استطاع الجنيه المصري الوصول لمرحلة توازن سريع مع انخفاض وتيرة الهبوط بعد قرار التعويم الذي أصدره البنك المركزي في نوفمبر 2016، لكنه فشل في خلق حالة التوازن هذه مع قرار التعويم الأخير الذي تم بنهاية أكتوبر/تشرين الأول الماضي، حتى وصل لأدنى مستوياته مقتربا من 25 جنيها للدولار الواحد.
هبط الجنيه إلى مستوى 24.50 جنيه للشراء، و24.60 للبيع، في ختام تعاملات أمس الأربعاء، مقابل 19.67 جنيه للشراء، و19.75 جنيه للبيع قبل قرارات الخميس 27 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، التي تضمنت رفع سعر الفائدة 2%، وتحديد سعر صرف مرن وفق العرض والطلب.
اقرأ أيضا.. هل تنجح “شركة استثمارات المصريين بالخارج” المقترحة في زيادة التحويلات؟
عدم الاستقرار في العملة حتى الآن، دفع بنك نومورا الياباني، لاعتبار مصر الدولة الأكثر عرضة لأزمة عملة بين الأسواق الناشئة خلال الـ 12 شهرا مقبلة، وفقا لنموذج الإنذار المبكر الخاص بالبنك لأزمات أسعار الصرف في الأسواق الناشئة “داموكليس”.
في مذكرة البنك، تجاوز الجنيه المصري مستوى الخطر (يتم تحديده حينما تتجاوز الدولة مستوى 100 درجة)، بعد وصوله إلى 164 درجة على مؤشر “داموكليس” الذي ابتكره البنك ويعتمد على 6 مؤشرات تتضمن احتياطيات النقد الأجنبي، وحجم الديون الخارجية قصيرة الأجل ونسبتها إلى الصادرات، وقدرة الاحتياطي على مواجهة الديون قصيرة الأجل، ومعدل التغير في الاستثمار الأجنبي المباشر، وغيرها.
الجنيه يعاني
بحسب اقتصاديين، فإن الجنيه لا يزال يعاني من تبعات قرارات 27 أكتوبر/تشرين الأول الماضي وأزمات الاستيراد التي لا تزال تخلق طلبا كبيرا على العملة الأجنبية أعلى من المعروض، خاصة مع حلحلة البنك المركزي الاستيراد حاليًا، والإلغاء الجزئي للاعتمادات المستندية.
بوصول الدولار حاليًا لمستوى 24.50 جنيه، بات قريبًا من المستوى الذي حددته وكالات دولية كمؤسسة “بلومبرج إيكونوميكس” التي قالت قبل أسابيع، إن سعر الصرف المناسب للعملة المحلية المصرية مقابل الدولار عند 24.6 جنيه، حتى يصل العجز التجاري إلى مستوى معقول.
في تعويم 2016، أكدت مؤسسات عالمية أن الجنيه المصري حينها كان مغالى في تقديره، ودار جدل حول تلك النقطة بين صندوق النقد الدولي وطارق عامر محافظ البنك المركزي السابق الذي قيل وقتها إنه كان يرفض تخفيض الجنيه أكثر من مستوى 20 جنيهًا.
لكن نومورا الياباني قال إن مصر عُرضة لأزمة في سعر الصرف في الأشهر الـ12 المقبلة بنسبة 64% خلال النموذج الذي تم اختباره في 61 مرة، لعينة مكونة من 32 دولة، تعود بياناتها إلى 26 عامًا.
تؤكد المجموعة الاقتصادية والمشكلة من وزارتي التخطيط والمالية المصريتين، في خطابها، أن انخفاض الجنيه أمر ضروري للاقتصاد من ناحية تشجيع التصدير للخارج ومنح الصادرات المصرية تنافسية أعلى في أسواق التصدير، علاوة على جذب استثمارات خارجية في ظل تخوف المستثمرين من الدخول لسوق عملتها مقومة بأعلى من قيمتها الحقيقية.
