تباينت ردود الفعل بين الترقب والترحيب بقرارات الحكومية الإيرانية الأخيرة؛ تعليق عمل شرطة الأخلاق، الذي أعلنه المدعي العام الإيراني محمد جعفر منتظري. وكذا مراجعة قانون الحجاب، وإنهاء مهام دوريات الأمن الأخلاقي والاجتماعي.
فبينما رأى البعض هذه القرارات بمثابة تنازلًا من جانب السلطة واعترافًا بقوة المظاهرات التي أظهرت قوتها على تغيير الوضع في الدولة المحكومة بسلطة الملالي “رجال الدين”، اعتبر آخرون القرار شكليًا ومرواغة لا تستهدف سوى تهدئة الشارع، واحتواء غضب المواطنين، دون تغيير فعلي في النهج القمعي الذي تتبناه الدولة.
في سبتمبر/ أيلول الماضي، اعترضت دورية “شرطة الإرشاد (أو الأخلاق)” مهسا أميني، الشابة الكردية الإيرانية (22 عامًا). حيث كانت رفقة أخيها قرب محطة مترو أثناء رحلة عائلية للعاصمة طهران، فتعرضت للاعتقال بسبب حجابها الذي اعتبرته الشرطة غير لائق، لينتهي بها المطاف ميتة أثناء احتجازها. الأمر الذي اندلعت على إثره المظاهرات الواسعة في مختلف المدن الإيرانية، احتجاجًا على عنف الشرطة، قبل أن يتفاقم الوضع للاحتجاج على السلطة نفسها.
وقد واجهت الحكومة هذه الاحتجاجات بأقصى درجات العنف. لا سيما في مناطق تمركز الأقليات العرقية، مثل كردستان وبلوشستان. وأطلقت النار على المحتجين، فقُتل حتى 29 نوفمبر/ تشرين الثاني، ما لا يقل عن 448 شخصًا على أيدي قوات الأمن، بينهم 29 امرأة و60 طفلًا، وفقا لمنظمة حقوق الإنسان الإيرانية.
وتعتقد منظمة حقوق الإنسان الإيرانية أن العدد الفعلي للقتلى “أعلى بكثير”. إذ أن العدد الذي أعلنت عنه يشمل فقط الحالات التي تمكنت من التحقق منها.
أسباب الاحتجاجات
منذ 2019 لم تشهد إيران أي احتجاجات واسعة النطاق مثل الاحتجاجات الأخيرة، التي تعتبر سابقة من حيث مركزية دور النساء فيها. ويمكن القول إن هناك عدة عوامل مهمة وراء خروج المشهد الحالي للاحتجاجات الإيرانية بهذا الشكل، أهمها:
يقول أحمد بخاري، رئيس جمعية علم الاجتماع الإيرانية، من غير المنطقي الاعتقاد بأن خروج الإيرانيين إلى الشوارع كان لمجرد رفض سياسة فرض الحجاب الإجباري. هذا ليس حقيقيًا. إذ هناك حالة غضب شعبي جاد داخل الشارع الإيراني.
فما حدث يمكن وصفه بأن هناك شبكة من القضايا التي حركت غضب الناس ومن ثم الحركات الاحتجاجية في عموم البلاد. ولم يكن مقتل مهسا أميني سوى شرارة لتفجير هذا الغضب، كما يرى “بخاري”.
اجتاحت الاحتجاجات أغلب المدن الإيرانية، وتصاعدت إلى أن وصلت حد المطالبة بإسقاط النظام والمرشد الأعلى علي خامنئي. وهو ما يدلل به “بخاري” على أنها تظاهرات جاءت نتيجة جملة من الظروف المعقدة على المستوى السياسي، في وقت تدهور فيه ملف الحريات، في بلد يعاني ظروفًا اقتصادية متفاقمة السوء، وأزمات في الكهرباء والمياه.
