لا يزال الحديث جاريًا وحادا بين أصحاب المهن الحرة غير التجارية ووزارة المالية، التي أمهلتهم حتى منتصف ديسمبر/ كانون الأول الجاري للالتزام بالتسجيل في منظومة الفاتورة الإلكترونية، التي أُطلقت للمرة الأولى في مصر قبل عامين، كأول دولة تطبقها على مستوى الشرق الأوسط وإفريقيا، واصطدمت في مراحلها الحالية من التطبيق باعتراضات أعضاء النقابات المهنية، وعلى رأسهم المحامون الذين نظموا عدة وقفات أمام مقر نقابتهم العامة وبالنقابات الفرعية.

الفاتورة الإلكترونية

تم إطلاق منظومة الفاتورة الإلكترونية منتصف يونيو/ حزيران 2020، لتكتمل على مدار ست مراحل، وأعقبتها منظومة مُكمِلة لها تسمى “الإيصال الإلكتروني”، تمثل الحلقة الأخيرة في التعاملات التجارية، التي يكون طرفاها تاجر تجزئة أو مؤدي خدمة أو مهني غير تجاري” مع المستهلك النهائي.

والفارق بين الفاتورة والإيصال هو أن الأولى مرتبطة بالتعامل مع مؤسسة أو جهة لديها سجل تجاري. بينما الثاني بمستهلك نهائي وبالرقم القومي فقط. وفي حال التعامل مع منشأة أو مستهلك نهائي في الوقت ذاته يسرى عليهما المنظومتان معًا. وهو أمر تراه المهن الحرة غير التجارية معقدًا. فيما ترد مصلحة الضرائب بعقد ندوات تعريف بالتسجيل في الفاتورة الإلكترونية.

تتعامل الوزارة مع الفاتورة الإلكترونية باعتبارها أحد المكونات الأساسية لخطتها للتحول الرقمي. فهي مستند رقمي يثبت معاملات بيع السلع (بالنسبة للتجار) والخدمات (المهن الحرة غير التجارية)، ويتم إعداده والتوقيع عليه إلكترونيًا، وإرساله واستلامه من خلال منظومة إلكترونية. على أن يتم مراجعته والتحقق منه لحظيًا من جانب مصلحة الضرائب، بما يشمل حفظ بيانات الفاتورة واستعراضها وطباعتها.

مصلحة الضرائب (وكالات)
مصلحة الضرائب (وكالات)

اقرأ أيضًا: الفاتورة الإلكترونية.. نموذج لتعامل السلطة مع النقابات المهنية

يعرف القانون المهن الحرة غير التجارية ضمن تشكيلة واسعة يؤديها الشخص لحسابه “مُستقل” وتحت مسئوليته. مثل: المحاماة، والطب، والهندسة، والصحافة، وتأليف المصنفات العلمية والأدبية، والمحاسبة والمراجعة، والخبرة كالخبير المُثمِن، والترجمة، والقراءة والتلاوات الدينية، والرسم والنحت والخط، والغناء والعزف والتلحين والرقص والتمثيل والإخراج والتصوير السينمائي، وتأليف المصنفات الفنية، والمهن السينمائية والتلفزيونية والإذاعية والمسرحية، وعرض الأزياء، والتخليص الجمركي، والنسخ على الآلة الكاتبة.

تزايد الجدل حول الفاتورة حاليًا نابع من إلزام “الضرائب المصرية” جميع الممولين ومنهم أصحاب المهن الحرة غير التجارية بالتسجيل بمنظومة الفاتورة الإلكترونية في موعد أقصاه 15 ديسمبر/ كانون الأول الحالي. محذرة من عقوبة للمتراخين عن الانضمام تتراوح بين 20 ألفًا و100 ألف جنيه، إلى جانب الإحالة إلى النيابة العامة بتهمة التهرب الضريبي.

الفاتورة.. رهان المالية

وتراهن وزارة المالية على الفاتورة الإلكترونية في ضبط ضريبة المهن الحرة غير التجارية، التي تعتبرها أكثر أنواع الضرائب التي يشوبها التهرب. وهي بتطبيق هذا النظام تسعى للاطلاع على أي بضاعة يبيعها تاجر أو يؤديها مؤدي خدمة فور إصدار الفاتورة الخاصة بها.

على سبيل المثال، بمجرد دفع العميل “فيزيتا” الكشف بعيادة الطبيب تصل صورة منها لمصلحة الضرائب.

