“إذا ما تصادم الدين مع الديمقراطية.. الدين يخسر”.
كان ذلك تصريحًا مثيرًا أطلقه الرئيس الإيراني الأسبق “محمد خاتمي” في (30) مارس/ آذار (2007).
“أدعو دائمًا لسد الفجوات بقراءات اجتهادية ومستنيرة، تحفظ للناس حقوقهم السياسية كاملة في اختيار حكامهم وإخضاعهم للمساءلة والعزل عبر صناديق الاقتراع بالوسائل السلمية مع سلامة الاعتقاد الديني والحفاظ على الهوية الثقافية والحضارية”.
بدا الكلام بمنطوقه ومعانيه أقرب إلى رسالة تحذير صريحة وواضحة من تبعات أوجه الخلل الماثلة في طبيعة النظام الذي ترأسه لدورتين رئاسيتين.
كاد أن يقول إنه يخشى من اهتزازات عنيفة تحت قوائم النظام تفضي إلى تقويضه.
أسوأ ما جرى في السنوات التالية أن الحريات العامة ضاقت، وخسرت إيران جانبًا كبيرًا من قدرتها على امتصاص الأزمات بالتضييق على التيار الإصلاحي، الذي كان يمثل ضمانة استقرار في بنية النظام.
أُبعدت أسماء كـ”خاتمي” نفسه، وفرضت الإقامة الجبرية على المرشح الإصلاحي “مير حسين موسوي”، الذي جرى التدخل ضده في الانتخابات الرئاسية عام (2009)، ونالت مصائر مشابهة أية عناصر تنتمي لهذا التيار بعدم تمكينها من خوض أية انتخابات عامة.
التضييق لا الانفتاح هو ما حدث.
كان ذلك نقيضًا لما دعا إليه “خاتمي” في حوار مفتوح لساعتين كاملتين مع (21) شخصية من كبار المفكرين والمثقفين والصحفيين المصريين، في برقاش، بدعوة من الأستاذ “محمد حسنين هيكل”.
جاء “خاتمي” إلى القاهرة موفدًا من المرشد “آية الله علي خامنئي” للقاء الرئيس الأسبق “حسني مبارك”. التقاه في وقت مبكر من صباح ذلك اليوم على مائدة إفطار قبل أن يتوجه إلى “برقاش”.
عندما وصل “خاتمي”- مصحوبًا بعدد من كبار معاونيه السابقين- الساعة التاسعة والنصف صباحًا، انفرد بـ”هيكل”.
أجاب عن سؤال: “ماذا تريد إيران؟”.
وطرح سؤال: “أين تقف مصر؟”.
فيما نقله “خاتمي” عما جرى أثناء إفطار العمل مع الرئيس المصري بدا الكلام كله صادمًا، فقد استغرق “مبارك” وقتًا طويلًا في توجيه الانتقادات الشخصية الحادة للرئيس الإيراني في ذلك الوقت “أحمدي نجاد”، قائلًا: “عبدالناصر تاني؟”.
قاطعه “خاتمي” مضطرًا: “سيادة الرئيس.. تعرف أنني اختلف مع نجاد في قضايا كثيرة، لكن المشروع النووي قضية إجماع وطني في إيران”.
لم يبد تعليقًا على الكلام عن “عبدالناصر” على هذا النحو المشين في اجتماع رسمي، فذلك يخرج عن طبيعة مهمته، وربما يفسدها.
القصة نشرتها في وقتها بعنوان: “رئيس لا يدرك قيمة البلد الذي يحكمه”، وأكدها على فضائية عربية الكاتب الصحفي الإيراني “محمد صادق الحسيني”، الذي ترجم الحوار بين “خاتمي” و”مبارك” على مائدة الإفطار.
بدأ “خاتمي” الحوار بـ”العربية” واستمع إلى المداخلات والتساؤلات بها، فهو يفهمها تمامًا، واستعرض أكثر من مرة معرفته الدقيقة بقواعد الإعراب، وراجع مترجمه “محمد صادق الحسيني” أكثر من مرة للتدقيق في المعاني، غير أنه طلب أن تطرح التساؤلات والمداخلات بـ”بالفصحى” دون ترجمة، وأن يجيب عنها بـ”الفارسية” حتى يعبّر عن أفكاره بطريقة أوضح وأفضل.
