يسألونك هل تعرف فلان؟ فإذا قلت أعرفه يكون السؤال: هل سافرت معه؟، هل عاصرته في تجنيدك، هل سجنت معه؟ فإذا كانت إجابتك هي (لا) على كل هذه الأسئلة يؤكون لك: إذن أنت لا تعرفه.
أحمد الله أنني سافرت مع أمين إسكندر، ولكني لم أدخل الجيش معه لأني من أصحاب الإعفاء من التجنيد، ولكني سُجنت معه، اثنتين من ثلاث، تجعلاني أحدثكم عن معرفة بأمين إسكندر على حقيقته.
في السفر هو خير رفيق، وفي السجن كان أنصع ما في ملكاته -فضلًا عن صلابته- هو ذهنه المتقد، وسرعة البديهة التي تمنع الوقوع في مآزق كبرى كان يمكن أن تحدث، وأذكر ما جرى في مبنى مباحث أمن الدولة في شارع جابر بن حيان بالدقي، وكانت أمن الدولة قد ألقت القبض علينا مجموعة أصدقاء نبيت في شقة صديقنا المناضل الفلسطيني صالح أبو سمرة الذي كان من المقرر أن يسافر في اليوم التالي لكن القبض علينا أخَّر سفره عدة شهور.
**
في مفاجأة لم نتوقعها، وجدنا أمين يدخل علينا، ولم يكن قد مضى على القبض علينا غير سويعات قليلة، وتساءلت نظراتنا عن الكيفية التي قُبض بها عليه لحظة دخوله التخشيبة التي تجمعنا في الدور الأرضي من مبنى أمن الدولة، كنا نجلس بين كل واحد منا وبين الآخر مخبر يمنع تواصلنا ويقطع علينا أي حديث يجري بيننا.
التقط أمين حجم الدهشة في عيوننا تسأل: كيف جاءوا بك؟، فبادر قبل أن يجلس بسؤال أطلقه في الهواء: الأخوة منين؟ ممكن نتعرف؟
وصلتنا الرسالة قبل أن ينهره المخبر الذي جاء بصحبته ودفعه إلى الجلوس بعيدًا عنا، كانت الرسالة ذكية ولماحة وواضحة وفهمناها كلنا، أنه لم يقبض عليه معنا، وأنه سوف ينكر معرفته بنا جميعًا إلا صاحب الشقة الذي برر معرفته به بلقائه في كافيتريا الجامعة، وتعرف عليه بسبب لكنته الفلسطينية الواضحة.
كان أمين وقتها مجندًا في القوات المسلحة، لذلك فإن التحقيق معه سيأخذ مسارًا مختلفًا، فقد درجت العادة في ذلك الوقت ألا تسمح القوات المسلحة لأي جهاز أمنى بالتعامل مع منتسبيها، فلم يمض معنا في سجن القلعة غير يوم وليلة، انتقل بعدها إلى التحقيق داخل الجيش.
**
يختصرونه فيقولون: أمين إسكندر قيادي ناصري، وبرلماني سابق، وسياسي بارز، يحاولون تلخيصه في كلمات باردة لا حياة فيها، كلمات لا يمكن أن تعبر عن القيمة الحقيقية التي تمثلها تلك الرحلة الطويلة، بمحطاتها المتعددة، وإحباطاتها المتكررة، وانتصاراتها المبتورة، كيف يمكن لهم أن يصوغوا معاني تجدد العزم، وإحياء الإصرار بعد كل إخفاق، وكيف يمكن لتلك الكلمات المختصرة أن تغوص في تقييم تلك الأدوار المتعددة التي قام بها أو انتدب إليها أو بادر إليها.
لا يمكن أن تستوعب هذه الأوصاف للدور الذي لعبه قيادي كبير مثل أمين إسكندر إلا بالاطلاع على حقيقة الدور الذي قام به جيل كامل ولد من رحم الاعتراض على السلطة، ودفع ضريبة مواقفه وانحيازاته واختياراته وحتى أحلامه دفعها من عمره وصحته وجهده وكل ما يملك.