يفتقد النظام السياسي الإيراني لآليات توجيه الاحتياجات والمطالب الاجتماعية. فكان ذلك سببًا في أن تلجأ الجماهير الغفيرة إلى المطالبة بحقوقها عبر قوة التظاهر في الشوارع، غير عابئة بنظام سياسي يستخدم القمع لإسكاتها. وهو رهان نجحت فيه إذ لم تتمكن الحكومة من احتواء الاحتجاجات.
نتائج عكسية للقمع
لم تنجح السياسات القمعية في ترهيب المتظاهرين، فانتشرت الإضرابات في المدارس والجامعات وقطاع النفط الحيوي في البلاد. كما أغلقت المتاجر أبوابها.
وفي مواجهة عنف الشرطة، أضرم محتجون النار في مبان لقوات الأمن داخل إيران.
ورفض منتخب إيران لكرة القدم التغني بالنشيد الوطني الذي يحمل عبارات التقديس والإشادة بنظام الملالي، في مباراته الافتتاحية يوم 21 نوفمبر/ تشرين الثاني، أمام إنجلترا بمونديال قطر. بينما ردد المشجعون شعارات ضد النظام خارج الملاعب.
ولم يتوقف الأمر عند الرياضيين، فتم إلقاء القبض على فنانين ورياضيين انتقدوا قمع الاحتجاجات.
وانتقلت الاحتجاجات من الداخل إلى شوارع أوروبا تنديدًا بالنظام الإيراني. ووصلت المظاهرات إلى قرابة 150 مدينة في العالم، وفي وقت واحد، حشدًا للرأي العام العالمي ضد قمع احتجاجات الداخل.
وأعلن العديد من الأساتذة مقاطعة الفصول الدراسية حتى يتم إطلاق سراح الطلاب الذين تم اعتقالهم أثناء المظاهرات.
لا يعني التراجع
وفق نص بيان المدعي العام الايراني، فإن “شرطة الأخلاق ليست لها علاقة بالقضاء، وأوقفها من أنشأها”. وأضاف “إنه من الطبيعي عدم تسيير هذه الدوريات حاليًا”. منوهًا بأن ذلك لا يعني إيقاف هذه الوحدة بل إيقاف دورياتها حتى إشعار آخر.
يشير الباحث في الشؤون الآسيوية، إسلام المنسي، أن هذا القرار يعبر عن ضعف النظام الإيراني أو بالأحرى عجزه عن مواجهة الاحتجاجات بالطريقة التقليدية، من حيث اللجوء إلى القمع والبطش والقتل والتنكيل. وعلى العكس أسهم النظام القمعي في إطالة أمد المظاهرات.
يضيف أنه من الخطأ اعتبار هذا القرار بأنه تراجع من النظام أو إشارة بانفراجه كاملة. وإنما يمكن وصفه بأسلوب جديد في التعامل مع المحتجين. حيث أن مشكلات الشعب الإيراني لا تقتصر فقط على شرطة الأخلاق أو أزمة الحجاب. وإنما قمع النظام للشعب، وتغافله عن الأوضاع الاقتصادية المضطربة، وتوجيه الأموال في مغامرات طائفية بالإنفاق على الميليشيات.
اشتعال الأوضاع
ترى الباحثة في العلوم السياسية، ميرفت زكريا، أن قرار المدعى العام الإيراني بحل شرطة الأخلاق في سياق المدى الزماني الذي استغرقته هذه الاحتجاجات، يعكس مخاوف النظام. لاسيما وأن الاحتجاجات اتخذت طابعًا دوليًا، وفرضت على إثرها عشرات العقوبات، سواء من كندا أو الاتحاد الأوروبي أو الولايات المتحدة الأمريكية. وكان بعضها سياسيًا يرتبط بقيادات شرطة الأخلاق والبعض الآخر اقتصاديًا.
