في ص 113 من كتابه “التأملات في تاريخ الرومان: أسباب النهوض والانحطاط” يقول مونتسكيو 1689 – 1755: “ذهب الطاغية، ولم تعُد الحرية، لأن أسباب غيابها لم ترتفع”.

المقصود بالطاغية هنا هو يوليوس قيصر، ولد في 12 يوليو 100 قبل الميلاد وجرى اغتياله في بهو مجلس الشيوخ في روما في 15 مارس عام 44 قبل الميلاد وكان آخر الحكام الجمهوريين وبعده تحولت إلى النظام الإمبراطوري على يد أوكتافيوس الذي حمل لقب أغسطس ثم ابنه بالتبني بتريوس حتى سقط جناحها الغربي 476 م على يد الغزاة من القبائل الجرمانية ثم سقط جناحها الشرقي على يد السلطان العثماني محمد الفاتح 1453م.

الفكرة التي يناقشها مونتسكيو أن الطغيان لا يزول مع زوال الطاغية، لأن الطاغية يترك في طبائع المؤسسات من التملق ما يجعلها مستعدة لتملق من يأتون بعده، كما أنه يترك في أخلاق الناس ما يهون عليهم تقبل الطغيان أو التماس منافعه ودفع أضراره عن أنفسهم دون رفضه أو الدخول في صدام معه. يزول الطغاة لكن يبقى ما ورثوه لمن خلفهم من طغيان.

يبدأ الطغيان في تطويع المؤسسات حد الخضوع وتطويع الشعوب حد الخنوع عندما يتمكن الحاكم من إخلاء الساحة من كل المنافسين فلا يبقى في الصورة غيره فقط>

يقول مونتسكيو في ص 130 “عندما قضى يوليوس قيصر على كل منافسيه من أنصار الحكم الجمهوري تسابق جميع أعضاء مجلس الشيوخ، الأصدقاء منهم والأعداء على حد سواء، إلى إلغاء كل قانون يحد من سلطانه، وتغالوا وتنافسوا جميعا في إضفاء عبارات التعظيم وأوصاف التشريف عليه، الأصدقاء منهم يقصدون إرضاءه، والأعداء منهم يقصدون تضليلة والمكر به، بل ذهب بعضهم إلى اقتراح مشروع قانون يسمح لقيصر بمزايا جنسية تتمثل في مضاجعة كل من يهوى ويشاء من النساء، هذا الخنوع من مجلس الشيوخ هو ما أغرى قيصر بالطغيان والثقة وعدم الاحتراس حتى جرى اغتياله في بهو المجلس، اغتاله أقرب الناس إليه”.

وفي ص 111 يقول: “كان في اليونان وإيطاليا نظرية اسمها نظرية حقوق وواجبات المواطن تبرئ ساحة كل من يغتال غاصب السلطة الشرعية، كان هذا الحق ثابتا في روما طوال العهد الجمهوري الذي بدأ بسقوط النظام الملكي 509 قبل الميلاد واستمر حتى تأسيس النظام الإمبراطوري 27 قبل الميلاد، مبادئ الجمهورية كانت تحرض على مثل هذا القتل وتعتبره عملا من أعمال التحرر وتكافئ القاتل بأن يتولى الحكم مؤقتا، ولهذا ذهب من قتل يوليوس قيصر -وهو بروتوس- للقول “لو عاد القيصر لقتلته مرة ثانيةً”.

ثم يقول: “لقد تبين فيما بعد أن الطغيان لا يموت بموت الطاغية، والحق أن قيصر اغتال حكومة حرة كان يعيش في حماها”.

بعد اغتيال قيصر انزلقت البلاد في حرب أهلية بين كبار القادة العسكريين استمرت ما يقرب من عشرين عاما، من مصرع قيصر 44 قبل الميلاد حتى تولى أغسطس 27 قبل الميلاد، في أثناء الحرب الأهلية ذهب الناس إلى أحد القادة العسكريين العظماء وهو بومبيوس 106 قبل الميلاد – 48 قبل الميلاد وطلبوا منه أن يتقدم الصفوف لإنقاذ النظام الجمهوري وهنا يعلق مونتسكيو بالقول في ص 104 “لقد طلبوا من بومبيوس أن ينقذ الجمهورية ولا يصح أن تسمى جمهورية دولة تستجدي من أحد مواطنيها أن يتولى إنقاذها من هلاك أشرفت عليه”.

***

طغيان قيصر الذي تسبب في اغتياله ثم في انهيار الجمهورية ثم في قيام نظام إمبراطوري أشد طغيانا بدأ من النقطة الاعتيادية في التاريخ، النقطة التي يبدأ من عندها كل طغيان، يبدأ الطغيان نزوة نفس ثم غرور ذات ثم يصير قوة تدمير خاص وعام، يقول مونتسكيو في ص 108 “أخيرا انهارت الجمهورية، لا بسبب طموح بعض الأشخاص كما يُقال عادةً، لكن بطبيعة بعض البشر الذين يزدادون رغة في السلطة كلما حازوا قسطا منها، فيتطلعون إلى الكل بعدما يستحوذون على الجل”.

