب الحماية الاجتماعية
يواجه أغلب عمال الشركات التي تمت تصفيتها، غياب الحماية الاجتماعية التي كانوا يستظلون بها، فقد وضع قانون التأمينات الاجتماعية الجديد شروطًا أكثر صعوبة للخروج على المعاش المبكر لضمان أن يكون صاحب المعاش قادرا على إثبات المدة التأمينية المطلوبة، وأن يكون معاشه مساويا للحد الأدنى للمعاش.
وتضمنت الشروط أنه لن يسمح بخروج العامل على المعاش المبكر في حال عدم توافر مدة اشتراك تأميني لا تقل عن 20 عاما، وهذه المدة سترتفع إلى 25 عاما بعد 5 سنوات من تطبيق القانون الجديد.
وأمام هذه المشكلة اقترحت وزارة قطاع الأعمال أن يحصل العمال ممن هم فوق سن الـ45 عامًا والذين تمتعوا بنحو 20 عامًا من الاشتراك التأميني، على بدل معاش “بديلا للمعاش المبكر” على أن تواصل الشركة دفع الأقساط التأمينية لهم، حتى يحل موعد بلوغهم سن المعاش القانوني عند 60 عامًا.
وقدرت الوزارة في مقترحها، أن يكون بديل المعاش نحو 900 جنيه للفرد، بخلاف قيمة القسط التأميني الذي تدفعه الشركة، حتى يصل العامل لسن المعاش الرسمي، ربما بعد عامين أو خمسة.
ويبدو هذا المقترح مرضيا لأصحاب الأعمار المرتفعة، لكن المعضلة التي تواجه التسوية، تخص نحو 3 آلاف عامل لم يكملوا الـ20 عاما عمل في الشركة. إذ لن يحصلوا على هذه الميزة، فكما أكد إبراهيم عادل عضو نقابة شركة الكوك لـ”مصر 360″ أن أغلب الشباب التحقوا بالشركة في عام 2010، وبالتالي لن يتمكنوا من الحصول على معاش، لأنه يجب قضاء مدة 25 سنة خدمة، لذا يصبح وجود معاش استثنائي أمر واجب وإلزامي.
الحرمان من التأمين
يقول سعيد زيدي العامل بذات الشركة ” كانت لدينا عيادة طبية بنكشف فيها و بنصرف العلاج وعند التصفية قفلوها فاضطرينا إلى مقابلة المصفي لطلب استمرار عمل العيادة و صرف الأدوية خصوصا للأمراض المزمنة و فعلا استجاب المصفي وأمر باستمرار عمل العيادة حتى انتهاء مهلة التصفية”.
يضيف سعيد:” بعد انتهاء التصفية توقف عمل العيادة، ومش عارفين نعمل ايه مع الأمراض المزمنة مع حالة غلاء أسعار الأدوية”. ويقول إسلام وجيه أحد عمال شركة الملاحة أنه بعد التصفية، هناك الكثير من العمال المسرحين يعانون من أمراض مزمنة تحتاج إلى رعاية ومصروفات علاجية كبيرة و قد حرموا من التأمين الصحي على مستوى العلاج والحصول على الأدوية التي كانت تُصرف لهم.
خسارة عمالة مدربة
الأسئلة التي تدور في ذهن آلاف العمال حاليا ماذا بعد التصفية؟ ماذا سيعملون؟ هل سيجدون فرص عمل بديلة تتماشى مع خبراتهم ومهاراتهم؟ يقول إسلام وجيه، عامل الشركة المصرية للملاحة، لـ”مصر 360″ : “معظم العمال يواجهون مشكلة كبيرة حيث إنهم مضطرون للعمل في قطاعات لا تشملهم بالتأمين الاجتماعي”. كذلك يضيف: “أنه رغم التصفية فإن العمال لم يتسلموا استمارة 6 التي يحتاجونها للتقديم في فرص عمل أخرى حتى الآن، وبالتالي فالخيارات المطروحة أمامهم لا تتعدى فرص في مجال الخدمات، للبيع في المحلات أو سواقة توكتوك”.
كذلك يضيف: “بعد صرف التعويضات وتفكير بعض العمل في إقامة مشروعات صغيرة لاستثمار المبلغ الذي حصلوا عليه، جاء قانون المحال التجارية كتحد لهم بما يحمله من شروط صعبة. فوقع العمال بين مطرقة سوق عمل بلا فرص حقيقية، وسندان العمل الحر بشروط قانون جديد قد يبدد ما تحصلوا عليه من تعويضات”.
يقول محمد أحمد، كان أحد عمال الحديد والصلب لـ”مصر 360″: “اضطررت إلى شراء بضاعة من الملابس الجاهزة، وبعمل إعلانات على الإنترنت لبيعها ويا دوب بتكفي مصاريف البيت”.