شهدت النقابات المهنية في مصر أزمات متتالية منذ ما يقارب أكثر من نصف قرن، بدءا من سيطرة جماعة الإخوان عليها فترات ما قبل ثورة يناير، باتفاق غير معلن بين الجماعة ونظام مبارك المخلوع، فيما سُمي حينها بـ”التسييس النقابي”، مرورًا بالتضييق الأمني الذي طال الحياة السياسية بعد ثورة يناير، ما دفع المشهد النقابي المهني نحو الخروج من دائرة الأحداث والاهتمام والمشاركة في الشأن العام. وصولًا إلى الوضع الحالي الذي ينذر بأزمة كبرى و”موت نقابي” حقيقي، تظهر صوره جلية في المشكلات المتفجرة داخل النقابات من عزوف أعضائها عن المشاركة والخلافات الضخمة بين قياداتها، وفرض الحراسات على بعضها، والتضييق على البعض الآخر، فضلًا عن المشكلات المتعلقة بالبطالة والأحوال الاقتصادية أو ضعف الخدمات.
ولا شك أن “تصحرًا نقابيًا” تعانيه النقابات المهنية حاليًا يتبدى في أقصى صوره بنقص الكوادر القادرة على خوض معارك الدفاع عن حقوق النقابيين وتوفير الحماية اللازمة لهم، والتفكير في مستقبلهم المهني. فقد أصيبت النقابات المهنية بالشيخوخة بتجاوز أعمار من يديرونها الـ 60 عامًا وأكثر، وعزوف بعض الكبار من كوادرها عن المشاركة بالأساس. كما حدث -على سبيل المثال- مؤخرًا في نقابة المحامين التي عُرف عن أعضائها الحرص على المشاركة في الشأن العام، وهي الآن تمر بأكبر حالة من التجريف النقابي، وفق المنتمين لها.
“الأطباء” في الإنعاش
عانت نقابة الأطباء من سيطرة إخوانية على مجالس إدارتها لأكثر من عقدين. لكنها حتى بعد رحيلهم ورغم وجود كوادر نقابية ومشهد عام ساخن حينها وتمثيل قوي للشخصيات المستقلة والمحسوبة على المعارضة، تراجع دورها على مستوى الأداء النقابي. وكان للسلطة التنفيذية يد في ذلك.
يقول الدكتور أحمد حسين عضو مجلس النقابة: “السلطة التنفيذية ممثلة في الحكومة لم تستجب لمجلس النقابة في العمل على حل مشكلات الأطباء وتحسين أوضاعهم الوظيفية. وهذا أدى لغياب نتائج معقولة للعمل النقابي الذي يرضي عضو المجلس نفسه وأعضاء الجمعية العمومية”.
يرى عضو مجلس نقابة الأطباء أن حالة الانسداد تلك وعجز النقابة عن تقديم حلول معقولة لمشاكل أعضائها وعدم تعاطي السلطة التنفيذية مع هذه الأزمة أفرز حالة متنامية من الشعور بالإحباط والرغبة في العزوف عن أي مشاركة نقابية.
وقد دفع هذا الوضع -كما يقول “حسين”- بعدد من أعضاء المجلس هو أحدهم للتفكير جديًا في الاستقالة من المجلس وعدم الترشح في الانتخابات المقبلة. “لم نعد نشعر بجدوى العمل النقابي. فالحكومة لا تستجيب لمطالب الأطباء، البالغ عددهم 316 ألف طبيب، هاجر الآلاف منهم للخارج بحثًا عن فرص عمل أفضل”.
يضيف عضو المجلس أسبابا أخرى لما يصفه بـ”التصحر النقابي”، فيقول: “هناك أزمة عدم تفرغ الأعضاء المنتخبين للعمل النقابي، مع الصعوبات التي يواجهها المرشح في العملية الانتخابية، حيث يكون مضطرًا إلى إجراء دعاية انتخابية وسط الأطباء على مستوى الجمهورية. وهو أمر شاق ومكلف. نحن بحاجة إلى تدخل تشريعي يتضمن حتمية تمثيل جغرافي لأعضاء المجلس، وزيادة عدد أعضاء المجلس المحدد بـ ٢٤ عضوًا لإنعاش المشهد النقابي والقضاء على مركزية العمل”.
