عرف عالم الاقتصاد والاجتماع السياسي السويدي جونار ميردال «الدولة الرخوة» بأنها «الدولة التي تصدر القوانين ولا تطبقها، ليس فقط لما فيها من ثغرات، ولكن لأن لا أحد يحترم القانون.. الكبار لا يبالون به، لأن لديهم من المال والسلطة ما يحميهم منه.. والصغار يتلقون الرشاوي لغض البصر عنه».

وفي كتابه «الدراما الآسيوية.. بحث في فقر الأمم» الذي نشر مطلع سبعينيات القرن الماضي، أشار ميردال إلى أن رخاوة الدولة تشجع على الفساد، وانتشار الفساد يزيدها فسادا، «الفساد ينتشر في السلطتين التنفيذية والتشريعية، حتى يصل إلى القضاء والجامعات، ثم يصبح الفساد في ظل الدولة الرخوة أسلوب حياة».

ومن أهم سمات الدولة الرخوة وفقا لما أورده ميردال في كتابه: «عدم احترام القانون وضعف ثقة المواطنين به، وكثيرا ما يطبق على مناهضي الفساد.. ووجود مؤسسات حكومية أكثر من اللازم ومن دون دور واضح إلى درجة تتداخل وتتشابه معها صلاحيات المؤسسات وهدفها خلق مناصب للمحسوبين.. انهيار البنية التعليمية المدرسية والجامعية.. وغياب الشفافية وعدم الفصل بين المصلحة العامة والمصلحة الخاصة، وخاصة بين المال العام والمال الخاص»

إذن عندما تتراجع هيبة الدولة وتفقد قدرتها على تطبيق القانون على كل مواطنيها دون تفريق، تصبح الدولة أقرب إلى الرجل المريض الذي يعاني الضعف وعدم القدرة على الحركة، حينها تدخل الدولة في مرحلة «الارتخاء»، وفي هذه المرحلة تتحول الدولة إلى مطية لفئة أو أشخاص معينين، واعتبر ميردال أن تلك المظاهر هي سر البلاء الأعظم، وسببا رئيسا من أسباب استمرار الفقر والتخلف.

استنادا إلى نظرية ميردال على «الدولة الرخوة»، قدم المفكر الراحل الدكتور جلال أمين رصدا لواقع الأوضاع في مصر، لافتا إلى أن بلادنا في نهاية الستينيات عندما ظهرت تلك النظرية كانت أبعد ما تكون عن وصف الدولة الرخوة.

ويشير أمين إلى أن مظاهر الدولة الرخوة بدأت في مصر منذ عصر السادات الذي كان وفق تقديره «محبا للترف لذلك كان يضيق بقيود القانون وكان أكثر تسامحا مع من يخرج عليه من المقربين منه»، ثم جاء عهد الرئيس مبارك، «كان كل يوم يمر منه يأتينا بدليل جديد علي رخاوة الدولة المصرية».

ويرى أمين أن ثورة 25 يناير اندلعت في مصر للإطاحة بالرئيس مبارك احتجاجا بالدرجة الأولى علي تفشي الفقر في المجتمع المصري، والذي تسببت فيه رخاوة الدولة، التي تنفذ القانون بصورة انتقائية، أو تعطل تنفيذه حين تريد.

مشهد الاعتداء الذي جرى قبل أيام على طاقم تمريض مستشفى قويسنا العام من أحد الضباط، دليل دامغ على أننا لازلنا نعيش في كنف الدولة الرخوة التي وضع ميردال تعريفها وحدد سماتها، ووصم بها جلال أمين عصري السادات ومبارك.

تغرق مستشفى قويسنا كما غيرها من مسشفيات مصر الحكومية في مستنقع من التردي والأهمال، فلا يحصل المترددون على منشآتنا الطبية على الحد الأدنى من الخدمة العلاجية اللائقة، فالقطاع الطبي الحكومي تداعى ويعاني من تقصير شديد خلال العقود الأخيرة، إثر عجز الحكومات المتعاقبة عن تقديم رؤية واضحة وبرنامج زمني محدد وتوفير التمويل اللازم لتقديم خدمة طبية مجانية كريمة للمواطن الذي حالت ظروفه الاقتصادية اللجوء إلى المستشفيات الخاصة.

«عجز شديد في الأطباء نتيجة ضعف المرتبات، وغياب الأجهزة والأسرة نتيجة ضعف التمويل، وتراجع مستوى الأطقم المساعدة نتيجة عدم وجود تدريب كاف»، هكذا حصر أحد المسئولين السابقين بهذا القطاع أسباب ضعف مستوى القطاع الطبي الحكومي، لافتا إلى أن ما حدث في مستشفى قويسنا يتكرر في العديد من مستشفيات الأقاليم.

«تدفع الأطقم الطبية فاتورة عجز الحكومة عن توفير الحد الأدنى من الخدمة الطبية للجمهور، ويواجهون ثورة أهالي المرضى عندما يبلغوهم بعدم توفر أسرة أو أدوية أو أكياس دم أو غيرها من الأدوات الأساسية لتقديم الخدمة الطبية»، يضيف المسئول السابق الذي يرى أن الحكومة تعلم جيدا أسباب التراجع لكنها لم تتحرك لعلاج تلك الأسباب.

