أفكِّر كثيرًا في طبيعة التدين المصري: لماذا هو مختلف عن غيره من أنماط التدين؟ ومن أين تأتي خصوصيته وامتيازه؟

دعنا نتذكر هذه الحقيقة التي يعلمنا إيّاها أساتذة التأويل والتفسير، وهي أن الإنسان كائن مؤوِّل، فهو يُفسّر كل ما يحيط به من أشياء وإشارات ويمنحها قيمة دلالية داخل منظومة من الأفكار والمعتقدات.. الإنسان يُفسِّر الجديد الطارئ في ضوء القديم الرّاسخ، وهذا يعني أن القديم لا يموت أو لا ينتهي، ولكنه ينساب –بصور متعددة- في الجديد، يحيا من خلاله.. ولا يقتصر الأمر على التدين فقط، وإنما يمتد ليشمل كثيرًا من أشكال الثقافة.

فالثقافة تحيا بالتأويل، وتثبت جدارتها بالبقاء من خلال قدرتها على استيعاب الجديد وتطعيم جسدها به. بالتأويل تنسلّ الأنساق القديمة في التصورات الجديدة، بقدر ما تنسل التصورات الجديدة في الأنساق القديمة. قد تتغير الشعارات، ولكنّ الجوهر القديم يبقى فاعلًا، وكأنّنا إزاء حالة من الحوار أو الجدل لا تعرف التوقف، وهذا الجدل ينحاز فيه العقل والوجدان للحظة الحاضر. والحاضر –بطبيعته- عظيم الإشكال، وإشكالاته تطرح نفسها بقوة على الوعي ببعديه الفردي والجمعي، ولا مفرّ أمامنا من (الوجود فيه).

وحين ينتمي الإنسان إلى ثقافة راسخة تضرب بجذورها في أعماق التاريخ مثل الثقافة المصرية، يغدو التأويل حاجة ضرورية تتأكد بها “هويته” التي تجعل ماضيه منسجمًا مع حاضره؛ فالتأويل ليس اختيارًا، وإنما هو فطرة إنسانية، وممارسة يوميّة يتأكد بها حضور الذات الجماعية والفردية على حد سواء.

التأويل إذن حوار مستمر بين الماضي والحاضر عبر مستويات متعددة، واعية وغير واعية، وهنا يأتي دور الثقافة، وقدرتها على الانعكاس على نفسها، ومساءلة تحولاتها، لتتصل العملية التأويلية الحضارية بأهداف الجماعة، ودورها ورؤيتها للعالم من حولها.

كما أنه لا تُوجد جماعة بلا ذاكرة، ولا تتشكل الذاكرة بلا ثقافة تتلقى الوارد عليها عبر آليات تعمل بهدوء وانسيابيّة، فيغدو الجديد -مع الزمن- جزءًا من مكوناتها، إنها تعيد إنتاجه وتُشكِّله وفق رؤيتها وتصوراتها، ويمكننا هنا الحديث عن ثلاث آليات متداخلة تتحكم في طبيعة الجدل بين القديم والجديد، وهي: الاستبدال، والإدماج، والإزاحة.

وسنحاول اختبار هذه الآليات في تفصيلة دقيقة تخص المعتقد الديني للمصري القديم، وكيف تأوَّل المعتقد الديني الجديد؛ فقد غيّر المصريون –كما هو معروف- دينهم ولغتهم أكثر من مرة، وهذا التغيير في حد ذاته كان موضوعًا مثيرًا بالنسبة لكثير من الدارسين؛ إذ كيف تتغير المعتقدات، وقد تغلغلت وجدانيًّا في حياة شعب ما لمئات السنين؟ والحقيقة أن لفظ “التغيير” قد لا يكون ملائمًا؛ فقد وجدت المعتقدات القديمة مساحة وافرة لتحاور المعتقد الجديد، وتستوعبه، بمعنى أن القديم تمكَّن من الحياة بصيغ جديدة.

ولعلنا لسنا في حاجة إلى التأكيد على أن المصري القديم يمتاز عن غيره من الشعوب بمركزية مفهوم الموت في عقيدته وحياته؛ فحياته متصلة أوثق اتصال بعقيدته الأخروية، ومفهوم البعث والنشور والحساب، وما يتبعه من جزاء، ومن أجل هذا المفهوم أقيمت المعابد الضخمة، وأنجزت منظومة هائلة من القيم الحياتية التي هي بمثابة الجسر الهادي إلى الآخرة.

