منذ عدة أيام تفاجئ المصريون بخبر سقوط “علياء عامر” من شرفة منزلها في إيتاي البارود بمحافظة البحيرة (شمالي البلاد).

كتبت “علياء” قبل رحيلها، على صفحتها الشخصية بـ”فيسبوك”، أن ابن عمها الكبير تحرش بها وهي صغيرة، وأنها عندما أخبرت والدها لم يصدقها. واختتمت رسالتها القصيرة والأخيرة بجملة “وداعًا”. لاحقًا، توصلت تحقيقات الشرطة إلى أن علياء ألقت بنفسها من الشرفة.

قصة انتحار علياء مأساوية، لكنها أيضًا كاشفة لمشكلة كبيرة داخل الأسرة المصرية، وأزمة في العلاقة والتواصل بين الآباء والأبناء. خاصة فيما يتعلق بالاعتداء والتحرش الجنسي.

تعرضت “علياء” كمثيلاتها من الفتيات -وهن كثر- لتحرش أصاب طفولتها بفعل أحد افراد عائلتها، فقررت بشجاعة بالغة إخبار والدها -المفترض به حمايتها- لكنه آثر عدم تصديقها عوضًا عن تقبل تجربتها المريرة ومساعدتها في تخطي أزمتها، فكانت الصدمة مضاعفة وأكثر إيلامًا، حتى انتهت بقرار إنهاء حياة لم يعبأ بها الأقربون.

العنف.. آثار لا تنتهي

تؤكد الدراسات أن إساءة معاملة الأطفال بشتى أشكالها سواء جسديًا أو جنسيًا أو عاطفيًا له آثار خطيرة على صحة الفرد في حياته لاحقًا في مرحلة البلوغ. وتتنوع هذه الآثار بين الاكتئاب وتعاطي الكحوليات بكثرة والتدخين والسمنة والدخول في نوبات صحية سيئة.

وقد توصلت دراسة -صادرة أواخر 2017- إلى أن سوء معامة الفتيات الصغيرات وتعرضهن لانتهاكات جنسية أو جسدية مرتبط بمستويات أعلى بالإصابة بمرض السرطان عند البلوغ مقارنة بالرجال. ونصحت الدراسة بمعالجة الآثار النفسية لتلك التجارب الصعبة بشكل سريع. وإلا سيؤدي عدم تجاوزها إلى استمرار آثارها التي تؤدي في أحيان كثيرة إلى نتائج مأساوية، قد تصل للانتحار، كما حدث في حالة “علياء”.

اقرأ أيضًا: ناجيات من التحرش.. عندما تكون “الشهادات” جريمة

دور ورد فعل الآباء

الاعتداء الجنسي على الفتيات هو انتهاك صارخ لحقوق الطفل وحقوق المرأة. كما أنه خطر على الصحة العامة. ولكن هناك وسائل لمنعه ومعالجة آثاره. وللأسرة بشكل عام والآباء والأمهات بشكل خاص دور هام في حماية الأبناء من التحرش أو سوء المعاملة وتقديم الدعم في حال حدوثه.

هذا الدور يبدأ بتعريف الأبناء منذ صغرهم بالتحرش والاعتداء الجنسي بجميع أشكاله جسديًا ولفظيًا. ولكن التعريف وحده لا يكفي. إذ إنه يجب أن يحافظ الآباء على مساحة الحوار المفتوح مع أبنائهم وبناء الثقة من أجل أن يخبروهم بأي واقعة تحرش أو اعتداء قد يتعرضون له في المستقبل.

هذا الرابط بين الآباء والأبناء يضمن: أولًا؛ محاسبة المتحرشين والمعتدين أمام القانون، وثانيًا؛ يوفر للضحايا في تلك السن الحرجة الدعم الطبي اللازم والعلاج النفسي المطلوب.

إن مصارحة الأبناء لأبائهم بشأن الاعتداء الجنسي ليس بالأمر السهل. خاصةً على الأطفال الأصغر سنًا، فالأطفال إن كان ينقصهم الوعي قد لا يدركون ماذا حدث لهم وقتها. كما أن الفتيات قد يخافون من عدم تصديقهم. بالإضافة إلى الخوف من احتمالية لومهم على ما حدث.

إن مصارحة الأبناء لأبائهم بشأن الاعتداء الجنسي ليس بالأمر السهل. خاصةً على الأطفال الأصغر سنًا (الصورة: وكالات)
إن مصارحة الأبناء لأبائهم بشأن الاعتداء الجنسي ليس بالأمر السهل. خاصةً على الأطفال الأصغر سنًا (الصورة: وكالات)

المصارحة صعبة لكنها ضرورية

لكن تجربة المصارحة ليست صعبة على الأبناء فقط بل على الآباء أيضًا.