**
كان أمين إسكندر ضمن قيادات جيل امتدت أطرافه في كل محافظات مصر، وتعددت فروعه في الدلتا وفي الصعيد، وأينعت ثماره في الشتاء والصيف، ومن هذا الموقع صار من كبار قادة تيار عريض فرض هذا الجيل وجوده في الواقع السياسي ووضعوه في قلب الحركة الوطنية رقمً صعبًا لا يمكن تجاوزه أو إنكار دوره وفاعليته.
صحيح كان أمين إسكندر في مقدمة القيادات المؤسسة لحزب الكرامة، وشارك في تأسيس التيار الشعبي المصري، ولكنه قبل ذلك دخل مع رفاقه من جيل السبعينيات في بناء تجارب تنظيمية طليعية للتيار الناصري، وشارك ضمن أبناء جيله في السعي الدؤوب والمتواصل على مدار عقدين من الزمان من أجل إقامة حزب ناصري جامع لكل القوى الناصرية، وحين تعذر نجاح المهمة لأسباب شتى نشأت فكرة إعلان تأسيس حزب يقوده جيل السبعينيات، فكانت فكرة تأسيس حزب الكرامة الذي كان هو في مرحلة من مراحله وكيلًا للمؤسسين فيه.
**
قيادي ناصري، وقيادي بحزب الكرامة، أوصاف لا تقول الحقيقة في جوهرها، حقيقة العطاء الذي بذله هو وبقية رفاقه من قيادات هذا الجيل، وقد أعطى لدوره في خضم الحركة الناصرية كل حياته، وكل جهده وكل وقته، واستثمر فيه كل امكانياته ومواهبه وعمل مخلصًا لما يؤمن به وقدم نموذجًا نضاليًا رفيع المستوى.
وصحيح أنه كان -لوقت قصير في حياته السياسية- عضوًا بمجلس النواب الذي انتخب بعد ثورة يناير، ولكن الأهم أن قبة البرلمان تشهد له بأنه لم يقل بالمجلس غير ما يؤمن به، ولم يدافع إلا عما يعتقد بصحته وصوابيته، ولم يصوت مع قرار أو إجراء أو قانون لا يرضى عنه ضميره الوطني أو يصادم أفكاره وانحيازاته.
**
أمين إسكندر من قادة هذا الجيل من الناصريين الذي لم يقصر دوره على جهده الجبار واسهاماته المميزة على الصعيد الحركي في مضمار العمل السياسي المباشر، من اجتماعات ورسم سياسات، وتنظيم والاشتراك في مظاهرات أو المساهمة في عقد ندوات ووقفات احتجاجية في شتى الشئون الوطنية والقومية، ويمكنك أن تراجع كل النشاطات الوطنية الجامعة لقوى الحركة الوطنية وسوف تجد مساهمة أمين فيها ظاهرة واضحة للعيان، وتسبب ذلك في سجنه مرات عديدة، كان آخرها القبض عليه ظهيرة يوم 25 يناير 2011 من قلب المظاهرة التي انطلقت من شبرا باتجاه ميدان التحرير.
إلى جانب كل هذه الأدوار الحركية وكل هذا النشاط في العمل السياسي المباشر ترك أمين إسكندر وراءه إسهامات فكرية شديدة التميز ولا يمكن تجاوزها عند دراسة الحياة السياسية في مصر من منتصف السبعينيات حتى ما بعد قيام ثورة يناير 2011، منها مؤلفاته المهمة التي حملت عناوين مثل كتابه «ذاكرة ورؤيا»، ودراسة مطولة تحت عنوان «في نقد تحالف كوبنهاغن»، وكتاب «عبور الهزيمة» وكتاب «الحركة القومية في مائة عام»، ثم «عصر القهر والفوضى» و«الزلزال: دراسات من داخل الأزمة العربية»، و«نقد التجربة الناصرية – رؤى من الداخل»، و«التنظيم السري لجمال عبد الناصر»، فضلًا عن مئات المقالات والكثير من الإسهامات الفكرية في مناهضة التطبيع ودعم المقاومة في مواجهة العدو الصهيوني أبرزها «ثقافة المقاومة والتحرير في إدارة الصراع العربي الصهيوني».
