لم تزل بعض وسائل الإعلام والوسائط الصحفية في جانب منها تمثل خطرا على بعض الأفراد، وأخص هنا المواطنين الذين يتم القبض عليهم، أو من هم في إحدى مراحل المحاكمة الجنائية، حيث يقوم البعض بالتعرض لحياتهم الخاصة بشيء يقل أو يكثر، لكنه يمثل اعتداء على حقهم في الخصوصية.

ويمثل الحق في الخصوصية  بشكل عام، وكذلك يعتبر من الحقوق الكاشفة لأوضاع الحقوق والحريات في المجتمع بوجه عام نظرًا إلى مدى تأثيره في وارتباطه بالعديد من الحقوق الأخرى، مثل: حرية التعبير والحق في التنظيم والتجمع السلمي، والحق في الوصول وتداول المعلومات.

وقد تجلى هذا الارتباط أخيرًا في ظل انتشار وباء كورونا وتأثر العديد من الحقوق والحريات نتيجة الطريقة التي تفاعلت بها الحكومات والشركات مع آثار الوباء وخطط مواجهته، وقد تناول الدستور المصري مفهوم الحق في الخصوصية في العديد من المواضع، حيث يستعرض الجوانب المُتعلقة، بخصوصية مُستخدمي وسائل الاتصال من جانب.

كما يتحدث أيضًا من خلال بعض النصوص المُتفرقة حول الضمانات المُتعلقة بالإجراءات الواجب اتباعاها أثناء تفتيش الأفراد والمنازل، وعلاقتها بحُرمة الحياة الخاصة وما يرتبط بذلك من ضوابط وإجراءات من جانب آخر، بالإضافة إلى وجود نص خاص يتعلق بُسبل التعويض والإنصاف عن الضرر المُترتب على الاعتداء على الحياة الخاصة. وقد خصص الدستور المصري الصادر عام 2014 نص المادة 57 منه لسرد صور حماية الحق في الخصوصية في مجال الاتصالات وتُعتبر الفقرة الأولى من هذا النص امتدادًا للمادة 45 من دستور مصر الدائم الصادر في عام 1971، والذي تم العمل به لمدة تقارب الأربعين عامًا.

ولكن جاء نص المادة 57 من الدستور المصري الصادر عام 2014 كنص جامع، يُشير إلى الارتباط العضوي بين حماية الحياة الخاصة وعلاقتها بحرية الاتصال، فتضمن نص المادة 57 من الدستور المصري، بالإضافة إلى صور حماية خصوصية المُستخدمين، الحق في استخدام وسائل الاتصال العامة، كما حدد الدستور الضوابط التي تتعلق بالاستثناءات الواردة على هذا الحق.

ولما كان وضع المتهمين يمثل خصوصية ذات ظرف خاص، إذن فإنه يجب أن تكون حماية واجبة لأوضاع المتهمين وحياتهم الخاصة بما يضمن عدم التعرض لها من قريب أو بعيد، ولا أن تكون حياتهم وشأنهم الخاص معرض للتناقل بين الوسائل والسبل الإعلامية أو الإخبارية، غير مراعين لما يمرون به من ظروف قد تكون حاجبة لمقدرتهم على الرد، ومن هنا يحضرني مقولة شائعة أننا شعب متدين بطبعه.

وهذه المقولة تصاغ على سبيل السخرية من تصرفاتنا التي تتنافى بشكل قاطع مع تعاليم الدين وحفاظه بشكل أساسي على أسرار الناس وسترهم، وعدم التعرض لحياتهم الخاصة، وربما أسوق ما جاء في الأثر عن سيدنا عمر بن الخطاب “أمير المؤمنين” أن إسحاق بن إبراهيم الدبري أنبأ عن عبد الرزاق أنبأ معمر عن الزهري عن زرارة بن مصعب بن عبد الرحمن بن عوف عن المسور بن مخرمة عن عبد الرحمن بن عوف: أنه حرس ليلة مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالمدينة فبينما هم يمشون شب لهم سراج في بيت فانطلقوا يؤمونه حتى إذا دنوا منه إذا باب مجاف على قوم لهم فيه أصوات مرتفعة فقال عمر رضي الله عنه وأخذ بيد عبد الرحمن: أتدري بيت من هذا؟ قال: لا قال: هذا بيت ربيعة بن أمية بن خلف وهم الآن شرب فما ترى؟ فقال عبد الرحمن: أرى قد أتينا ما نهى الله عنه، نهانا الله عز وجل فقال {ولا تجسسوا} فقد تجسسنا فانصرف عمر عنهم وتركهم.