يقول مسئول بوزارة المالية إن التحصيل الضريبي من المهن الحرة غير التجارية، لا يتناسب مع عدد العاملين بها ونوعية الدخول المرتفعة التي يحققها عدد كبير منهم. إذ لا تتجاوز 1.1% من إجمالي الضرائب المباشرة. لذا تنظر الوزارة إلى تطبيق الفاتورة الإلكترونية باعتباره يحقق العدالة الضريبية. خاصة وأن ضريبة المرتبات المقطوعة من المنبع لا يحدث فيها أي تهرب على عكس “المهن غير التجارية”.

اقرأ أيضًا: المحامون يهددون بالتصعيد ضد الفاتورة الإلكترونية.. و”الضرائب”: لا استثناءات

ويضيف المسئول أن هذه الفاتورة الجديدة تأتي ضمن ميكنة وتحسين أداء الإدارة الضريبية وإنفاذ القوانين والقرارات الضريبية بشكل كامل وفعال، ولم تتم إثارة مشكلات حولها إلا في آخر أسبوعين فقط. رغم أنها تتضمن فوائد تعود على الممولين. ومنها تخفيف العبء الإداري وتقليل تكلفة التعاملات والحاجة إلى أرشفة الفواتير ورقيًا، وإمكانية الفحص الضريبي عن بعد، وتيسير عملية إعداد وتقديم الإقرارات.

الدكتور محمد معيط وزير المالية
الدكتور محمد معيط وزير المالية

وتشير المالية إلى الرقم الكبير الذي ينطوي تحت المهن الحرة غير التجارية خاصة المهندسين، البالغ عددهم 850 ألفًا بحسب بيانات نقابة المهندسين. وكذا المحامين البالغ عددهم 420 ألفًا وفقًا لبيانات نقاقة المحامين. إضافة إلى 212.5 ألف طبيب مُسجلين وحاصلين على ترخيص مزاولة المهنة من وزارة الصحة. وأيضًا 4 آلاف بنقابة المهن التمثيلية، و30 ألف عضو بنقابة الموسيقيين، و5 آلاف محاسب قانوني، وغيرهم بالآلاف.

يضيف المسئول أن مصلحة الضرائب تعقد ندوات منذ عامين للتعريف بالتسجيل في الفاتورة الإلكترونية، التي تأتي ضمن ميكنة وتحسين أداء الإدارة الضريبية وإنفاذ القوانين والقرارات الضريبية بشكل كامل وفعال ولم يتم إثارة مشكلات حولها إلا في آخر أسبوعين فقط، رغم أنها تتضمن فوائد تعود على الممولين منها تخفيف العبء الإداري وتقليل تكلفة التعاملات والحاجة إلى أرشفة الفواتير ورقياً، وإمكانية الفحص الضريبي عن بعد، وتيسير عملية إعداد وتقديم الإقرارات.

6.1 مليار جنيه مستهدفة

في تصريحات سابقة، أكد الدكتور فخري الفقي رئيس لجنة الخطة والموازنة بمجلس النواب، أهمية تطبيق منظومة الإيصال الإلكتروني على أصحاب المهن الحرة من الأطباء والمحامين ومكاتب الاستشارات الهندسية وغيرهم ممن يقدمون خدمات، ولا يسددون عنها ضرائب، وتطبيق منظومة الإيصال يساهم في سد ثغرة التهرب الضريبي ومكينة التحصيل مما يرفع من حصيلة الإيرادات الضريبية.

وبحسب مسئول المالية، فإن المستهدف من ضريبة المهن غير التجارية حصيلة تقدر بنحو 6.1 مليار جنيه خلال العام المالي الحالي، مقابل 4.1 مليار كانت مستهدفة للعام الماضي (الحساب الختامي لموازنة 2021/2022 في مجلس النواب حاليا)، و4.1 مليار تم تحقيقها فعليًا في 2020/2021، و2.7 مليار في 2019/2020، و2.5 مليار محققة في 2018/2019.

ويبلغ المتوسط السنوي للفجوة بين تقديرات ضريبة النشاط المهني غير التجارية وبين المحصل الفعلي منها نحو 60%، خلال السنوات الخمس 2014/2015 -2018/2019.