**
راجع نشاط أمين إسكندر على مدار مشواره مع الحركة الوطنية وفي القلب منها الحركة الناصرية منذ أواسط السبعينيات وحتى رحيله، وانظر إلى قائمة المواقع السياسية التي شغلها خلال هذا المشوار الطويل تجد أن هذا النشاط وتلك المواقع يجمعها ثلاثة عناوين، أولها إعادة بناء التيار الناصري وتأطيره تنظيميًا، والعنوان الثاني هو القضية الفلسطينية، التي أعطاها الكثير من فكره وجهده الحركي، والعنوان الثالث هو العمل الجبهوي الذي يجمع قوى وأحزاب سياسية ومنظمات مجتمع مدني في إطار وتحت سقف برنامج حد أدني متفق عليه.
كان أمين إسكندر رجل البحث عن المشتركات بامتياز، وقد اتسع جهده وعطاؤه وتعددت دوائر معارفه ورفاقه باتساع رقعة الحياة السياسية في مصر ووطنها العربي طوال النصف قرن الماضي.
**
من أكثر ما يميز أمين إسكندر أنه كان يندفع بقوة وعزم باتجاه تحويل الأفكار التي يؤمن بها إلى برامج للعمل، حتى لا تبقى ساحات للجدال النظري أو تتوقف عند حدود الفكرة المحلقة في الفراغ لا تقدر على النزول إلى أرض الواقع.
كان أمين من هؤلاء الذين يؤمنون بأن الأفكار لا يمكن أن تحمل نفسها، ولابد أن تحملها الفئات والطبقات الاجتماعية التي تعبر عن مصالحها، كانت بوصلته مصوبة دائمًا باتجاه الناس، كثيرًا ما كان يلفت نظر رفاقه إلى أن الأفكار مهما كانت درجة صحتها، ومهما تعاظمت في نبل مقاصدها ستظل معلقة بين السماء والأرض إن لم تجد نفسها وسط جماهيرها الذين تعبر عنهم وتنحاز إلى مصالحهم.
قليل هؤلاء الذين يجمعون بين القدرات الفكرية والمواهب الحركية، وكان أمين له نصيب من الاثنتين، ولذلك فإن مواهبه تتجلى أصفى ما تتجلى في دور المعلم والمربي في مدارس بناء الكوادر وتثقفيها فكريًا وحركيًا وسلوكيًا، ويمكنك أن تطلع على حجم الفقد الكبير الذي عبر عنه جيل كامل من شباب الحركة الوطنية والناصرية الذين تتلمذوا في مدرسة أمين الفكرية والعملية، وربما هذا هو الدور الذي اعتز به على الدوام من بين جميع أدواره التي قام بها باقتدار مشهود.
**
أمين إسكندر المسيحي الذي يحسب نفسه كأحد أبناء الحضارة العربية الإسلامية ظل مخلصًا لقضايا التحرر والتقدم والوحدة العربية، وكان أشد إخلاصًا لقضية فلسطين، وحين قال ياسر عرفات يصنف نفسه إنه فلسطيني وهواه مصري، كنا نرى في أمين إسكندر المصري ذا الهوى الفلسطيني.
الذي يراجع مقالات أمين إسكندر في المصري اليوم أو تعليقاته على صفحته في الفيسبوك سيكتشف بسهولة أن هذه المقالات وتلك التعليقات لم تكن مجرد تحليلات وقتية، تتعلق بموضوعها فقط، ولكنها كانت على الحقيقة تعبر عن موقف سياسي ثابت، وتعبر عن رؤية مبدئية لها نبع فكري لا تخطئه العين المتفحصة.
كان حين يكتب يوجه سهام النقد النافذة إلى السلطة، وكان حين يعمل بالسياسة يتوجه إلى البشر حيث يكونون، في مواقعهم الطبيعية، وكانت له قدرات فذة على اكتساب محبة وثقة الناس الذين يحتكون به من أول مرة، محله المختار كل مقاهي مصر، من مقهى هيلتون النيل إلى مقهى مهجور بحارة منزوية من حواري دوران شبرا وأزقتها.
