في الأزمة الدائرة الآن بين المحامين والحكومة مؤشر كاشف لكيفية تعامل السلطة الحالية مع المهن الحرة والنقابات المهنية بالتبعية.
بلا مقدمات، قررت الحكومة أن يدفع المحامي ما يسمى بالفاتورة الإلكترونية عن عمله كنوع من أنواع الضرائب، وكأن مهنة مهمة في قيمة المحاماة قد تحولت إلى سلعة أو خدمة تجارية فخمة يتم توصيلها للمنازل!
استخفاف غير مفهوم بمهنة ضرورية للحفاظ على العدالة في المجتمع وترسيخ سيادة القانون.
أثارت الفاتورة الإلكترونية غضبا عارما في صفوف المحامين الذين رأوها تمثل انتقاصا من هيبة مهنتهم، واستخفافا بحقهم في العمل بلا ضغوطات اقتصادية جديدة، سيتحملها المحامي والموكل -المواطن- على السواء.
اجتماعات وبيانات وانتقادات وتهديد بالتظاهر السلمي والاعتصام، وكلها اتهامات واضحة للسلطة بأن التعامل بهذه الطريقة مع مهنة يشتغل بها الآلاف هو أمر لا يليق بل ويكشف عن أن التحركات والقرارات الرسمية تتم بلا دراسة للمجتمع وفئاته وطبيعة التعامل معهم!
طوال الأيام الماضية تابعت الأزمة المتفجرة بين الحكومة وبين المحامين، وفي كل ما قرأت كان الشعور الذي يتملكني هو أن فرض الضرائب بهذه الطريقة غير المفهومة أمر ليس له ما يبرره، وهو تعبير عن تجاهل غير طبيعي للمجتمع، لا سيما وأن المحامين لهم نقابة تمثلهم، فقد كان الطبيعي أن تكون طرفا في أي نصوص قانونية تعالج مهنة المحاماة، وهو التزام فرضه الدستور على السلطة قبل مناقشة أي قوانين تنظم عمل المهن الحرة التي لها نقابات منتخبة.
بعض من المحامين الذين انتقدوا القانون قالوا كلاما منطقيا ومعبرا عن رفضهم للفاتورة الإلكترونية في ذات الوقت، مثل التأكيد على أنها تؤثر على ظروف عمل المهنة، وتحول المحاماة إلى سلعة، وبالتالي فإنها تؤثر على حق التقاضي وهو حق مكفول لكل المواطنين بحكم الدستور، معتبرين أن التمسك بالفاتورة الإلكترونية يمثل ازدواجًا ضريبيًا بعد أن تم فرض ضريبة القيمة المضافة على المحامين من قبل.
انتقادات المحامين شملت أيضا التأكيد على أن المحاماة مهنة حرة ومهمة ولا يجوز التعامل معها بمنطق البيع والشراء وإدخالها تحت مظلة التقدير الضريبي شأنها شأن السلع والمشتريات، انتقادات منطقية وطبيعية لمحامين يدافعون عن مهنتهم وعن حقهم في رفع الأعباء الاقتصادية من على كاهلهم، لا سيما أن الدستور خص مهنة المحاماة بمادة تؤكد أنها مهنة حرة تشارك السلطة القضائية في تحقيق العدالة، بما يعني أنه لا يجوز فرض ضريبة على أحد أطراف هذه “الشراكة”، وتحميله بأعباء إضافية في ظرف اقتصادي صعب.
فالمادة 198 من الدستور تنص على أن “المحاماة مهنة حرة، تشارك السلطة القضائية في تحقيق العدالة وسيادة القانون، وكفالة حق الدفاع، ويمارسها المحامي مستقلا، وكذلك محامو الهيئات وشركات القطاع العام وقطاع الأعمال العام، ويتمتع المحامون جميعا أثناء تأديتهم حق الدفاع أمام المحاكم بالحماية التي تقررت لهم في القانون مع سريانها عليهم أمام جهات التحقيق والاستدلال. ويحظر في غير حالات التلبس القبض على المحامي أو احتجازه، أثناء مباشرة حق الدفاع وذلك على النحو الذي يحدده القانون”.