ومن البَدهيّ والحال كذلك، أن تنشأ حول هذا الفهم منظومة شديدة التركيب من العادات والقيم، وأن تترسخ في وجدان المصريين عبر آلاف السنين، وقد تركت لنا متون الأهرام، بالإضافة إلى ما يعرف بـ”كتاب الموتي” أو “الخروج بالنهار” حصيلة وافرة لهذه المعرفة الناعمة التي وجدت مستقرًا لها في الديانتين السماويتين التاليتين، وسنحاول هنا أن نكون أكثر تحديدًا، ونقارب نصًّا من الأدب الجنائزي ونرى كيف استوعبته مصر الإسلامية، يقول المصري القديم:

“هأنذا أجيء إليك، أجلب الحقيقة وأطردُ الإثم: إنّي لم أقترف إثمًا ضد البشر، ولم أسع بأحد عند رئيسه، ولم أجوّع أحدًا، ولم أدع أحدًا يبكي، ولم أقتل، ولم أدعُ إلى القتل، ولم أسبب لأحد ألمًا.. ولم أُطفِّف ميكال الحَبّ، ولم أنقص مقياس الذراع، ولم أزيّف مقياس الحقل، ولم أسلب اللبن من فم الطفل، ولم أسرق الماشية من مرعاها، ولم أمنع ماء (الفيضان) في وقته، ولم أسدّ على الماء الجاري، ولم أعترض الإله في شيء من إرادته”. (أدولف إرمان: ديانة مصر القديمة 257)

هذا ما يُقرّ به الميت في العالم الآخر، والنص يبدو مثالًا ناصعًا على إبراء الذمة، والالتزام بالنواهي المقررة، إنه لا يقول فعلت كذا وكذا، ولكنه ينفي عن نفسه أي فعل يعوق مسيرة الحياة على الأرض، إنه ينفي عن نفسه ارتكاب الشرور، وهو ما يعني طهارته من كل إثم.

وهذه منظومة أخلاقية رحبة، لم تعارضها الأديان السماوية، وإنما أكدتها، وبالتالي حدث فعل “الإدماج”، والإدماج فعل تقوم به الذات الجماعية حين يتسق الجديد مع القديم، فالنص السابق مثلا لا يحتاج إلى أي تغيير كي يكون مثالًا للخلق القويم.

ومع الإسلام سنجد مساحة وافرة تدمج هذه الأخلاق في منظومتها، ولا يمكننا– بطبيعة الحال- تتبع كل النصوص في هذه المساحة، ولكننا سنتوقف إزاء نص يمكن اعتباره أيضًا أدبًا جنائزيًّا إسلاميّا موازيًا، وأعني به تلك النصوص الشفاهية التي يُلقِّن فيها الأحياءُ الأموات حججهم وقت الحساب وبعد الدفن، وصيغة “تلقين” الموتى تختلف باختلاف الثقافات، ولكنها في مصر أخذت بعدًا دراميًّا واضحًا، فالميت لن يدفن ويترك وحيدًا، وإنما سيقوم على رأسه أقاربه ومحبوه برهة من الوقت، حتى تفرغ الملائكة من محاسبته، والصيغة المتداولة في مصر إلى اليوم تحاول استيعاب الأفكار الأساسية في الأدب الجنائزي القديم، وكان من الصعب على دار الإفتاء المصرية –مثلا- أن تفتي بحرمة هذه الصيغ، رغم أنها تقرّ بأن هناك من المذاهب والتيارات التي لا تبيح تلقين الموتى وتكتفي بالدعاء لهم (راجع موقع دار الإفناء المصرية)، يقول الملقن:

