كان يوما حزينا في البورصة المصرية، اكتست شاشات التداول باللون القاني، واستمر نزيف الأوراق المالية والمؤشرات مدفوعا بحجم كبير من مبيعات المستثمرين العرب في بداية الجلسة. كان هذا الحدث سببا في تغيير موعد فتح جلسة التداول في البورصة المصرية، فقد تبيّن أن العدوى المالية تسير عادة في اتجاه واحد من البورصات الخليجية إلى بورصة مصر خلال فترات ارتباك أسواق النفط، أو اضطراب البورصات الكبرى، التي اعتاد المستثمرون العرب المضاربة فيها.
كان الأشقاء العرب حينما يتلقّون ضربة في أي من الأسواق الآسيوية أو الأمريكية، تتعرّض على أثرها مراكزهم المالية للانكشاف، خاصة إذا كانوا يستخدمون نشاط الشراء بالهامش وعليهم غلق مراكزهم المكشوفة مع شركات الوساطة التي أقرضتهم نسبة كبيرة من تكلفة مشترياتهم من الأسهم، حينها يبحثون عن أبكر سوق تفتح أبوابها للتداول، سيّما تلك التي تتميّز فيها محافظهم المالية بتحقيق عائد رأسمالي مرتفع. هنا يتم تسييل جانب كبير من تلك المحافظ، بغرض توفير السيولة وسداد الالتزامات في الأسواق المتعرّضة للضرر، بينما تدفع أسواق أخرى مستقرة مثل السوق المصرية (قبل عام 2011) ثمنا غاليا لتلك التقلبات.
هنا اتخذنا قرارا بتأخير موعد فتح جلسة التداول للبورصة المصرية لتصبح متزامنة مع موعد فتح عدد من البورصات الخليجية، فلا تمتص بورصة مصر الصدمات البيعية منفردة. وبالفعل كان هذا الإجراء من أفضل قرارات إدارة المخاطر التي حافظت على استقرار السوق وحمايتها من التقلبات العارضة لفترة طويلة.
كانت الاستثمارات الأجنبية سواء العربية أو غير العربية تشكّل دعامة قوية لنشاط البورصة المصرية ودأبت تلك الاستثمارات على تحقيق الكثير من الأرباح، حينما كانت أحجام وقيم التداول تعكس نشاطا حقيقيا، وكان التنوّع في الشركات المقيدة والقطاعات الممثلة في منصات البورصة المختلفة، عنصر جذب يعتد به لتعبئة الاستثمارات الخاصة من داخل مصر وخارجها، حتى إن الطروحات العامة في عام 2005 كانت بحق أفضل الطروحات تغطية وأداءً بالمقارنة بكل الطروحات العامة والخاصة التي تلتها.
اختلف الأمر كثيرا بعد ثورة يناير 2011، ولعبت إدارة البورصة والهيئة الرقابية (الهيئة العامة للرقابة المالية) منذ ذلك الحين دورا في تحويل مناخ الاستثمار غير المباشر إلى مناخ طارد، بسبب كثرة التعديلات التشريعية التي كانت تقترحها أو تسنها تلك الجهات (بحسب الأحوال والصلاحيات)، وبسبب التدخّلات الرقابية في آليات عمل السوق، وكثرة إلغاء العمليات وتعليق التداول، وفرض الغرامات، والإفراط في رفع الدعاوى القضائية.. حتى تعرّض مناخ الاستثمار إلى أسوأ ضرباته منذ عقود طوال بفعل تلك الممارسات.
حاليا تتراوح تعاملات العرب في سوق الأسهم ما بين 3.4% عام 2020 و3.5% عام 2021، وهي بالكاد تعاود الارتفاع تدريجيا خلال الفترة منذ بداية العام 2022 وحتى شهر أكتوبر بنصيب يصل إلى 6.53% من إجمالي قيمة التداول. هذه النسب تقل كثيرا عن مساهمة الأجانب من غير الجنسيات العربية، والتي بلغت 22.49% عام 2020، و18.20% عام 2021 و19.30% خلال الأشهر العشرة الأولى من العام الحالي 2022.
لكن الاستثمارات العربية يتم استهدافها حاليا بطرق مختلفة وبصورة مباشرة. من ناحية تكتتب دول الخليج العربي في أدوات الدين العام المصرية ويستثمرون فوائضهم النفطية في صورة ودائع طويلة وقصيرة الأجل بالبنك المركزي المصري، ويبلغ إجمالي تلك الودائع نحو 28 مليار دولار، منها 13 مليار دولار ودائع قصيرة الأجل، بخلاف 1.9 مليار دولار فوائد.
وأظهرت التقارير الرسمية، أن المملكة العربية السعودية لها التزامات بقيمة 13 مليار دولار مستحقة على مصر، منها 10.3 مليار دولار ودائع لدى البنك المركزي، وتأتى في المركز الثاني بعد الإمارات العربية المتحدة التي تبلغ مستحقاتها لدى مصر نحو 15.7 مليار دولار، ومتقدمة على الكويت 5.9 مليار دولار وقطر 3 مليارات دولار.
ومنذ أيام، مددت ثلاث دول خليجية آجال ودائع لدى البنك المركزي المصري بقيمة 7.7 مليار دولار وأعلنت المملكة العربية السعودية تمديد أجل وديعة لدى البنك المركزي المصري بقيمة 5 مليارات دولار.
وأظهر تقرير الوضع الخارجي لمصر الصادر عن البنك المركزي المصري قبل أيام أن الإمارات والكويت جددتا جزءا من ودائعهما أو قامتا بإيداع ودائع بالقيمة نفسها خلال الربع الأخير من العام المالي الماضي.