اقرأ أيضًا: أزمات تحاصر البالطو الأبيض.. “كورونا” يكشف محنة الأطباء المصريين
تتحدث إيمان سلامة، عضو مجلس النقابة العامة للأطباء، عن عوامل تاريخية أدت إلى غياب الكوادر النقابية في مصر. إذ عاملت الحكومات المتعاقبة النقابات باعتبارها خصمًا سياسيًا، وليست جهة مكملة للعمل العام. وهو أمر له خلفيته الناتجة عن صراعات قديمة مع التنظيمات السياسية التي كانت تسيطر على النقابات المهنية.
ترى “سلامة” أنه ورغم تغير الأوضاع واختفاء هذه التيارات من المشهد العام، ظلت الأزمة مستمرة، وانحصر دور النقابات في تقديم خدمات الرحلات، والفعاليات الاجتماعية، بينما أغفل العمل على قضايا وحقوق المنتمين للنقابة. ما خلق حالة عزوف من الأعضاء النقابيين عن المشاركة في العمل النقابي سواء ترشحًا أو مشاركة في الانتخابات. “رأينا هذا في الانتخابات الأخيرة لنقابة الأطباء التي شهدت حضورًا منخفضًا جدًا من الأعضاء”.
تقول “سلامة” إن الحكومة ومؤسسات الدولة مطالبة الآن بأن تعي حقيقة أن دور النقابة ليس خدميًا فقط. بل يتطرق للمجال الحقوقي سواء المرتبط بقضايا العمل أو القوانين المنظمة للمهنة. ومن ثم وجب الرجوع إليها عند مناقشة القوانين؛ لأنها أكثر دراية بمشكلات أعضائها، وقادرة على مساعدة الدولة في حلها. وهي ليست كيانًا منافسًا.
الصيادلة وكابوس الحراسة
تأتي نقابة الصيادلة على رأس النقابات التي تعاني من أزمة غياب الكوادر النقابية. خاصة بعد فرض الحراسة القضائية عليها منذ أربع سنوات، والتي جاءت نتيجة النزاعات بين أعضاء مجالسها وافتقادها لكوادر مؤهلة لإدارتها.
يقول الدكتور علي صالح، رئيس الجمعية المصرية للدراسات الدوائية والناشط النقابي، إن ما يحدث في نقابة الصيادلة هو تراكمات تاريخية منذ أوائل التسعينيات، ونتاج دوامة صراع سياسي بعد سيطرة تنظيم الإخوان على مجالسها، وتعمده تفريغها من كوادرها ضمانًا للسيطرة. “نقابة الصيادلة كانت مثالا صارخا على لعبة الصراعات السياسية بين الجماعة والحكومة”.
يضيف “صالح” إلى أنه عقب سقوط التنظيم في 30 يونيو، وتحرر النقابات من سيطرته، لم يكن هناك استعداد من أعضاء النقابة لخوض الانتخابات. وهو ما أدى إلى سيطرة “فلول التنظيم”، بعد تحالفهم مع شخصيات أخرى، ومن ثم وصلنا إلى الأزمة الحالية وفرض الحراسة على نقابتنا.
كما يشير إلى أسباب أخرى أدت إلى هذا “التصحر النقابي” في نقابة الصيادلة، كما يصفه، ومنها التوسع في الجامعات الخاصة، الأمر الذي أدى إلى تضخم في أعداد الصيادلة، ليصل لما يزيد عن 300 ألف عضو، ما تسبب في خلل بالتركيبة العمرية لأعضاء النقابة (تصل نسبة عدد الشباب منهم 75%)، وهم يعانون من غياب الوعي بالعمل النقابي. خاصة في ظل عدم وجود أصحاب الخبرات.
