في هدوءٍ شديد، وبينما العالم مشغول بأزمة المناخ وخراب البيئة، ثم بأزمة الفيروس العابر للقارات في 2019، فأزمات التضخم المُعَولَم والغذاء الشحيح وسلاسل الإمداد والعجز الشديد في مصادر الطاقة بسبب حرب أوكرانيا في 2021 والتي مازالت قائمة حتى تاريخ كتابة هذه السطور، كانت شركة “نورالينك” المملوكة للملياردير الأمريكي “إيلون ماسك” تعمل في تنافس مع شركة “سينكرون” لتصميم الشريحة العجيبة.
“ينبغي علينا أن نكون في غاية الحذر ومتأكدين تمامًا من أن تلك الشريحة تعمل بكفاءة عالية قبل وضعها بأي إنسان”، هكذا تحدث “إيلون ماسك” في عرضه يوم الأربعاء الماضي لآخر مستجدات تجارب شركته بشأن الشريحة التى ستوضع داخل الدماغ البشري مُعربًا عن أمله في أن تبدأ التجارب العملية في غضون ستة أشهر.
وقد كانت “نورالينك” تعمل منذ سنوات على أبحاث معملية لإنتاج تلك الشريحة التي ستتم زراعتها بالدماغ البشري لمساعدة المرضى المُصابين بالشلل على الحركة والمُصابين بالباركانسون وآلزهايمر على التواصل الطبيعي.
أضاف “ماسك” في عرضه الأخير -الذي كان مُخَطَطًا له أن يتم في أكتوبر الماضي وتم تأجيله دون إيضاحٍ لمبرر ذلك- أن تلك الشريحة ستساعد أيضًا في استعادة الرؤية حتى لمن وُلِد أعمى (هكذا قال نصًا)، وأشار إلى أن شركته في سبيلها للحصول على الموافقات اللازمة من إدارة الغذاء والدواء الأمريكية FDA لبدء التجارب العملية على البشر بعدما أجرت تجربتها العملية الأولى على الحيوانات حيث قامت في إبريل 2021 بعرض تلك التجربة في فيديو* عن قِردٍ يلعب إحدى ألعاب الكمبيوتر (Mind Pong) بتناسق واضح بين استخدامه ليديه في تحريك ذراع الكمبيوتر وبين أفكار دماغه التي تم تركيب الشريحة بها.
وقد قام “ماسك” في عرض يوم الأربعاء الماضي بتقديم فيديو آخر** لقِردٍ جلس إلى شاشة كمبيوتر وكانوا يضيئون له بعض الحروف تباعًا على لوحة المفاتيح ليقوم هو بالإشارة إليها بالمؤشر الإلكتروني وفقًا لأفكار من دماغه المحشوة بالشريحة العجيبة.
تَلَقى “ماسك” هجومًا شديدًا وانتقادات عديدة من جماعات الضغط الأمريكية وغير الأمريكية -لأسباب لا تخلو من دوافع سياسية بالتأكيد- تتعلق بامتهانه لحيوانات التجارب حيث اتهمه البعض بتعمد قتلها كما جاء بتقرير*** “لجنة الأطباء للدواء المسئول” (Physician Committee for Responsible Medicine) من جراء زرع تلك الشريحة التي تحتوى على مواد تسبب الشلل والعدوى المزمنة بخلاف تدميرها لجماجم تلك الحيوانات.
وعلى الرغم من أن شركة “سينكرون” التي ترفع شعار “فَتْح الطرق الطبيعية السريعة للدماغ” قد سبقت في مجال التجارب العملية شركة “نورالينك” التي ترفع بدورها شعارًا أكثر جرأة “تكنولوجيا اختراق الدماغ”، حيث قامت بتركيب شريحة في دماغ إنسان أمريكي في يوليو من هذا العام بعدما حصلت على الموافقات اللازمة من السلطات الأمريكية خلال العام الماضي، إلا أن لما يأتى به “إيلون ماسك” -على وجه الخصوص- بريق من نوع خاص يدفع دومًا لردود أفعال ذات طابع مختلف سواء كان ذلك في مقام المَدح أو الذم.
وبعيدًا عن ردود الأفعال المتعاطفة مع حيوانات التجارب والتي لم تحظ شبيهاتها بالدعاية المُستَحَقة حين كان الأمر يتعلق بأرواح الملايين من البشر، وبعيدًا عن نظرية المؤامرة التي يتبناها الكثيرون والتى يُظَنُ في ضوءها أن “ماسك” لا يسعى لخدمة الإنسانية وتسهيل حياة البشر من خلال زرع تلك الشرائح بأدمغتهم بقدرِ ما يهدف للسيطرة والتجسس عليهم من خلال تتبع أنشطتهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بعيدًا عن ذلك كله فقد كانت طبيعة ومنهجية أبحاث كل من شركتي “نورالينك” و”سينكرون” كاشفةً بشكل بالغ الوضوح لأزمة العقل العربي.
ففي الوقت الذي لا يُهدِر فيه “الآخَر” ثانيةً واحدةً واضعًا كل إمكاناته المادية والتكنولوجية لخدمة العِلم وما يتعلق به من أبحاث لأغراض التقدم وإيجاد مكان تحت شمس المستقبل، مازال العقل العربي يرزح تحت أعباء الماضي في انقطاعٍ تاريخي عن الواقع.
يُجهِد “الآخَر” نفسه بمنتهى التجرد لتفكيك معضلات الحاضر من خلال “البحث” فيما هو مجهولٌ من المستقبل سعيًا وراء تحقيق أهداف تتراوح ما بين السامي والدنيء -وإن اشتركت في أدوات البحث العلمي- بينما نُجهِد نحن أنفسنا -دون أداءٍ بحثيٍ حقيقيٍ مُبدعٍ وخلاق- في التنقيب في تراث الماضي إما سعيًا لإيجاد حلول جاهزة لمشكلاتِ واقعٍ مختلف تمامًا وإما لمجرد إثبات خطأ ما توصل إليه “الآخَر” حين حَطَم تابوهاتنا نحن التي تجاوزها الزمن.
ويكفيك في هذا السياق أن تقارن بين ما تفعله شركة أخرى يملكها “ماسك” وهي شركة سبيس إكس التي تعمل منذ سنوات على أبحاث لاستعمار كوكب المريخ، وبين ما تسعى إليه بعض النخب العربية التي نال كثير من أعضاءها -للعجب الشديد- إجازات علمية من جامعات أمريكية وأوروبية لإثبات أن الأرض “مُسَطَحَة”، ناهيك عن أمور بائسة أخرى لا يتسع المقال لسرد تفاصيلها.
الحاصل أن العقل العربي قد قام بتكبيل نفسهُ بنفسهِ عبر القرون بمُعيقاتٍ اختلط فيها الثابت بالمتغير والمطلق بالنسبي مما أفضى إلى نسف منهجية “البحث” من أساسها، فلا يمكن “للبحث” (أي بحث) أن يكون موضوعيًا ومن ثَم مُنتجًا لأفكار عملية تتناسب مع واقع الإنسان المُعاش في محيطه المحلي والأقليمي والدولي بإعتبار أنه لا يعيش مُنعزلًا، إلا إن كان ذلك “البحث” مُتجردًا. تلك هي أزمة العقل العربي الكبرى التى ساهم “إيلون ماسك” وقِردِه دون قصدٍ في كشفها بكل جلاءٍ لمن ألقى السمع وهو شهيد.
* https://www.youtube.com/watch?v=rsCul1sp4hQ