يتذكر من لم يعودوا شبانا الآن أن منتخب يوغوسلافيا لكرة القدم تم منعه من المشاركة الرياضية في عدد من أهم البطولات الكروية في تسعينيات القرن الماضي، بسبب الحرب الأهلية في يوغوسلافيا، والفظائع التي ارتكبتها القوات الصربية، قبل أن يتم هزيمتها بالقصف الجوي الأمريكي بعد سنوات، كانت أبرز البطولات التي تم منع يوغوسلافيا من المشاركة فيها هي بطولة الأمم الأوروبية للعام 1992، وتم استدعاء فريق الدنمارك – من الإجازات والمقاهى كما قيل- ليشارك بدلا من اليوغوسلاف، وحققت الدنمارك المفاجأة الكبرى بالفوز بالبطولة، بالتغلب على ألمانيا في النهائي بهدفين مقابل صفر. بعد أن أخرجت إنجلترا وفرنسا في الدور الأول، وأخرجت هولندا في نصف النهائي بضربات الترجيح.
لم يكن منع يوغوسلافيا واستدعاء الدنمارك الحدث السياسي الوحيد في بطولة أوروبا 1992 التي شاركت فيها ثمانية منتخبات فقط، لقد كانت تلك مرحلة مفعمة بالتحولات الكبرى. فقد لعب الروس لأول مرة بعد تفكك الاتحاد السوفييتي، ورغم أنهم تأهلوا إلى البطولة باسم منتخب الاتحاد السوفييتي فقد لعبوا في البطولة نفسها تحت اسم “اتحاد الدول المستقلة”، وقد خرجوا من الدور الأول على أية حال، أما الألمان، فقد لعبوا لأول مرة متحدين منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، اندمج فريق “ألمانيا الشرقية” في منتخب “ألمانيا الغربية” ليلعبا تحت اسم “منتخب ألمانيا” الذي وصل -كعادته إلى النهائي قبل أن يخسر أمام الدنماركيين.
لم يُحرم منتخب يوغوسلافيا من المشاركة في تلك البطولة 92 فقط، فقد منع من المشاركة في تصفيات -وبالتالي نهائيات- بطولة الأمم التالية 1996 والتي فاز بها الألمان بالتغلب في النهائي على منتخب التشيك ومنعه من تكرار المفاجأة الدنماركية، كما تم منع اليوغوسلاف أيضا من المشاركة في مونديال 1994 الذي أقيم بين البطولتين في الولايات المتحدة الأمريكية، وغني عن الذكر أن اليوغوسلاف كانوا من أقوى فرق أوروبا في كرة القدم، وهم حتى اليوم لا يكفون عن إظهار قوتهم من خلال ورثتهم؛ منتخب كرواتيا وصيف المونديال السابق، ومنتخب صربيا القوي، بل حتى منتخب البوسنة والهرسك الذي استطاع التأهل إلى مونديال البرازيل 2014.
كانت تلك مجرد لمحة عن علاقة السياسة الرياضة (كرة القدم خصوصا) في القارة العجوز، وفي قارتنا السمراء نعرف أن مشاركة اتحاد الكرة الجنوب إفريقي في تأسيس الاتحاد الإفريقي لكرة القدم في خمسينيات القرن الماضي، لم تمنع استبعاده من المسابقات الإفريقية والدولية لعشرات السنين، بسبب سياسات الفصل العنصري “الأبارتهايد” التي حكمت دولة جنوب إفريقيا منذ 1948 إلى بداية تسعينيات القرن العشرين. ولنفس السبب منعت جنوب إفريقيا من المشاركة في دورات الألعاب الأولمبية منذ أولمبياد 1964 في طوكيو إلى أن تم السماح لها بالمشاركة في أولمبياد 1992 في برشلونة على خلفية انتهاء سياسات الفصل العنصري التي كانت تقسم السكان إلى مجموعات عرقية: البيض، الملونون، الآسيويون، السود. وكانت تضمن بالطبع الهيمنة السياسية والاقتصادية للأقلية البيضاء ذات الأصول الأوروبية.