تكتل الرافضين للفاتورة

خلال الأسبوع الماضي، تزايدت حُمى رفض تطبيق الفاتورة الإلكترونية، بداية من مجلس النقابة العامة للمحامين والفرعيات، الذي عقد اجتماعًا لمدة 3 ساعات متواصلة، رفض خلاله تطبيق الفاتورة الإلكترونية على أبناء المهنة. لكنه سيحاول في الوقت ذاته الوصول لاتفاق مع الدكتور محمد معيط وزير المالية، حول الفترة المحددة للتسجيل، وعدم تطبيق أي غرامات على المحامين.

وبدأ المحامون الخميس الماضي وقفات احتجاجية ضد تطبيق الفاتورة الإلكترونية أمام نقابتهم وبنقاباتهم الفرعية في المحافظات. بينما صعدت النقابة الفرعية في بورسعيد بغلق جميع مكاتب المحامين بالمحافظة لمدة يوم واحد، وعدم التعامل مع خزائن المحاكم.

الدكتور حسين خيري نقيب الأطباء
الدكتور حسين خيري نقيب الأطباء

ولم يتوقف الرفض على المحامين فقط. فالدكتور حسين خيري نقيب الأطباء طلب لقاءً عاجلًا مع وزير المالية لمناقشة تطبيق منظومة الفاتورة، واعتراضات الأطباء عليها. ذلك بعدما قرر مجلس النقابة العامة في اجتماعه الأخير المنعقد 18 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، الطعن على قرار وزارة المالية بتطبيق الفاتورة الالكترونية على الأطباء.

اقرأ أيضًا: مهنة المحاماة والعمل القانوني والفاتورة الإلكترونية

كما عقد الدكتور إيهاب هيكل، نقيب أطباء أسنان مصر، اجتماعًا مع مختار توفيق رئيس مصلحة الضرائب الذي وعد بتشكيل لجنة مشتركة بين المصلحة ونقابة أطباء أسنان مصر، لدراسة مشكلاتهم الضريبية بصفة عامة، وتسجيلهم في منظومة الفاتورة الإلكترونية بصفة خاصة، والوصول إلى الفهم الكامل لهذه المنظومة الإلكترونية.

الدكتور أشرف زكي، نقيب المهن التمثيلية
الدكتور أشرف زكي، نقيب المهن التمثيلية

وطالب الدكتور أشرف زكي، نقيب المهن التمثيلية، الرئيس عبد الفتاح السيسي بالتدخل وإرجاء العمل بالفاتورة الإلكترونية لحين فهم جميع التفاصيل الخاصة بها. قائلًا في تصريحات تلفزيونية: “محتاجين نفهم، لأننا مش فاهمين حاجة ونعاني من مشكلات كثيرة خاصة بفهم الفاتورة”، مضيفًا أن جميع النقاشات مع مسئولي مصلحة الضرائب سواء مباشرة أو غير مباشرة لم تكن الفاتورة الإلكترونية على جدولها إطلاقًا”.

وفي 23 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، عقد وزير المالية اجتماعًا مع عبد الحليم علام، نقيب المحامين رئيس اتحاد المحامين العرب، قبل الوقفة الأخيرة للمحامين. حيث أكد الوزير تفهمه الكامل لما استمع له من النقيب حول رؤية وتخوفات نقابة المحامين بشأن التسجيل بمنظومة الفاتورة الإلكترونية.

ووجه الوزير بسرعة تشكيل لجنة مشتركة بين وزارته ممثلة في مصلحة الضرائب ونقابة المحامين، لدراسة المشكلات والوصول إلى حلول تأخذ في الاعتبار تخوفات المحامين. لكن لم تسفر أعمال اللجنة عن نتائج حقيقية.

وكذلك وجه الوزير مصلحة الضرائب بسرعة تشكيل لجنة مشتركة بينها وبين نقابة أطباء أسنان مصر، لدراسة مشكلاتهم الضريبية بصفة عامة، وتسجيلهم في الفاتورة الإلكترونية بصفة خاصة، والوصول إلى الفهم الكامل لها.

أسباب متعددة

يجمع بين أرباب المهن الحرة غير التجارية حاليًا رفض الفاتورة بصورتيها؛ سواء التي تتعلق بالتعامل مع الجهات أو الشركات أو الأفراد التي تتطلب إصدار إيصال إلكتروني. لكنهم يختلفون في أسباب الرفض. فالمحامون يرفضون في المقام الأول التكلفة المالية لإجراءات التسجيل التي تتوزع بين “اشتراك وتوقيع إلكتروني وتصديق واشتراك بوابة ورسوم شهادة”. وهو أمر لا يتناسب مع فئات عريضة منهم. خاصة العاملين بالمحافظات ممن يتولون قضايا لا يزيد الدخل فيها عن ألف جنيه.

