حين خرجت الرسوم المسيئة للرسول الكريم في الدانمارك وفرنسا ثم عدد من البلاد الأوروبية كانت الحجة الغربية أن هذه ثقافتنا وهذه هي منظومة قيمنا التي تسمح بالهجوم على كل الأديان والسخرية منها تحت شعار حرية الرأي والتعبير، وطالبت الجميع باحترام الخبرات الاجتماعية والثقافية للبلدان الأخرى، وحين رفضت المجتمعات العربية والإسلامية دعم المثلية الجنسية ورفضت قطر “كرنفال” شارات المثلية في الملاعب والشوارع، وطالبت بضرورة احترام الخصوصية الثقافية والحضارية لمجتمعها العربي كما سبق وطالبت كثير من الدول الغربية العالمين العربي والإسلامي فيما يتعلق بالرسوم المسيئة، فتح الباب للهجوم والاستعلاء الغربي وشنت حملة شرسة على قطر وعلى منظومة القيم التي ترفض دعم المثلية.

اقرأ أيضا.. سؤال الهوية في كأس العالم

ورغم أن قطر لم تطالب بترحيلهم من بلادها ولم تلق القبض عليهم ولم تعلن تفتيش كل غرفة فندق لكي تعرف ما إذا كان من يسكونها مثليين أم لا، إنما رفضت مثل تيار واسع في الغرب، وأغلب الشرق حضورها في المجال العام (وليس الخاص) كخيار طبيعي يجب حمايته بل وفي أحيان كثيرة تشجيعه.

والمؤكد أن مسألة احترام الخصوصية الثقافية والحضارية للمجتمعات المختلفة أمر يجب التوافق عليه وتأكيده طالما لم تتعارض مع قيم إنسانية عالمية هي محل توافق من كل المجتمعات والثقافات، فلا مكان للعنصرية وانتهاك حقوق الإنسان والتحريض على العنف تحت مسمى الخصوصية، ولكن هناك مكان لرفض حضور شعارات المثليّة الجنسية في المجال العالم ورفض الزواج بين الرجال أو بين النساء أو تبني الأطفال، فهنا تدخل السياقات الثقافية الخاصة لكل مجتمع والتي يجب احترامها طالما لم تطالب بالتنكيل بهم إنما هي ترفض خطف المجال العام لصالح شعاراتهم وتتوافق على مقولة عربية شهيرة تقول: “إذا بليتم فاستتروا”.

والمؤكد أن تجربة إقامة كأس العالم في بلد عربي كشفت عن مساحة كبيرة من التباين الثقافي والحضاري بين المجتمعات العربية ونظيرتها الغربية، وبدا ازدواج المعايير واضحا بين المبررات التي قدمتها أوروبا بخصوص اعتبار الرسوم المسيئة للرسول الكريم حرية رأي وتعبير، واضطر معها كثير من العقلاء في العالم العربي أن يعتبر الأمر جزء من ثقافة مجتمع مختلف بشرط ألا تفرض علينا. بالمقابل فقد طالب غالبية العرب بعدم حضور شارات دعم المثلية في المجال العام ولم يمس كثيرون حقهم في الحياة بالطريقة التي يريدوها ولكن الرفض ظل في قبول المجتمع ومنظومة القيم السائدة في التطبيع مع اختياراتهم وقبول الزواج وتبني أطفال وهو أمر لازال مرفوضا لدى تيار واسع في الغرب ومدهش أن البعض يريد أن يفرضه كنمط ثقافي وسلوكي وحيد للعالم كله شرقا وغربا.

اللاعب السنغالي إدريسا جاي

ويكفي هنا التذكير بقصة اللاعب السنغالي “إدريسا جاي” الذي استدعاه الاتحاد الفرنسي لكرة القدم، لمساءلته بشأن سبب غيابه عن أحد مباريات الدوري الفرنسي وكان السبب في الحقيقة معروفا وهو رفضه ارتداء قميص كتب فيه رقمه بلون علم المثلية، كنوع من التضامن معهم. وقد شن كثيرين في أوروبا هجوما حادا على اللاعب وطالب البعض بطرده من النادي لأنه “يتلقى أجرا لا يستحقه”، في المقابل تضامن معه كثيرون في العالمين العربي والإسلامي دعما له، وأعتبره بعضهم إنه لاعب مسلم يجب التضامن معه في حين أن المطلوب التضامن معه على أساس قيمة حرية الرأي والاعتقاد، فالرجل لم يحرض ضد المثلية ولم يطالب بحبسهم كما تنص قوانين بلاده السنغال، إنما احترم قواعد المجتمع الذي يعيش فيه وكان نموذجا للأخلاق والالتزام الرياضي فلا يجب أن تفرض عليه وفق بديهيات مبادئ حقوق الإنسان، أن يتخذ موقف عكس قناعته الدينية أو الأخلاقية أو حتى الشخصية.

أما نظرية إنه لا يوجد قيود على حرية الرأي والتعبير في الغرب بما يبرر الرسوم المسيئة للرسول باعتبارها حرية رأي فهو أمر نسبي، فأغلب الزعماء الأوربيون لم يتقبلوا الرسوم الفرنسية المسيئة وتصريح رئيس وزراء كندا حول أن حرية الرأي “ليست بلا حدود” لافت، وحتى فرنسا فالإهانة والازدراء والتحريض والكراهية والعداء للسامية والعنصرية كلها ممارسات لا تدخل تحت بند حرية الرأي والتعبير، ومع ذلك اعتبر التيار الغالب في الغرب أن الإساءة للرموز الدينية ضمن حرية الرأي والتعبير.

ومن هنا فإن النقاش العربي الغربي يجب أن ينطلق من احترام قيمتين أساسيتين الأولى عالمية تتعلق باحترام حقوق الإنسان، ورفض العنصرية والتمييز وخطاب الكراهية والتحريض، والثانية محلية تتعلق باحترام السياقات الثقافية والاجتماعية لكل مجتمع، والذي يفترض أن يطبق وفق سياقة الخاص هذه القيم الإنسانية العالمية، فيجب أن ننطلق من أننا لا نختلف على المبدأ العالمي والإنساني، ولكن الخلاف حول تجاهل السياقات الثقافية للمجتمعات المختلفة وخاصة العربية والنظر إليها على أنها أقل من غيرها أو أن أعتراضها على قبول نمط سلوكي هو ليس محل إجماع في الغرب، يجعلها في مصاف الدول البربرية والمتخلفة لمجرد أنها رفضت حضور شارات المثلية الجنسية في المجال العام في بلد ثقافته وقوانينه ترفض هذا السلوك، مثلما طالب تيار واسع في الغرب أن نحترم السياق الثقافي والسياسي والاجتماعي الغربي الذي يعتبر الهجوم على المقدسات الدينية جزء من حرية الرأي والتعبير.

لا يجب الاستمرار في الكيل بمكيالين وبالمعايير المزدوجة، إنما يحتاج العالم لمسطرة واحدة للقياس شرقا وغربا وشمالا وجنوبا.