كأن مونتسكيو يتكلم عن النظام الجمهوري في مصر، حيث يستحوذ الرؤساء على كل السلطات ويخططون للبقاء طول العمر، فيتخلصون من كل منافس، ويقتلون روح المعارضة في البرلمانات، ويجعلون من الحكومات مجرد أدوات، ولا يقتنعون أن هذا الطغيان هو سبب النكسات العسكرية والسياسية والاقتصادية التي انتكست بوزن مصر اقليميا ودوليا، لا فرق في ذلك بين جمهورية قديمة أو جديدة إلا في استمرار التدهور والانحدار.

وطبيعي بعد أن يستحوذ الطاغية على كل السلطات أن يستخدم ذلك في كسر شوكة البرلمان وحسب مونتسكيو لم يكن يوليوس قيصر ينهض وقوفا على قدميه لتحية مجلس الشيوخ الذي اجتمع لتكريمه، بقي جالسا، وتحدث إليهم جالسا، وفي هذه اللحظة يقول مونتسكيو “نفد صبر جميع أعضاء مجلس الشيوخ حتى الأكثر حكمةً ورصانةً منهم”.

قيصر كان يستهين بالشيوخ كقوة سياسية وكبشر كذلك، بما اعتبروه إهانة لهم، وحسب مونتسكيو “لا إهانة فوق الاستخفاف بأعراف الناس والمتواتر من سلوكهم، قد يرى الناس أن في قهر الحاكم لهم اعترافا بما يمثلونه من خطر عليه، لكنهم يعتبرون الاستهانة بهم استصغارا لشأنهم”.

ثم يقول “أبدى قيصر طوال الأعوام عداوة لمجلس الشيوخ، حتى فقد المجلس كل نفوذ، وأصبح محل السخرية، وكان يزدريه علانيةً، وحتى العفو الذي أصدره عن بعض خصومه من الشيوخ كان القصد منه توجيه الإهانة لهم، على أساس أن العفو عنهم معناه أنه يأنف أن ينتقم منهم لهوان شأنهم وصغار خطرهم، صفح قيصر وأصدر عفوا عن أعدائه، وامتدحه على ذلك كثيرون، لكني -والكلام هنا لمونتسكيو- أنه كان يتظاهر بالحلم والتسامح، ومن يتظاهر بالحلم والتسامح بعد أن يكون قد اغتصب كل شيء لا يستحق مثل هذه الإشادة”.

تخيل قيصر أن الرومان عليهم أن يتقبلوه ثم يتحملوه كطاغية ثم يرضوا بالطغيان، كان يصدر القوانين بمفرده، ويضع عليها توقيعات مجلس الشيوخ، وذلك دون علم المجلس ودون علم الأعضاء، كانوا يرون توقيعاتهم بالموافقة على القوانين بعد صدورها وانتشار أمرها، ولذلك سقطت هيبة مجلس الشيوخ في أعين الناس، ولم تعد للشيوخ كلمة مسموعة، بعد أن كانت كلمتهم نافذة في أنحاء المعمورة كلها.

الفقراء والمهمشون لم يكن يعنيهم كثيرا تحت أي نظام حكم يعيشون، فلا فرق عندهم بين ملكي أو جمهوري أو إمبراطوري، فهم يشعرون بالضيم والظلم في كل الأحوال، لكن المتآمرين الذين قتلوا قيصر كانوا من المناصرين له، والمستفيدين من نعمه الذين انتفعوا كثيرا من انتصاراته، لكن بقدر ما كانت ثرواتهم تنمو أكثر فأكثر كانوا يشاركون الفقراء والمهمشين الإحساس بالضيم والظلم.

***

لم يقف أثر الطغيان فقط عند إضعاف مجلس الشيوخ وإسقاط هيبته، بل تجاوزه إلى الجيش ذاته، فلم يعد الجندي الروماني – كما يقول مونتسكيو – يقاتل في سبيل فكرة ولا نظام ولا دولة بل يقاتل لفائدة شخص أي لحساب القائد الذي يقاتل لمصلحته وتحت قيادته في مقابل ما يستطيع هذا القائد أن يقدمه للجندي المقاتل من فوائد ووعود وإغراءات، فإذا انهزم القائد ولم يعد قادرا على الوفاء بوعوده للجندي انحاز الجندي في الحين إلى قائد غيره.

كذلك كان حال الشعب في الأقاليم -خارج روما- لا يتحمسون لأي من الفريقين المتصارعين على الحكم من الارستقراطيين والجمهوريين، فهم يتركون ولاءهم لمن ينهزم، ثم يعلنون انحيازهم لمن ينتصر، خوفا من انتقام الغالب، حيث كان من المعتاد أن يمنح جنوده أملاك مؤيدي خصمه كغنائم حرب، يقول مونتسكيو في ص 120: “انظر إلى هذا الجيش كيف يقوض بتصرفه -كل يوم- أركان الوطن، وفي نفس الوقت يُبدي تعلقه بالحرية”. ثم يعود ويتساءل من جديد: “لكن هل توجد مؤسسة بشرية أقل تبصرا من الجيش؟”.