محمد راضي مسعود، عضو مجلس نقابة المحامين يقول: “نفهم تطبيقه على شركات المحاماة والمكاتب الكبيرة. لكن ماذا عن المحامي الحر الذي يمتلك مكتبًا صغيرًا، ويعاني في الأساس من توفير مصروفات إيجاره وتشغيله؟”. ويضيف أن الأعباء المالية المتمثلة في إجراءات التسجيل تصل إلى 12 ألف جنيه رسوم تسجيل وثمن جهاز لإصدار الفاتورة الإلكترونية ورسوم سنوية للاشتراك في النظام، فضلًا عن أعباء أخرى ترتبط بشباب المحامين أصحاب الموارد البسيطة، الذين سيتكبدون أعباء مالية تثقل كاهلهم.

من احتجاجات المحامين ضد الفاتورة الإلكترونية (وكالات)
من احتجاجات المحامين ضد الفاتورة الإلكترونية (وكالات)

ويشكو الأطباء من التعقيدات وصعوبة التطبيق وطول الإجراءات وليس التكلفة. خاصة أنها محملة على المريض في النهاية، وعملهم يخضع لنوعية الأطباء وما إذا كانوا يقدمون الكشف في عياداتهم الخاصة ويتولون محاسبة المريض. وفي هذه الحالة عليهم تقديم إيصال إلكتروني، أو يقدمون العلاج في عيادة بمستشفى يتولى في هذه الحالة إصدار فاتورة للمريض وليس إيصالًا، أو أطباء الجراحة الذين لديهم عيادة ويتعاملون في الوقت ذاته مع المستشفيات، وعليهم التسجيل ويقوم بإصدار فاتورة المستشفى لتحصيل أتعابه.

اقرأ أيضًا: الفاتورة الإلكترونية .. سلاح “المالية” لإخراج الاقتصاد غير الرسمي من الجحر

إسلام محمد، طبيب أنف وأذن وحنجرة، يقول إنه حتى الآن لا يعرف كيفية تطبيق الفاتورة عليه، فهو طبيب في مستشفى حكومي ولديه عيادة خاصة. لكن بعض العمليات يجريها في مستشفى خاص لحاجتها لعناية أكبر أو تعاني من ظروف مرضية خاصة تتعلق بالسيولة أو أمراض مزمنة. وبالتالي لا يعرف كيفية التعامل مع كل حالة بمفردها.

بالنسبة لمشكلات الفنانين فيلخصها نقيبهم أشرف زكي في صعوبة تطبيق الأمر عليهم. إذ يؤدي الفنان عملًا إبداعيًا. يقول: “هل يعقل تكون يسرا رايحة تصور مسلسل يتقالها عندك 24 ساعة تطلعي فاتورة إلكترونية، وإحنا من أكثر الناس اللي بتقع ضحايا للمحاسبين القانونين؟”.

 

لكن النائب أحمد مقلد، عضو مجلس النواب، طالب بمد مهلة الفاتورة الإلكترونية للمهن غير التجارية لمدة عامين على أن يتم إجراء حوار مجتمعي شامل مع ممثليهم للوقوف على العقبات التي تواجههم في التقدم بالإقرارات الضريبية وفقا للصورة الرقمية المستحدثة وتذليلها بكافة الوسائل التشريعية والعملية اللازمة وإعادة النظر فيها إذا ما لزم الأمر.

مختار توفيق رئيس مصلحة الضرائب، أكد في بيان صحفي أخيرًا، أنه لا توجد أي استثناءات لأى ممول بمصلحة الضرائب المصرية من التسجيل بمنظومة الفاتورة الإلكترونية، قائلا أنه سيتم اكتمال إلزام جميع ممولي مصلحة الضرائب المصرية بمنظومة الفاتورة الإلكترونية منتصف ديسمبر 2022 ، لكن التكهنات تميل حاليًا نحو إرجاء التطبيق لمنح النقابات فرصة لمعرفة الفاتورة الإلكترونية خاصة التي لم تعترض عليها من ناحية المبدأ وتشكو من التطبيق فقط.