تقول الباحثة: “جرى التوظيف السياسي للاحتجاجات بفعل الأكراد. ما أدى إلى اتساع نطاق وحدة التظاهرات في إقليم كردستان إيران. فضلًا عن مطالبة الأقليات الأخرى من العرب والبلوش بمطالبات تتعلق بحقوقهم المسلوبة من قبل نظام ولاية الفقيه”.
وهي ترى أن الأوضاع الاقتصادية المتراجعة في إيران تغذي هذه الاحتجاجات واستمراريتها.
وتعاني إيران نسبة تضخم تقارب 40% وبطالة تصل إلى 12%. الأمر الذي أدى إلى عدم قدرة الدولة على دفع رواتب الموظفين. ومن ثم اشتعلت أيضًا احتجاجات فئوية على مستوى غالبية القطاعات الاقتصادية.
هذا بالإضافة إلى أزمة في الكهرباء وارتفاع أسعار السلع الغذائية. وبالتالي يمكن اعتبار خطوة حل شرطة الأخلاق بمثابة التفافًا على الأوضاع الاجتماعية المتهالكة بالفعل، والتي أثارت هذه الاحتجاجات وغذتها.
مستقبل التظاهرات
يرى الباحث في الشأن الإيراني، محمد عبادي، أن براجماتية النظام هي الدافع الرئيسي وراء مختلف تحركاته. حيث لم ينجح خطاب المؤامرة الخارجية الذي لطالما اعتمده في تثبيط عزيمة المتظاهرين. وكذلك تراجع أيديولوجيًا أمام الضغط الجماهيري. وهو ما يكشف أن المقدس الأول إن لم يكن الأوحد في إيران هو بقاء النظام، مع إمكانية التضحية بأي شيء والتراجع عنه.
ووفق عبادي، فإن النظام في إيران يراهن حاليًا على قرار حل شرطة الأخلاق في مسألة وقف المظاهرات، بينما المتوقع هو استمرارها. إذ فتح قرار تعليق عمل شرطة الأخلاق شهية الشباب الذي يسعى للفكاك من قيود الملالي. ما يعني احتمالية المزيد من التظاهرات، وأن يصل الأمر للقوميات المضطهدة والشعوب غير الفارسية التي ترى في الوضع الحالي رفعًا للسقف قد يمكنها من الحصول على حقوقها المهدرة وتحسين أوضاعها الصعبة.
يقول عبادي: “بالتأكيد هذه الانتفاضة الحالية ستعقبها موجات أكبر”.
وهو ما تتفق معه ميرفت زكريا. حين تقول: “يبدو للمتظاهرين الآن أن أدوات الضغط تأتي بنتائج. لذا أتوقع أن يواصل المتظاهرون احتجاجاتهم للحصول على مزيد من المكاسب. والدليل الأبرز على ذلك، ما دعا إليه بعض النشطاء الإيرانيون في 5 ديسمبر/ كانون الأول الجاري (اليوم اللاحق على القرار) من الدخول في موجة جديدة من الاحتجاجات بهدف “إلحاق أضرار اقتصادية بالبنى التحتية في إيران”.
والمشهد الحالي يمكن قراءته في أن قرار المدعي العام الأخير لا يعكس تغيرًا منهجيًا في السياسة الداخلية للنظام الإيراني، وإنما تحولًا نوعيًا في طريقة معالجة المشكلات الداخلية.
هذا بالنسبة للدولة، أما المتظاهرون، فقد كسبوا رهانهم، وإيقاف شرطة الأخلاق مثل انتصارًا كبيرًا للمرأة الإيرانية. لكن يجب حصره في نطاقه، بحيث لا يمكن القياس عليه كدافع لمطالب شعبية أخرى تتعلق بحقوق القوميات والأقليات على سبيل المثال، وإن كان سيعطي دفعة أمل للمواطنين نحو إمكانية التغيير بالاستمرار في الشوارع وتنظيم المزيد من الوقفات الاحتجاجية، التي ستكون لها كلفتها كذلك.