هكذا كان تصرف حاكم للأمة كاملة، وهو ما يضرب به المثل في احترام خصوصية ومن الناحية المدنية القانونية الحديثة فإن ذلك ما أكدته الدساتير المصرية المتعاقبة، ويكفي أن نضع نص المادة 57 من الدستور المصري الأخير من قوله إن “للحياة الخاصة حرمة، وهي مصونة لا تمس”.

فهل تم احترام ذلك المبدأ من قبل القائمين على النشر سواء كانوا صحفيين متخصصين أو أفراد عاديين؟ هل انتبه أحدهم إلى أن هنالك أصل عام يحكم المحاكمات الجنائية وهو افتراض البراءة إلى أن يصدر حكم نهائي في القضية؟ ويجب أن يتمتع المتهم بهذه القرينة الدستورية، والتي أصبحت أصلا مقررا في كافة المحاكمات الجنائية، وفي كافة النظم القانونية والفقهية كذلك، وهو ما أكدته المحكمة الدستورية في أكثر من موضع، منها على سبيل المثال ما جاء فيه أنه “وحيث إن الدستور يكفل للحقوق التي نص عليها في صلبه الحماية من جوانبها العملية وليس من معطياتها النظرية، وكان استيثاق المحكمة من مراعاة القواعد المنصفة سالفة الذكر عند فصلها في الاتهام الجنائي وهيمنتها على إجراءاتها تحقيقا لمفاهيم العدالة حتى في أكثر الجرائم خطورة لا يعدو أن يكون ضمانة أولية لعدم المساس بالحرية الشخصية -التي كفلها الدستور لكل مواطن- بغير الوسائل القانونية المتوافقة مع أحكامه، وكان افتراض براءة المتهم يمثل أصلا ثابتا يتعلق بالتهمة الجنائية من ناحية إثباتها وليس بنوع العقوبة المقررة لها، وينسحب إلى الدعوى الجنائية في جميع مراحلها وعلى امتداد إجراءاتها، فقد كان من المحتم أن يرتب الدستور على افتراض البراءة عدم جواز نقضها بغير الأدلة الجازمة التي تخلص إليها المحكمة وتتكون من جماعها عقيدتها.

ولازم ذلك أن تطرح هذه الأدلة عليها، وأن تقول هي وحدها كلمتها فيها، وألا تفرض عليها أي جهة أخرى مفهوما محددا لدليل بعينه، وأن يكون مرد الأمر دائما إلى ما استخلصته هي من وقائع الدعوى وحصلته من أوراقها غير مقيدة بوجهة نظر النيابة العامة أو الدفاع بشأنها “خصوصية المواطنين، وعدم التعرض لحياتهم الخاصة إلا بما يتفق وقواعد المشروعية وبما يتفق وسيادة القانون.

وإذا كان المجتمع المصري، خصوصا بعد أن تطورت وسائل الميديا ونقل المعلومات بشكل أسرع، كما أن الصحافة الرقمية باتت من أهم وسائل نقل المعلومات بشكل عام، فإنه يجب أن يحافظ الجميع “صحفيين ومواطنين” على خصوصية المواطنين، وعدم التعرض لحياتهم الخاصة بالطرق التي تؤثر على سمعتهم أو شرفهم، هذا بشكل عام، وبشكل أخص وأدق عدم التطرق للحياة الخاصة للمتهمين والمقبوض عليهم، بما لا تستلزمه مجريات التحقيق، أو تتطلبه العدالة، إذ إن المتهمين والمقبوض عليهم في وضع أقل مقارنة بالأفراد الآخرين لكونهم غير متصلين بالعالم الخارجي، وليس لديهم القدرة للرد على ما يتناوله  الآخرون من حياتهم الخاصة. طالما أنه من الأوجب على الجميع أفرادًا وصحفيين أن يتحروا الدقة فيما يعرضون من أخبار تتعرض لحياة الآخرين، وأن يقف النشر عند حد عدم التعرض للحياة الخاصة.