أسعار الغذاء
الخطاب الحكومي، رغم دعمه من قبل قطاع عريض من الاقتصاديين، يختلف تماما عما يشعر به الشارع، فلا يزال المواطنون يستعيدون ذكريات الماضي، وقيمة الجنيه الشرائية حينما كانت مقومة بالذهب وتملك قوة شرائية عريضة.
يقول محمود إسماعيل، سائق من الغربية، إن الحسبة بالنسبة له ليست في سعر صرف الجنيه ولكن في قيمته الشرائية، فأقل فئة لها قدرة شرائية حاليًا هي العشرين جنيهًا، التي أصبحت تعادل ما قيمته 3 ساندوتشات فول حاليًا وكوب شاي، بحسب ما قال.
لا يعتد المواطنون كثيرًا بفكرة تشجيع الصادرات كمحمد علي، مندوب مبيعات يعمل في شركة للشحن، إذ يقول إن عمله في مجال توصيل البضائع المطلوبة عبر الإنترنت كشف له أن مصر تحتاج إلى صناعة أولا لتغطية متطلبات السوق الداخلي قبل أن تفكر في التصدير.
يضيف “علي” الذي يشكو حاليًا انخفاض دخله بسبب ارتفاع ما ينفقه على المواصلات وعدم رغبة رئيسه في رفع أجر التوصيل حتى لا يخسر أمام الشركات المنافسة: “كل البضائع التي أوصلها مستوردة من الصين وتركيا.. حتى العطور والملابس”.
بحسب نومورا الياباني، فإن عملات الأسواق الناشئة تواجه ضغوطا كبيرة، ففي الوقت الذي تحاول فيه التعافي مما سببته جائحة كورونا، واجهت مشكلات ارتفاع التضخم، وأسعار الفائدة الحقيقية السلبية، والحيز المالي المحدود، وضعف ميزان المدفوعات، وتراجع احتياطيات العملات الأجنبية.
قرض الصندوق
يقول نادي عزام، الخبير الاقتصادي، إن وصول قرض صندوق النقد الدولي، سيمثل بداية استقرار سعر صرف الدولار أمام الجنيه. مضيفا أن ما يحدث حاليا، هو نوع من المضاربة يحدث في كل فترة تعويم، ولن ينتهي إلا بتعزيز موارد البلاد الدولارية.
تعاني مصر من أزمة دولارية، رغم تأكيد وزير المالية محمد معيط، في بيان له الثلاثاء الماضي وصول إيرادات قناة السويس لمستوى قياسي جديد بنهاية يونيو/حزيران 2022 بنحو 7 مليارات دولار، بجانب ارتفاع تحويلات العاملين بالخارج إلى 32 مليار دولار خلال 2021/2022، وكذلك وصول عائدات السياحة إلى10.7 مليار دولار بنهاية يونيو/حزيران 2022، مقارنة بـ 4.9 مليار دولار في العام المالي 2020/2021، رغم فقدان 35% من المدخلات المتوقعة للسياحة نتيجة لغياب السياح الوافدين من روسيا وأوكرانيا بسبب الحرب.
مبادرات حكومية
يضيف “عزام” أن الحكومة تعمل على تعزيز مواردها الدولارية، حاليا، عبر مبادرات مثل مبادرة سيارات المصريين بالخارج التي تتوقع أن تمهد لاستيراد بين 300 و500 ألف سيارة خلال مهلة الأربعة أشهر المقبلة، بحصيلة قد تصل إلى 2.5 مليار دولار بجانب إطلاق صندوق استثماري للمصريين بالخارج، يتضمن مشاركة المصريين بالخارج في استثمارات صحية وتعليمية.
لا يزال الجنيه يعاني من تبعات خروج الأموال الساخنة التي أعقبت سلسلة رفع الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي “البنك المركزي” أسعار الفائدة، والتي بلغت حتى الآن 22 مليار دولار. وبحسب “عزام” يصعب تعويضها بسرعة في ظل استمرار البنوك المركزية حول العالم في تشديد السياسة النقدية التي تجذب المضاربين في الأموال الساخنة.