**
انتمى أمين إسكندر إلى جيل السبعينيات، وكان واحدًا من أهم رموزه، ومن أكثرهم نشاطًا وحيوية، وظل محتفظًا باندماجه الكامل في الحركة الوطنية المصرية منذ بداية السبعينيات وحتى يوم رحيله قبل أيام.
هو ابن جيل أتعبته الحياة، وتحمل بصبر وصدق تكلفة اختياراته وانحيازاته وانتماءاته، لم يكن يفرح بالانتصارات وقد كانت شحيحة، ولم يكن يسمح لنفسه أن ييأس من الإخفاقات وهي كثيرة ولم تتوقف طوال مسيرة الجيل على مدار خمسين سنة.
هذا الجيل الذي تفتق وعيه الباكر على النكسة، وواجه في صدر الشباب الأول بالصدر العاري الارتداد على الثورة، وكان في طليعة الطليعة، ابن بار لجمال عبد الناصر، وقائد كبير من القادة الذين حملوا بنوة عبد الناصر بالفكر، انتصر دائمًا لقضية الوعي، وعمل طويلًا من أجل الانعتاق من وهدة التخلف والتبعية والظلم والاستبداد.
**
السياق السياسي والثقافي المعقد وضع هذا الجيل بين “هزيمة يونيو 1967” وما تلاها من سخط يطالب بتغييرات سياسية، ثم انتفاضة الشعب في يناير 1977 اعتراضًا على رفع أسعار بعض السلع الأساسية، وما أعقبها من هوة ظلت تتسع بين الشعب وصانع القرار، وصولًا إلى معاهدة السلام بين مصر والكيان الصهيوني.
كانت السنوات العشر ما بين 1967 و1977 مرحلة انتقال بين عالمين مختلفين، قبل 1967 كان هناك عالم، يقوم على اشتراكية خاصة بالمجتمع المصري تهدف إلى تقليل الفوارق بين الطبقات، وحركة التصنيع الكبرى، وخطط التنمية المستقلة، وانطلاقة الثورة الفلسطينية، وكفاح مستمر ضد الهيمنة الغربية ومعاداة الوجود الصهيوني على الأرض العربية، وبعد 1977 تأسس عالم جديد في صلب بنيانه الصلح مع إسرائيل، وبناء اقتصاد تابع وبيع القطاع العام، وتوسيع الفوارق بين الطبقات ووضع أوراق مصر في اليد الأمريكية.
**
هو جيل الرفض الذي خرجت طلائعه في 1968 ضد توابع النكسة وفي 1972 وفي 1973 ضد تسويف قرار التحرير والتلكؤ في اتخاذ قرار الحرب، وفي 1975 ضد توجهات النظام الرأسمالية التي تبدت من قرار الانفتاح الاقتصادي وبدء موجة بيع القطاع العام.
وخرج –كذلك- في سنة 1977 ضد رفع الأسعار في موجة ثورية تكاد تضاهي في الحجم والغضب ثورة 25 يناير، وكانت كأنها بروفة لما جرى في يناير سنة 2011، وشارك هذا الجيل في صناعة ثورة يناير على طول السنوات العشر الأخيرة من عهد مبارك ثم شارك مع شباب ثورة يناير في إسقاط مبارك في فبراير سنة 2011، ثم شارك في الخروج على مرسي وجماعته، وخرج ضده في 30 يونيو 2013.
كانت يناير 2011 هي أعظم تواريخ هذا الجيل الذي توج حياته ونضالاته بالفخار، وكانت مشاركته المؤثرة في صناعتها وخروجه مع جموع الشعب وملايينه في الثورة واحدة من أجمل لحظات العمر.
يطول الكلام عن أمين إسكندر، ونحن نرثيه كأننا نكتب مرثية جيل أوشكت رحلته على الوصول إلى محطتها الختامية تاركًا وراءه تجربة ثرية (بكل ما فيها من دروس) تنادي على من يتصدى لكتابتها.
**