تشير الدراسات إلى أنه عندما يخبر الأطفال آبائهم بتعرضهم للاعتداء أو التحرش الجنسي يواجه الآباء مشاعر مختلفة، تتنوع بين الصدمة وعدم القدرة على التصديق والخوف ولوم الذات للشعور بالفشل في حماية الأطفال أو التفكير في العلاقة بينهم وبين أطفالهم إذا تأخروا في مصارحتهم.

وتتضاعف تلك المشكلات في مصر على عدة مستويات. خاصةً مع ضعف ثقافة الآباء والأمهات فيما يتعلق بالتعامل مع الأبناء في مسائل التحرش والاعتداء الجنسي. والشعور العام بالميل نحو عدم تصديق الأطفال أو الإنكار والتجاهل من أجل حماية أحد أفراد الأسرة و”سمعة” العائلة.

كما أن انتشار الأمية وشيوع التقاليد الخاطئة حول سمعة العائلة، إلى جانب ضعف المستوى التعليمي في المجتمع، وغياب الثقافة الجنسية كلها عوامل تولد ردود فعل تنتج عنها آثار مدمرة للأطفال الذين يتعرضون لاعتداءات جنسية أو أي شكل آخر من إساءة المعاملة سواء جسدية أو عاطفية.

عدم كفاية وسائل الحماية

حماية الأبناء من الاعتداءات ليس مرتبطًا فقط بالأسرة. بل أيضًا بمؤسسات المجتمع. خاصةً إذا لم تجد الضحية ملاذًا آمنًا للمساعدة في الأسرة (وهذا قد يكون لأن أحد أفراد الأسرة هو المعتدي) أو في حال عدم تصديق رواية الضحية.

وعلى سبيل المثال، العلاقة بين التلاميذ والمدرسين في المدارس ضعيفة للغاية، خاصةً في المدارس الحكومية. كما أن ثقافة اللوم الشائعة في المجتمع تمنع كثير من التلاميذ من الشكوى في مؤسساتهم التعليمية.

والمراهقون/ات يفتقرون للثقافة القانونية الأساسية اللازمة لإبلاغ السلطات المعنية في حال تعرضهم لاعتداء من أي نوع.

رغم ذلك، هناك وسائل عدة للتبليغ عن الاعتداء أو التحرش الجنسي، منها خط نجدة الطفل 16000 التابع للمجلس القومي للطفولة والأمومة. وأيضًا الخط الساخن للتبليغ عن حالات التحرش التابع لوزارة الداخلية والمجلس القومي للمرأة 08008883888. ذلك بالإضافة إلى الخط الساخن التابع للمجلس القومي للمرأة 15115 الذي يختص بتلقي الشكاوى وتقديم الدعم القانون والنفسي. بالإضافة إلى صفحات “فيسبوك” و”واتس آب” والمواقع الإلكترونية المتاحة للتبليغ.

اقرأ أيضًا: توصيات “دام” لهدم حواجز التمكين وإنهاء العنف الأسري في مصر

وقد نشطت الدولة في السنوات الأخيرة عبر وزارة الداخلية والمجلس القومي للمرأة في تلقي بلاغات التحرش والتحقيق فيها. وحققت أجهزة الدولة استجابة سريعة في بلاغات التحرش، التي تشير الإحصاءات إلى دورها الهام في القبض على المتحرشين والمجرمين ممن يبتذون الفتيات إلكترونيًا.

لكن -وهذا ما تظهره حالة مثل “علياء” مؤخرًا- لا يزال هناك غياب للوعي المجتمعي بهذه القضية. وهو ما يؤكد أن المجتمع المصري بحاجة إلى اجراءات عاجلة من أجل دعم وحماية الأطفال والمراهقين الذين يتعرضون للاعتداء الجنسي.

وتلك الإجراءات يجب أن تتضمن تثقيف الآباء حول أهمية وكيفية دعم أطفالهم، وتغيير ثقافة العادات المغلوطة الشائعة في المجتمع. وكذا تغيير العلاقة بين المدرس والطالب، لتكون مبنية على الثقة، عبر برامج تدريبية للمعلمين. مع إلزام المدرس بإبلاغ السلطات في حال تلقيه شكوى من أحد الطلاب/ات.

كما يجب أن تتضمن هذه الإجراءات توعية الأطفال والمراهقين بشأن الاعتداء والتحرش الجنسي، وأهمية الإبلاغ وطلب المساعدة. مع توفير آليات سهلة تمكنهم من التقاضي ومساءلة الجناة بحقهم، تتناسب مع سن كل مرحلة عمرية. ذلك لأن المشكلة التي كشفتها “قضية علياء”، لا تتعلق فقط بالاعتداءات الجنسية. بل تشمل جميع حالات سوء المعاملة التي قد يتعرض لها الأبناء داخل وخارج الأسرة.