الدكتور محمود أبو العيون، أستاذ الاقتصاد بجامعة الزقازيق ومحافظ البنك المركزي الأسبق، قال إن الاعتماد الخاطئ على رؤوس الأموال الساخنة يجب أن يتوقف، إذ تم الاعتماد على تدفقات تلك الأموال بشكل خاطئ في مساندة سوق الصرف الأجنبي، ورفع سعر صرف الجنيه مقابل العملات الأخرى بعد تخفيضه إداريًا في نوفمبر/تشرين ثاني 2016، ثم تثبيته المفتعل عند مستوى 15.6 للدولار، لمدة تجاوزت العام، رغم العلم الكامل بأوضاع النقد الأجنبي بالبنوك المصرية، ورغم أن قيم ميزان العمليات الجارية ظلت سالبة بسبب زيادة المدفوعات عن الواردات السلعية والخدمية والتحويلات عن حصيلة الصادرات.
السوق السوداء
يقول عبد الفتاح الجبالي، الخبير الاقتصادي، إن السوق السوداء تشهد اتساعًا متناميًا للمعاملات غير المشروعة بالسوق السوداء التي تتضمن أسعارًا تفوق الجهاز المصرفي، وهو أمر خطير لأن نمو تلك المعاملات بصورة متزايدة يساعد على تهريب رؤوس الأموال من جهة وتناقص متحصلات البلاد من العملات الأجنبية من جهة أخرى، وازدياد الطلب على العملة بغرض المضاربة وليس لأغراض التعامل التجاري العادي، وتوظيف جانب كبير من مدخرات العملات الأجنبية في عمليات المضاربة بالسوق السوداء.
كما أضاف أن تلك المضاربات تخلق آثارًا على حساب المعاملات الرأسمالية وتزيد الشعور بالقلق وتدفع رأس المال إلى الهروب خاصة في ضوء التخوف من تخفيضات جديدة للعملة، ما دفع الحكومة لإعلان الإجراءات الجديدة المتمثلة في تحرير التعامل بالنقد الأجنبي شراءً وبيعًا في إطار السوق الحرة الذي يضبط السوق بإعادة التنظيم والانضباط للأوضاع داخل السوق ليحكمه العرض والطلب.
وعقد حسن عبد الله محافظ البنك المركزي اجتماعًا مع رؤساء البنوك، قبل ساعات، تضمن قرارات من شأنها ضبط سعر صرف العملة، بمنحها مرونة أكبر لقبول الإيداعات الدولارية من خارج القطاع المصرفي، بجانب منح شركات السياحة تمويلات بالعملة الأجنبية، لتشجيعها على إيداع حصيلتها بالعملات الأجنبية بالبنوك.
ارتفاع كبير للدولار
بحسب قناة العربية، تخطت أسعار الدولار الـ28 جنيها بالسوق الموازية بمصر، بعد أن استقرت في الأسبوع الأول من نوفمبر/تشرين الثاني، وتداول حينها بفارق ضئيل عن السعر الرسمي يتراوح بين خمسة وعشرة قروش مصرية.
الدكتور مصطفي بدرة، أستاذ الاقتصاد والاستثمار، يتوقع ارتفاع الدولار خلال الفترة المقبلة بسبب ارتفاع فاتورة الواردات وتراجع حجم الاحتياطي النقد الأجنبي، ما يقلص من خيارات البنك المركزي لاستخدام العملة في دعم سعر الصرف.
بلغت احتياطيات مصر من النقد الأجنبي إلى 33.411 مليار دولار في أكتوبر ليفقد نحو 7.5 مليار خلال العشرة أشهر الأولى من العام الحالي، بينما أكد مصطفى مدبولي، رئيس الوزراء، في لقاء مع حسن عبد الله محافظ البنك المركزي، الأحد الماضي، أن العمل على زيادة الاحتياطي يحتل أولوية قصوى لدى كل من الحكومة والبنك المركزي.
يضيف بدرة أن مصادر العملة الصعبة في مصر مجتمعة “قناة السويس والسياحة والتصدير والاستثمارات الوافدة وتحويلات المصريين في الخارج” لا تغطي الطلب خاصة الاستيراد ما يعني ارتفاع الطلب أعلى من العرض، وهو ما رفع سعر الدولار في السوق السوداء أعلى بكثير عن مستوى السعر الرسمي.