“لست في الحكم ولا أتدخل فيه، غير أن بوسعي تأكيد أن أمن واستقرار العراق هو لمصلحة إيران وأمنها القومي”.
“استمرار الفوضى يلحق أضرارًا بالغة بإيران كما أنه يوفر ذريعة لاستمرار احتلال العراق”.
كان ذلك تعليقا مقتضبا على انتقادات تكررت أمامه للدور الإيراني في احتلال بغداد عام (2003).
حاول بقدر ما يستطيع طي الصفحة الأليمة والانتقال إلى ما يتوجب فعله، غير أن ذلك الإرث ما زال يتفاعل في العراق ويجد صداه في مناطق أخرى من العالم العربي، مؤثرًا بالسلب على العلاقات العربية الإيرانية، رغم الأدوار المهمة التي اضطلعت بها طهران في نصرة القضية الفلسطينية، حين تخلت عنها معظم الدول العربية.
“إن وحدة العالم الإسلامي على أساس التنوع تضفي عليه قوة وغنى”.
وكانت تلك محاولة لتخفيض مستوى التوترات المذهبية، التي انتهكت الإقليم بأزماتها وصداماتها.
“دخول السياسة على خط الدين يدفع -أحيانًا- إلى نزعات عرقية متطرفة، وإن شيئًا من ذلك يحدث في إيران الآن، لكنه عابر ويتناقض مع التوجهات الرئيسية للجمهورية الإسلامية”.
وكان ذلك اعترافا بما هو ماثل تحت السطح السياسي في طهران يعبر عن نفسه أحيانًا بتصريحات منفلتة استخدمت لإحكام الحصار عليها وإسقاط النظام نفسه بكل توجهاته وسياساته الاستقلالية في مواجهة الولايات المتحدة وإسرائيل.
بنوع من الاستفاضة توقف “خاتمي” عند اعتقاد “الأكثرية الشيعية في العراق” بأنها تعرضت لمظالم طويلة، وأن سقوط نظام “صدام حسين” فتح الفضاء أمامها واسعًا، رغم أن ذلك النظام لم يكن نظامًا سنيًا أو شيعيًا.
“الحكم الديمقراطي هو الحل لتجنب الفتن المذهبية، ففي المجتمعات متعددة المذاهب والأعراق لا حل غير الديمقراطية”.
هكذا بدت رؤيته متزنة في النظر إلى أزمات الإقليم وما أبداه محاوروه من تحفظات وانتقادات لبعض أوجه السياسة الإيرانية.
كان الأكثر لفتًا للانتباه ما قاله من أن: “الولي الفقيه، وهي نظرية فقهية للإمام الخوميني شأن أية نظرية فقهية أخرى، لا تعني إضفاء عصمة، أو قداسة، فالمرشد ليس معصومًا، ويخضع -دستوريًا- للمساءلة، ويمكن عزله. ورغم أن ذلك لم يحدث حتى الآن لإشكاليات في طبيعة الدولة وتقدمها نحو مزيد من الديمقراطية، إلا أن المبدأ الدستوري مقر، وليست هناك -في هذا الصدد- مشكلة نظرية”.
فيما قال وروى “إن من بين شعارات المساجد في صلاوات الجمعة بإيران الموت لأعداء نظرية ولاية الفقيه، ومن بينهم علماء لا يقبلون بها، والحمد لله أن النظام الحاكم لم يعدم أحدًا منهم حتى الآن!”.
وفيما قال وروى: “إن رئيسة البرلمان الإسباني عاتبته على أنه لم يصافحها، فحاول أن يشرح لها دوره في الرقي بدور المرأة في إيران وتدعيمه، وأن يمكنه مصافحتها الآن، وهو مستعد لذلك، لكن عليها أن تقبل أن يستقيل فورًا من رئاسة الجمهورية”.
