تظل الديمقراطية هي الوعد المعلق في الدول العربية، والذي سيحدث يوما، لكن يظل السؤال متى وكيف؟
عقب اندلاع ثورات الربيع العربي، قامت المؤسسة الدولية للديمقراطية والانتخابات في الفترة ما بين يناير 2012 إلى العام يونيو 2013، بمقابلات مع ثلاثة عشر رئيسا ورئيسا للوزراء من تسعة بلدان (البرازيل وتشيلي والمكسيك، غانا وجنوب إفريقياـ إندونيسيا والفلبين، وبولندا وإسبانيا) من أجل الإجابة على سؤال واحد، كيف تمكنت تلك الدول من التحول من أنظمة استبدادية إلى أنظمة حكم ديمقراطية مستدامة لا يمكن التراجع عنها.
صدر الكتاب بالعربية عن دار الشروق في عام 2016، تحت عنوان تجارب التحول مع الديمقراطية.. حوارات مع القادة السياسيين.
لكل تجربة من تجارب انتقال تلك الدول إلى الديمقراطية فرادتها، فبعض هؤلاء اللذين حاورهم الكتاب كانوا رموزا بارزة في النظام الأوتوقراطي (حكم الفرد الواحد)، وساعدوا على نقل بلدانهم إلى الديمقراطية، بينما كان بعضهم شخصيات بارزة في حركات المعارضة ساهمت في إنهاء الحكم الاستبدادي، أما البعض الآخر، فقادوا المرحلة الانتقالية بين النظام الأوتوقراطي والديمقراطي.
في الكتاب يستذكر هؤلاء القادة كيف أدركوا المعضلات الأساسية التي اعترضتهم وكيف واجهوها، وما هي الأهداف المحددة التي أرادوا تحقيقها، وما هي الاستراتيجيات والتكتيكات التي وضعوها، وكيف تغيرت ولماذا؟ وكيف اضطروا إلى اتخاذ قرارات حاسمة، وأحيانا مؤسفة، وكيف يفكر هؤلاء القادة في الدروس التي يمكن استخلاصها من تجاربهم في ذلك الوقت، وفي المستقبل والفروق بين فرص التحول الديمقراطي اليوم، وتلك التي كانت متاحة في زمنهم.
يوضح الكتاب، أن هناك عدداً من القضايا المهمة لا يزال على عمليات الانتقال الديمقراطي مواجهتها:
كيف تنظم القوى السياسية والاجتماعية المنقسمة نفسها؟
ما السبيل إلى دعم التوجه داخل أي نظام استبدادي نحو الانفتاح السياسي؟
كيفية صياغة التسويات العملية بين قوى المعارضة المختلفة، وإن أمكن بينها وبين عناصر النظام القديم؟
ما الذي يدفع إلى تعزيز الأحزاب السياسية وبناء المؤسسات الديمقراطية وكيف؟
ما هو أثر منظمات المجتمع المدني واللاعبين الدوليين والعوائق أمام أداء كل منهم لدوره؟
وكذلك عدد من الأسئلة عن دور الجيش والشرطة في ظل وجود حكومات مدنية، وكيف يحدث التوازن بين الحاجة إلى العدالة الانتقالية والعدالة التصالحية وبين التصالح مع الخصوم السابقين؟ وكيفية تعزيز الثقة وجذب الاستثمار في قطاع الأعمال، وتستجيب في الوقت نفسه للمطالب والتطلعات الشعبية بالعدالة وإعادة توزيع الثورة، وكيف يخلق التوافق بين المبادئ الدستورية والإجراءات الانتخابية؟
تمثل كل تجربة بالطبع خصوصية أصحابها وطبيعة دولهم وأنظمتهم، الشيء الذي لا يمكن تقليده في دول المنطقة العربية إلا بفهم للطبيعة الخاصة بتلك الدول وأنظمتها، وأظن أن ذلك التقليد هو خطأ شائع يقع فيه أغلب رموز المعارضة والتيارات الثورية في تلك الدول، إذ يلجؤون لنسخ تجارب لا تخصهم متجاهلين طبيعة الدولة ونظامها ومزاج شعوبها، لكن كذلك يظل فهم تجارب الآخرين مسألة شديدة الأهمية وما يميز هذا الكتاب هو نقله لحكمة السياسة، وقد جربت على الأرض، من خلال سماع أصوات القادة اللذين مارسوا هذا الدور وهو ما تفتقده أغلب الدراسات عن عمليات الانتقال الديمقراطية.