وبحسب جدولة الديون الخارجية بنهاية يونيو 2022، استقرت ودائع الإمارات بنهاية يونيو مقارنة بنهاية مارس، رغم أنه كان يتعين على مصر سداد 743.9 مليون دولار منها في النصف الأول من 2022، وزادت قيمة ما يجب على مصر سداده خلال النصف الأول من 2025 بنحو 700 مليون دولار، ليصبح 1.057 مليار دولار للإمارات مقابل 375 مليون دولار كانت مستحقة في الفترة نفسها في جدولة الديون بنهاية مارس 2022. وتبلغ ودائع الكويت لدى مصر 4 مليارات دولار بنهاية يونيو 2022، وهو نفس مستوياتها في نهاية مارس، بينها 2 مليار دولار تستحق السداد في سبتمبر 2022 وأخرى في إبريل 2023 بحسب جدولة الديون في يونيو، بينما كان يتعين على مصر سداد 2 مليار دولار في إبريل 2022.
من ناحية أخرى، ونظرا لتردّي أوضاع الدين العام، وتعدد التزامات مصر بالعملة الصعبة خلال الأعوام القليلة القادمة بصورة تدعو إلى القلق، في ظل مراجعة تصنيف مصر الائتماني ليصبح ذا نظرة مستقبلية سلبية، فقد اتجهت الدولة إلى جذب استثمارات عربية مباشرة في شركات قائمة تملك الدولة فيها حصصا متفاوتة. وبعد صدور وثيقة ملكية الدولة بصفة نهائية منذ أيام، فإن تخارج المال العام من عدد من الأنشطة، سوف يتم جزئيا بإفساح المجال أمام المستثمر العربي وخاصة الخليجي على اختلاف طبيعته. فهناك حصص في شركات جاري طرحها على صناديق سيادية عربية، وهناك مفاوضات مع مستثمرين عرب ينتمون إلى القطاع الخاص، بغرض ضخ استثمارات جديدة أو زيادة الاستثمارات القائمة في مصر، مع تعهّد الدولة بتقديم كافة التسهيلات في هذا الشأن.
في مارس الماضي نفّذ صندوق سيادي تابع لإمارة “أبوظبي” عدة صفقات للاستحواذ على حصص أقلية في عدد من الشركات المصرية بقيمة ملياري دولار، تبعها تنفيذ صندوق الاستثمارات العامة السعودي صفقات مشابهة بقيمة 1.3 مليار دولار، كما أعلنت المملكة العربية السعودية عن نيتها استثمار 30 مليار دولار في مصر، بينما قالت قطر إنها ستستثمر 5 مليارات دولار (وفقا لجريدة البورصة).
كذلك أعلن جهاز قطر للاستثمار قيامه بدراسة فرص الاستثمار في عدة شركات مصرية، بينها حصة الدولة في شركة فودافون مصر. وأظهر الجانب القطري أيضًا نيته الاستثمار في عدد من الموانئ المصرية، وذكر تقرير سابق لـ”بلومبرج” أن قطر أودعت مليار دولار في البنك المركزي المصري لإتمام تلك الصفقات، في حين تعمل شركة تابعة لصندوق الاستثمارات العامة السعودي على بناء محفظة استثماراتها في مصر التي قد تشمل استثمارات أقلية في شركات أسمدة أخرى بخلاف أبو قير للأسمدة، بالإضافة إلى شركة مصر للألومنيوم.
ولا خلاف على أن استبدال الديون بالأسهم هو إجراء متعارف عليه دوليا ومحليا في تجارب عدة سابقة، لكن نجاح هذا المسلك يتوقف على عدد من العوامل، أهمها أن يتم تقييم الأسهم بصورة عادلة وبمراعاة مختلف تقنيات التقييم التي تحفظ للبائع كافة حقوقه. كذلك يجب ألا ترتفع تكلفة المشاركة cost of equity على تكلفة الدين cost of debt، حيث أن العائد الذي يحققه المستثمر العربي من تلك الاستثمارات فضلا عن تكلفة الفرصة الضائعة من الحكومة المصرية وشركات القطاع العام وقطاع الأعمال العام من بيع تلك الحصص كثيرا ما يفوق تكلفة القروض والودائع في الاجلين المتوسط والطويل، حتى وإن بدا الحل مغريا في الأجل القصير للفكاك السريع من ربقة الدين.
الأزمة الاقتصادية التي تعيشها مصر حاليا تتفاقم بفعل ندرة الدولار الأمريكي وزيادة الطلب عليه لسد العجز الخارجي، وسداد أقساط الدين العام الخارجي، ولا بديل عن تعميق وتوطين الصناعة وتحسين الإنتاج الزراعي كما وكيفا للحد من الاعتماد على العملة الصعبة، والتعامل مع التضخم وزيادة معدلات التشغيل. بالفعل هناك فجوة كبيرة بين معدل الادخار المحلي (حوالي 6%) ومعدل الاستثمار المطلوب (15%) لتأمين نمو مستدام للناتج المحلي لا يقل عن 7%. تلك الفجوة يمكن للاستثمارات الأجنبية والعربية سدّها ولكن بشروط عادلة لا يترخّص فيها الجانب المصري في موضع الترخيص. كما إن تلك الاستثمارات يتعين جذبها على أساس من المنفعة المتبادلة، مع ضرورة مراجعة البيان الرسمي الصادر عن إحدى الدول الخليجية (بنية حسنة)، لتخليصه من أية إشارة إلى دعم مصر “بسخاء”! لأن المنافع المشتركة القابلة للاستدامة لا تتحقق بتلك الصيغة.