وربما تعرف أجيال اليوم أن إسرائيل تلعب بطولاتها الرياضية في التصفيات الأوروبية، بعيدا عن موقعها الجغرافي في قارة آسيا، لكنها كانت عضوا في الاتحاد الآسيوي لكرة القدم عند تأسيسه عام 1954. ورغم ذلك فإنها لم تتمكن من المشاركة في التصفيات والبطولات الآسيوية بسبب حركات المقاطعة العربية والإسلامية، قبل أن تقود الكويت حركة طردها من الاتحاد الآسيوي لكرة القدم سنة 1974، بأغلبية 17 صوتا مقابل 13 صوتا وامتناع 6 دول عن التصويت. بعد سنوات التحقت إسرائيل كعضو منتسب بالاتحاد الأوروبي لكرة القدم “اليوفا” سنة 1992، ثم أصبحت عضوا كاملا في سنة 1994. على الرغم من أن تلك تبدو “ترقية”، إلا أن لعب فرق إسرائيل في التصفيات الأوروبية القوية -سواء على مستوى المنتخبات والأندية- جعلها دائما صاحبة الخروج تقريبا من كل المسابقات، في المقابل، تلعب الفرق الفلسطينية بشكل طبيعي مع قارتها الآسيوية (تأسس الاتحاد الفلسطيني لكرة القدم سنة 1928، لكنه لم ينضم إلى الاتحادين الآسيوي والدولي إلا عام 1998)، ولكن ظروف الاحتلال، والصعوبات السياسية واللوجيستية التي يواجهها اللاعبون الفلسطينيون، جعلت من الصعب على الفرق الفسطينية تحقيق إنجازات كبرى رغم إصرارها المثير للإعجاب على التواجد والمشاركة في كل محفل.
بالطبع، بالعودة إلى أوروبا، لسنا في حاجة إلى “التذكير” بأمر لا يزال قيد الحدوث، وهو تأثير الغزو الروسي لأوكرانيا على الرياضة، وعلى الرغم من أن ذلك الغزو لم يتسبب في منح أي معاملة تفضيلية للفرق الأوكرانية، إلا أنه بلا شك أضر بالرياضيين الروس، الذين استبعدوا تباعا من كل المسابقات الأوروبية خاصة والدولية عامة.
والغرض من استعراض كل ما سبق، قديمه وحديثه، وآخره كان تصرف أفراد المنتخب الإيراني لكرة القدم بعدم ترديد النشيد الوطني قبل أولى مبارياتهم في مونديال قطر احتجاجا على الأوضاع المضطربة في بلادهم، هو التذكير بأن السياسة لم تكن بعيدة يوما عن الرياضة، إذ طالما كان المساس بينهما قائما، ووصل في بعض الأحيان إلى مراحل دموية كالحرب الشهيرة (حرب المئة ساعة) التي اندلعت بين هندوراس والسلفادور إثر مباراتهما الفاصلة في تصفيات مونديال 1970، وراح ضحيتها آلاف الأرواح.
ولكن السؤال هنا، هل الإقرار بأن السياسة والرياضة لم يكونا بعيدان عن بعضهما يوما، يعني أننا نريد المزيد من تلك العلاقة بينهما؟ أم أننا نريد أن نفصلها؟ أين تكمن مصلحتنا في عالم اليوم؟
لقد استُفز الكثيرون، عن حق، بسبب التضامن الواسع من الاتحادات الرياضية الأوروبية والدولية مع الشعب الأوكراني، وقراراتها ضد الاتحادات الرياضية الروسية، في مقابل الخطاب الراسخ للاتحادات ذاتها عن ضرورة منع إظهار الانحيازات السياسية في الملاعب. ولكن هل شعورنا بالاستفزاز ينجم عن رغبتنا في أن نعلن انحيازاتنا أيضا، أم أننا نريد أن يتسق الغرب مع خطاب منع خلط الرياضة بالسياسة؟
إن الإجابة على تلك الأسئلة بحرص وتأن، مسألة مهمة، لأننا في أغلب الأحوال، نسكن موقع الطرف المستضعف في السياسة، طبقا لموازين القوى في العالم، وليس من المتوقع، إذا زاد خلط الرياضة والسياسة أن ننتقل إلى موقع الأقوى. إننا -أيضا- لا نريد أن نكون مجرد رد فعل، على فعل إيجابي أو على استفزاز. كما أن إبداء الرأي عبر فعالية رياضية، لا ينفصل عن القدرة على إبداء الرأي الحر في العموم، في حياتنا العامة، السياسية والاجتماعية، وإلا فإنه قد يفتقر -في نظر العالم- إلى القوة التي تميز الرأي المستقل.