ويحذر “صالح” من وقوع كارثة في نقابة الصيادلة، ويدعو إلى الانتباه بوعي من الدولة والصيادلة لإيجاد حل لمعضلة غياب الكوادر المهنية، لأن في ذلك تهديد لمستقبل واحدة من أهم المهن التي يحتاجها المجتمع وتتعلق بالدواء، الركن الأهم في العملية الصحية.
ويتفق معه الدكتور إسلام عبد الفاضل، مؤسس جمعية حماية الصيادلة، إذ يؤكد أن استمرار فرض الحراسة على النقابة وتوقف العملية الانتخابية، وهذا “الموت النقابي” الذي تعانيه يؤشر إلى مستقبل متردي لهذه المهنة، التي هي الآن بأمس الحاجة لكوادر جديدة قادرة على العمل النقابي وحل مشكلات أعضائها.
التجريف يمتد للمهندسين
تأخذ أزمة غياب الكوادر النقابية في نقابة المهندسين بعدًا مختلفًا، لأن مجلس النقابة لا يعد مجرد كيان يقدم خدمة لأعضائه أو يدافع عنهم فقط. بل يسند لنقابة المهندسين والمجلس مهمات استشارية للدولة، نتيجة تداخلها في عدة قطاعات تنموية. حتى أن أعضائها عماد الاقتصاد الصناعي والعقاري.
ورغم أن “المهندسين” تعد من أغنى النقابات المهنية بحكم مواردها المتعددة، إلا أنها تعاني هي الأخرى من نقص كوادر نقابية، وظهر ذلك في الانتخابات الأخيرة في النقابة، التي شهدت إقبالًا ضعيفًا، ومنافسة فاترة على عضوية المجلس، باستثناء النقيب.
يقول محمد عبد الغني، البرلماني السابق وعضو المجلس الأعلى لنقابة المهندسين، إن الوضع الحالي يتماشى مع الحالة العامة في مختلف مؤسسات المجتمع المدني والأحزاب، والتي شهدت تصفيات وضمور في الفترة الأخيرة. وبغض النظر عن الأسباب التي أدت لذلك، فإنه إحدى نتائج غياب شخصيات نقابية قوية. رغم أن هذه النقابات كانت تقدم نجومًا ليس على المستوى النقابي فقط بل على المستوى العام والسياسي.
كذلك، يشير عبد الغني إلى أن الوضع الراهن هو نتيجة للمحاولات المستمرة للسيطرة على العمل النقابي، وعدم السماح بالتواجد إلا للشخصيات المأمون جانبها، بغض النظر عن مؤهلاتها وقدراتها في التصدي للعمل النقابي والمهني، مضيفًا أن ذلك أثر بشكل سلبي على المهن نفسها ودور المجالس المنتخبة وفاعليتها بما يعود بالفوائد على الأعضاء.
وحذر عضو المجلس الأعلى لنقابة المهندسين من استمرار هذا الوضع الذي أدى إلى “التصحر النقابي”، خاصة وأنه لن ينعكس على أداء المهندسين فقط. بل سينعكس على الوضع المجتمعي والاقتصادي.
ويرى “عبد الغني” ضرورة أن ينتبه الجميع سواء أحزاب أو قوى سياسية أو مؤسسات الدولة لخطوة غياب الكوادر النقابية، وأن تكون محورًا في المناقشة العامة التي تدور حاليًا، لمحاولة وضع سبل للخروج منها، مقترحًا أن يبدأ ذلك بالعمل على رفع اليد عن عمل النقابات وعدم توجيه الانتخابات فيها، بحيث يتمكن أصحاب المصالح من أعضاء الجمعية العمومية لكل نقابة أن يختاروا من يمثلهم ، ويدفعوا نتيجة اختياراتهم بعيدًا عن تدخل الأحزاب أو الجهات المسئولة في الدولة. وهو ما يخلق منافسة ويدفع الأجيال الشابة أن تقدم نفسها للعمل النقابي با يعود بالنفع على مختلف مكونات المجتمع وليس لنقابة بعينها.