أراد أن يوضح لمحاوريه المصريين تعقيدات الحكم في بلد له ظروف خاصة وتصورات سائدة، وجذورها لا يمكن تجاهلها ببساطة.
في ذلك اليوم البعيد اعترف “خاتمي” بتراجع الحركة الإصلاحية في إيران.. “بعض آرائي لا تنسجم مع القوى الحاكمة الآن، هذه هي طبيعة الديمقراطية، والرأي الأخير للشعب، الذي أثق أن أغلبيته تقف مع أهداف الإصلاحات في الحرية والاستقلال والتقدم”.
هناك أوجه عديدة للأزمة الإيرانية، بعضها سياسي، وبعضها استراتيجي، وأخطرها اقتصادي تحت وطأة العقوبات.
وجدت الأزمة في الحجاب القسري نقطة تفجير جديدة، حينما قتلت تحت التعذيب الفتاة الكردية “مهسا أميني” أثناء احتجازها لدى “شرطة الأخلاق” يوم (16) سبتمبر/ أيلول الماضي بتهمة “سوء الحجاب”.
مسألة الحجاب لا تلخص الأزمة الإيرانية.
هذه حقيقة لا تحتاج إثباتًا.
الحجاب موجود في مصر وغيرها من الدول دون أن يثير احتجاجات وصدامات كالتي تجري في إيران.
الإجبار والقسر صلب الأزمة.
الاعتراف بها من مقتضيات مواجهة أخطارها.
هناك فارق جوهري بين الاعتراف بالأزمة وخشية توظيفها لمقتضيات سياسية واستراتيجية لإضعاف النظام ودفعه للصدام مع شعبه، أو تقديم تنازلات في ملف إحياء الاتفاق النووي.
هناك بالفعل توظيف للاحتجاجات الشعبية من دوائر عديدة ولأسباب مختلفة، لكنه لا يمنع من الاعتراف بعدالة القضية وضرورات الإصلاح السياسي في بنية النظام قبل أن تداهمه عواصف أكبر وأخطر.
أن تلبس المرأة الحجاب أو لا تلبسه- هذه مسألة شخصية لا يحق لأحد أن يقررها بالنيابة، أو أن يقتل تحت التعذيب من لا تطيع مقاييس الحجاب المعتمدة!
المدعي العام صرح أن شرطة الأخلاق حلت، من “ألغاها هو من أنشأها”، في إشارة إلى المرشد نفسه، وأن هناك مراجعة لقانون العفة والحجاب تعلن نتائجها خلال أيام.
هذا نصف اعتراف بالأزمة.
لن يحدث مثل هذا التغيير بسهولة ويسر إذ أن التيار المحافظ المهيمن على مفاصل الدولة ينظر إلى المسألة برمتها باعتبارها تتعلق بطبيعة الجمهورية الإسلامية نفسها، فإذا ما أُلغي الحجاب تتقوض الجمهورية نفسها.
من المفارقات أن شرطة الأخلاق تعود فكرتها الأولى إلى قرب نهاية فترة حكم الرئيس “خاتمي” بإنشاء ما أطلق عليها “دورية الإرشاد” التي تستهدف رصد المروجين للثقافة الغربية.
فيما بعد أنشئت شرطة الأخلاق وعادت إلى الحياة “اللجنة العليا للثورة الثقافية” مع تولي الرئيس الحالي “إبراهيم رئيسي”.
انتقلت الفكرة من الكلام العام عن الثورة الثقافية إلى تعقب الفتيات في الشوارع باسم الإخلال بقواعد ارتداء الحجاب.
بعد الاحتجاجات المتواصلة أعاد “خاتمي” إطلاق جوهر أفكاره، التي تردد صداها ذات يوم بعيد في القاهرة، من أن استمرار الوضع الحالي يجعل الانهيار الاجتماعي مرجحًا على أوسع نطاق بكل لحظة.
الإصلاح قضية لا تحتمل تسويفًا إذا ما أرادت إيران أن تؤكد أدوارها في الإقليم وأن تحفظ بتماسك شعبها فرصها في المستقبل.