بالتأكيد من خلال تلك الحكمة، يمكن أن نعثر على إلهام ما، من بينه أن الانتقال إلى الديمقراطية لا يتحقق على يد من يتربعون على قمة هرم النظام السياسي فقط، وربما ليس من خلالهم، بل تتحرك تلك العملية من القاعدة إلى القمة أولا، ولا توجد وسيلة واحدة من إجراء التغيير.
ومع ذلك تثبت بعض المقابلات التي أجراها الكتاب على نحو مقنع أن للقيادات السياسية تلعب دورا هاما أيضا في مراحل الانتقال إلى الديمقراطية فلا يمكن لأحد أن يتصور عملية انتقال في جنوب أفريقيا دون نيلسون مانديلا، وكذلك الدور الذي لعبه بشار الدين يوسف حبيبي رئيس إندونيسيا الثالث في في نظام سوهارتو، أو تقدير الانتقال الديمقراطي في إسبانيا دون الأخذ بعين الاعتبار الدور الذي لعبه الملك خوان كارلوس.
ربما التذكير بأن الديمقراطية هي وعد معلق، لكن حتمي في أوطاننا، هو المهم الآن، مهما بدا ذلك الأمل بعيدا وصعبا، وقد يساهم فيها الجميع حتى رموز النظام الأوتوقراطي، وربما كل ما يملكه الفرد هو إتقان ما يفعله وتطويره عبر ابتكار مساحات ليس بالضرورة أن تتصادم مباشرة مع السلطة السياسية، بل كل في جبهته، ككاتب أو عضو في منظمة مجتمع مدني أو طبيب أو عامل، في رأيي تصلب الأفكار على وسيلة واحدة كدعوات الحشد في الميدان، هي أفكار أثبتت عقمها في المرحلة الحالية، ولم تعد تصدر في السنوات الأخيرة إلا عن تيارات مشبوهة، لا يمكن لا للشعب ولا للمعارضة أن تثق بها، فما زال الجميع رغم الاختلاف مع النظام الحالي في سياساته يملك حسا سليما يستشعر دعوات الخراب التي تعلمت هي الأخرى أن تتستر بنداءات الحرية.
وفي مصر نحن نكاد أن نبدأ من الدرجة تحت الصفر، بعد أن أطاحت القبضة الأمنية بكل أمل في إيجاد تنظيم سياسي أو مشاركة شعبية حقيقية في الرأي العام، هذا أيضا لا يمكن إغفاله، لكن حتى النظام نفسه سيدرك ذات يوم أنه لا يمكنه الاستمرار بتلك السياسة الخانقة طويلا. ومن آن لآخر علينا أن نتذكر أن عمليات الانتقال الديمقراطي مسألة معقدة لا تسير فقط إلى الأمام، ولا تكفي فيها النوايا الحسنة، بل هي عملية بناء على المدى الطويل.
أتمنى أن يسعفني الوقت والهمة كي أقدم عرضا في المقالات القادمة لأهم النقاط التي أثارتها الحوارات مع هؤلاء القادة الاستثنائيين في بلدانهم، ليس لتقليدها أو استنساخها، بل للفهم.
ما أسعى لمشاركته هو رغبتي الشخصية في الفهم، هل العائق فقط عن التحول الديمقراطي هو النظام السياسي الحاكم أم نحن أيضا وتصوراتنا عن التغيير جزء من تلك العوائق؟ فلا يمكن وقد اقتربت ذكرى جديدة لثورة يناير إلا أن نتذكر أننا، وعندما أتيحت لنا الفرصة كنا جزءاً من فشل الانتقال من حكم مبارك إلى حكم ديمقراطي مستدام.