لا يبرر هذا المستوى من التردي في المستشفيات لأي مواطن أيا كان موقعه أو منصبه أن يلجأ إلى القوة حتى يحصل على حقه في خدمة طبية لائقة، فما حدث في مستشفى قويسنا العام واعتداء أحد الضباط بـ«الكرباج» على طاقم التمريض وأمن المستشفى بحسب ما نُقل بمقاطع الفيديو المتداولة، دليل على أن المعتدي موقن بأنه لن يُساءل أو يحاسب، فهو يعلم طبيعة النظام الذي ينتمي إليه ويعرف جيدا أن القوانين توضع لتنفذ فقط على مكشوفي الظهر، أما المسانيد والمحاسيب وأصحاب الحظوة فهم فوق القانون وخارج إطار تطبيق العدالة.

غياب الردع في الدولة الرخوة فتح الباب على مصرعيه لتعدد حالات الاعتداء والإفلات من العدالة، وشجع أصحاب المال والسلطة على التجبر ودهس وجوه الفقراء الذين لا يملكون من أمرهم شيء ولا ملجأ إليهم إلا الله.

كلما تكررت مشاهد الاعتداء على المستشفيات الحكومية وتحولت إلى «تريند» بمواقع التواصل الاجتماعي، يبارد أعضاء البرلمان بالحديث عن ضرورة صدور قانون المسئولية الطبية على أن يتضمن موادا تُغلظ العقوبات على من يقوم بالاعتداء على المنشآت والأطقم الطبية سواء أطباء أو تمريض أو عاملين، وما أن تهدأ العاصفة حتى يخفت مجددا الحديث عن هذا القانون الذي دخل أدراج البرلمان منذ فترة ليست بقصيرة لكنه لم ير النور بعد.

 

في آخر تصنيف صدر عن الدول الأكثر هشاشة، حلت مصر في المرتبة 39 عالميا من بين 179 دولة شملها التقرير الذي يصدر سنويا عن منظمة صندوق السلام «Fund For Peace» بالتعاون مجلة فورين بوليسي.

مؤشر الدول الهشة الأخير الذي صنف مصر ضمن فئة دول «التحذيرات العالية»، يحلل عوامل النجاح والفشل لدى الدول ويسلط الضوء على الضغوط التي تتعرض لها، ويشير إلى متى تدفع هذه الضغوط بالدولة نحو حافة الفشل.

ووفق التقرير الأخير، تصدرت اليمن الدول الأكثر الهشاشة في العالم وتلتها الصومال وسوريا، وجنوب السودان، فيما تصدرت فنلندا الدول الأقل هشاشة في العالم، بترتيب 179 وتلتها النرويج، وأيسلندا، ونيوزيلاندا، والدنمارك. بينما جاءت الإمارات أقل الدول العربية هشاشة بترتيب 151.

وتضم العوامل التي يتم من خلالها تصنيف الدول في خانة الفشل أو النجاح 12 مؤشرًا. منها مؤشرات اجتماعية، مثل زيادة السكان، وتوزيعهم، والنزاعات المجتمعية الداخلية. ومؤشرات اقتصادية مثل غياب التنمية الاقتصادية، وعدم المساواة في التعليم والوظائف والدخل، ومستويات الفقر ، ومعدل النمو، والتوزيع، والشفافية والفساد.

وتضم المؤشرات السياسية، فقدان شرعية الدولة أو «إجرام الدولة» والذي يشمل فساد النخبة الحاكمة، وغياب الشفافية والمحاسبة السياسية، والتدهور في تقديم الخدمات العامة، وانتهاك حقوق الإنسان وغياب القانون وتقييد الصحافة والتعسف، وتنامي نفوذ المؤسسات العسكرية لتصبح دولة داخل الدولة.

لن تتقدم مصر على مؤشر الهشاشة العالمي أو غيره من المؤشرات الدولية، ولن ينصلح حالها في ظل غياب دولة القانون، وانعدام مبادئ الشفافية والمساءلة والمحاسبة، وهي مبادئ ترتبط في مجموعها بالدولة الديمقراطية الحديثة التي تؤمن سلطتها الحاكمة أنها تعمل لدى المواطن وتسعى لنيل رضاه وتحترم إرادته وتحفظ كرامته.

هذه الدولة التي خرج ملايين المصريين في 25 يناير 2011 ثم في 30 يونيو 2013 لوضع قواعدها لم يستدل على عنوانها بعد، فدولة الرئيس الراحل مبارك لاتزال قائمة جاثمة على صدورنا، سلطة متحكمة مسيطرة على كل شيء لا تسمح بانتخابات حرة نزيهة تترجم قناعات الناس وتحققق طموحاتها ولا بمؤسسات مستقلة تُساءل وتُحاسب الكبير قبل الصغير، والطرف الثاني في معادلة تلك الدولة هو المواطن المهمش المقهور الذي أُخرج من المعادلة بالإخضاع والترهيب، هذا المواطن الصابر لن يطول صبره وسيفيض غضبه لو لم تُقام الدولة التي يشعر فيها بالعدل والمساواة والحرية.

لا سبيل لوقف سيل الاعتداءات على الأطقم الطبية وغيرهم من مقدمي الخدمات الحكومية إلا بالعمل على تقديم خدمة ترضي الجمهور، ولن يحدث ذلك إلا بتوفير التمويل اللازم لمنح الموظفين العمومين مرتبات توفر لهم الحد الأدنى من الحياة الكريمة وتجهيز المنشآت بالأدوات والأجهزة اللازمة التي تساعد على تقديم خدمة تليق بالمواطن وبالدولة، ولن يتوفر هذا التمويل إلا بوجود سلطة رشيدة تجيد ترتيب أولويات إنفاقها.