ثم إن تراث الطغيان أثمر الثمرات المرة على ثلاث مراحل: حين تسبب في حرب أهلية، ثم حين تسببت الحرب الأهلية في الفوضى، ثم حين وجدت الفوضى من يجيد اللعب بها بحيث يحبب الناس في فضائل الاستبداد ومزاياه باعتباره الحل الوحيد، وكانت الخلاصة النهائية هي إعادة إنتاج الطغيان في شكل أشد وأقسى، في شكل إمبراطوري مقدس على يد أوكتافيوس الذي لم يتورع أن لقب نفسه “أغسطس” أي المقدس.

بعد اغتيال قيصر لم يكن عند من قتلوه خطة للمستقبل ولا بديل متفق عليه للحكم فكانت الحرب الأهلية ثم تجدد الطغيان في ثوب أسوأ، يقول مونتسكيو: “تعذر إحياء النظام الجمهوري في روما غداة اغتيال قيصر، خطط المتآمرون للاغتيال فقط دون التفكير فيما يترتب عليه من نتائج. ولما ساءت الأوضاع بدأ حنين الناس إلى عهد قيصر وطغيان قيصر وفي الثقافة الشعبية أصبح من أهل الكرامات ومن الأولياء.

أو كتافيوس 63 قبل الميلاد – 14 م هو الإمبراطور الأول بعد انهيار النظام الجمهوري – مثل الجمهورية الجديدة في مصر التي جاءت بعد ثورة ثم الثورة أعقبتها فوضى مصطنعة عمدا ثم ختمت بديكتاتورية عنيفة 2014 م لم تعرف الدولة الحديثة مثلها منذ تأسست عند مطلع القرن التاسع عشر، أوكتافيوس هو من المؤسسين العظماء لتنمية الفوضى ثم توظيفها في تحقيق حلمه السياسي.

يقول مونتسكيو: “عكف أوكتافيوس الذي لقب نفسه تملقا بأغسطس أي المقدس، على استتاب الأمن، بفرض حالة من الانقياد التام والدائم. غاصب السلطة في دولة حرة يسمي كل ما يدعم سلطانه نظاما، وينعت بالفوضى والشقاق وسوء التدبير كل محاولة ترمي إلى تقوية ما بقي من الحريات، كان أوكتافيوس -أغسطس- يخشى تمرد العسكر، لا مؤامرات المواطنين، فتسامح مع العسكر، واتبع القسوة مع المواطنين”. ثم يتهم مونتسكيو أغسطس بأنه من صنع الفوضى حتى يعترف الناس بمحاسن الاستبداد ثم يختم بالقول: “شر الطغيان ذلك الذي يُمارس في ظل القانون وتحت رداء العدالة”.

ثم جاء من بعده ابنه بالتبني الإمبراطور تيبيريوس – ولد 42 قبل الميلاد ومات 37 م – ومعه تطور الطغيان حتى سماه مونتسكيو “الدناءة العامة”، يقول: “لم يذكر لنا التاريخ أبدأ أن طاغية من الطغاة افتقر إلى وجود العدد الكافي من المساعدين والمساندين، لكنهم هذه المرة لم يكونوا من أعضاء مجلس الشيوخ، إنما كانوا من القضاة أنفسهم، أي من رجال العدالة، وعندما تفسد العدالة يكون الطغيان في مقدوره استباحة كل المقدسات والحرمات وتجاوز كل الخطوط الحمراء.

يقول مونتسكيو: “وجد الإمبراطور تيبيريوس من القضاة من هم على أتم الاستعداد لإدانة كل من يتهمه الامبراطور بأي اتهام مهما كان عدد المتهمين”. ثم يقول: “لقد اعتبر الإمبراطور المساس بشخصه إهانة موجهة ضد روما ذاتها، ثم طلب من مجلس الشيوخ محاكمة من يقترف هذا الجرم، وسايره مجلس الشيوخ في رغبته، لم يعارض الشيوخ أي مطلب للإمبراطور، وانزلقوا إلى خسة لا توصف، رضوا بالدناءة العامة، ورضوا بالطاعة العمياء، حتى أن أكابرهم تحولوا إلى متملقين ومخبرين عن زملائهم”.

ثم يذكر أن لهذه الدناءة العامة أسبابا كثيرة منها يوليوس قيصر نفسه فهو من بذر بذور الطغيان في مؤسسات الجمهورية الرومانية، ثم مات الطاغية اغتيالا في ساحة مجلس الشيوخ، لكن بقي الطغيان، بل صار أقسى وأشد.

***

الحديث مُستأنف الأربعاء المقبل بمشيئة الله.