بالتزامن مع غضب المحامين كانت نقابة الأطباء هي الأخرى تعبر عن غضبها من “الفاتورة الإلكترونية” التي سيتم فرضها على أعضائها، وهو مؤشر على أن أزمة كبيرة تلوح في الأفق بين الحكومة من جانب والنقابات المهنية من جانب آخر، مع ملاحظة أن المحامين والأطباء هم الذين سيدفعون الثمن الأكبر بإلزامهم بالفاتورة المغضوب عليها والمفروضة على كل المهن الحرة.
أزمة الفاتورة الإلكترونية في تقديري فاصلة في حق الناس في أن يكون المستقبل مختلفا عن الماضي، فالأزمة الأكبر هي في طبيعة تعامل السلطة الحالية مع النقابات المهنية ودورها وحقها في مناقشة ما يخصها من قوانين وقرارات، واحترام دور هذه النقابات التي فرض الدستور احترامها وألزم السلطة بالتشاور معها في كل ما له علاقة بالمهن التي تمثلها، فالمادة 77 من الدستور تنص بوضوح على استقلال النقابات المهنية، وحقها في المشاركة بالرأي في مشروعات القوانين قبل أن يناقشها أو يوافق عليها البرلمان:
“ينظم القانون إنشاء النقابات المهنية وإدارتها على أساس ديمقراطي، ويكفل استقلالها ويحدد مواردها، وطريقة قيد أعضائها، ومساءلتهم عن سلوكهم في ممارسة نشاطهم المهني، وفقا لمواثيق الشرف الأخلاقية والمهنية. ولا تنشأ لتنظيم المهنة سوى نقابة واحدة. ولا يجوز فرض الحراسة عليها أو تدخل الجهات الإدارية في شئونها، كما لا يجوز حل مجالس إدارتها إلا بحكم قضائي، ويؤخذ رأيها في مشروعات القوانين المتعلقة بها”.
هنا تبدو الأزمة الأكبر في طريقة التعامل مع النقابات المهنية، وهنا المدخل الطبيعي لكل الأزمات التي تنشأ بين السلطة والمهن الحرة، فتجاهل النقابات المهنية ودورها، وقبلها تجاهل نص دستوري واضح يؤكد حق هذه النقابات “أخد رأيها في مشروعات القوانين المتعلقة بها”، هو المصدر الرئيسي للأزمات، وهو الأمر الكاشف لمحاولات تسلط على المجتمع المدني وتجاهل أن الدور الرئيسي والحقيقي للنقابات هو تحسين شروط عمل أعضائها ورفع الضغوط والأعباء عنهم.
الاستمرار في الاستبداد بكل شيء هو مصدر كل الأزمات في هذا البلد، والتجاهل غير الطبيعي وغير المفهوم لكل قوى المجتمع السياسية والاجتماعية هو الذي يهدد الاستقرار وينتهك الدستور، ويجعل قرارات السلطة محصنة من كل نقد أو مساءلة، وهو أمر لا يستقيم معه ميزان العدل أبدا.
إذا أرادت السلطة أن تعطي نموذجا جديدا في الإدارة فعليها الرجوع فورا إلى النقابات المهنية وفتح حوار جاد حول “الفاتورة الإلكترونية”، وإلغاء أي نصوص تنتقص من مهنتي المحاماة والطب وغيرهم وتلقي بأعباء إضافية على كاهلهم، والبدء في معالجة الأخطاء التي وقعت بعد أن تجاهلت الحكومة النقابات والفئات التي تمثلها، وهو أمر لا يقلل من السلطة أبدا بل يحسن من صورتها في عيون الناس، ويظهرها بمظهر السلطة التي تستمع لمواطنيها لا السلطة التي تفرض عليهم القوانين قهرا وبدون حوار.