“… يا عبد الله، يا ابن أمة الله، ذهبت عنك الدنيا وزينتها، وصرت الآن في برزخ من برازخ الآخرة، فلا تنس العهد الذي فارقتنا عليه في دار الدنيا وقدمت به إلى دار الآخرة، وهو شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، فإذا جاءك الملكان الموكلان بك، فلا يزعجاك ولا يرعباك، واعلم أنهم خَلْق من خلق الله تعالى، كما أنك أنت من خلقه، فإذا أتياك وأجلساك وسألاك وقالا لك: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ وما اعتقادك؟ وما الذي متَّ عليه؟ فقل لهما: (… ) تمسك يا عبد الله بهذه الحجة، واعلم أنك مقيم بهذا البرزخ إلى يوم يبعثون، واعلم يا عبد الله أنّ الموت حق، وأن نزول القبر حق، وإن سؤال منكر ونكير حق، وأن البعث حق، وأن الحساب حق، وأن الميزان حق… إلخ اللهم يا أنيس كل وحيد، ويا حاضرًا ليس يغيب، آنس وحدته، وارحم غربته، ولقنه حجته…”.

لقد اختصرتُ الصيغة قدر المستطاع، وهي عمومًا شديدة التجريد، لا تذكر اسم الميت، وتكتفي بالوصف، فهو “عبد الله”، وإذا كان الميت امرأة تتحدث الصيغة عن “أمة الله”.. نحن هنا إزاء صيغة شعبية غير رسمية، تمامًا كما كان كتاب الموتى. والهدف هو مساعدة الميت على اجتياز الاختبار، ومنحه بعض العون والأنس بأقاربه، صحيح أنها تركز على المنظومة العقدية دون الأخلاقية الحياتية، فالميت هنا يقر بكذا وكذا، إنه يؤكد صلته السماوية، وإيمانه القاطع برسولها، ولكن هذا الإقرار ليس نهاية الأمر، فبعده ينتقل إلى الأعمال، وهي كلها من جنس الأخلاق القديمة.

ولن تنتهي علاقة الأحياء بالميت عند هذا الحد؛ فهم سوف يصلونه وخصوصًا في الأعياد، حيث يزار القبر وتقدم القرابين التي سيأكلها الفقراء الذين سيدعون له، ويصلونه بها، وهذه أيضًا واحدة من المظاهر العقدية القديمة؛ فقد كان الميت يحصل على الطعام في الأعياد التي جرى الناس فيها على أن يأكلوا في بيوتهم أطيب الطعام ويشربوا أحسن الشراب…” (ديانة مصر القديمة ص376)

وكما كانت آلية (الإدماج) أكثر آليات التأويل الحضاري والعقدي حضورًا، وهذا دال على مقدار التوافق والانسجام، كانت آلية (الإزاحة) أقل هذه الآليات فاعلية، واقتصرت على الوحدات العقدية شديدة التناقض، كتعدد الآلهة وضرورة الحفاظ على الجسد بعد الموت (التحنيط) كي تتعرف عليه الروح التي ستحل فيه من جديد في العالم الآخر.

يمكننا أن ننظر في نظام الكهنة باعتباره تجليًّا كبيرًا لشكل الولاية والقداسة في الديانتين المسيحية والإسلامية (الرهبنة والولاية)، وهذا النظام هو الميدان الأوضح لآلية (الاستبدال)، فقد كانت الطبقة العليا لكبار الكهنة ذات صفات محددة، فالكاهن الأكبر في هليوبوليس يسمى “كبير الرّائين”، كما كان كبار الكهنة في الدولة القديمة أبناء الإله، العارفين بالكلام والأشياء الإلهية، وكانت الطهارة شرطًا أساسيا لكل من يقترب من الأشياء المقدسة.

*

فالتأويل ممارسة يومية فردية وجماعية، أو هو حوار لا يتوقف بين الماضي والحاضر، فلا يعرف الماضي الثبات أو الوجود المنعزل عن التأثير والفاعلية، كما أنّ التأويل لا يُبقى للجديد الوافد استقلاله المثالي المُفترض.. فكل جديد لا يمكنه الوجود إلا بالفهم والاستيعاب، ولا فهم بلا وعي خاص تُشكِّله الثقافة ذات الطبقات الممتدة في التاريخ. وهذا يعني أن كل جديد لا وجود له إلا بالفهم، وأنّ الحديث عن وجود تصوّر ما أو عن معتقد ديني على نحو مثالي منعزل عن إنسانية الفهم، هو حديث لا وجود له. فالفهم جزء من الوعي وحركة التاريخ، كل فهم نسبي وخاص وقابل للإضافة والحذف والتعديل.. ومن هنا تحديدًا، يمكننا الحديث عن تعددية التدين في الدين الواحد.