اعترض كثيرون على الفاتورة الإلكترونية، ورفضها المهنيون بنقابتهم المختلفة، وخاصة المحامين الذين اعتبروا أن طبيعة عملهم تختلف عن الأعمال الحرة وعمل الشركات بما يعني ضرورة إعفائهم منها وعدم إضافة أعباء جديدة على تلك التي يتحملونها في ظل أزمة اقتصادية يعاني منها تقريبًا الجميع.

والحقيقة أن منطق الأشياء يجعلنا ننطلق من نقطتين أساسيتين: الأولى منطق دولة القانون الذي يطبق على الجميع دون استثناء أو تمييز ويتم تحصيل الضرائب بشكل عادل على أي “مقدم لخدمة” بصرف النظر عن طبيعتها سواء كان مهنيًا أو تاجر أو صاحب شركة وفق دخله ووفق مصاريفه الشخصية، وتراعي كل الفروقات بينهم بشكل مهني وعادل، فلا يمكن تجاهل النثريات و”الإكرامايات” التي يتحملها المحامون مثلًا من حساب أي ضريبة عادلة يدفعوها.

والثاني منطق الأبواب الخلفية للاستثناء والتمييز بين مقدمي الخدمة سواء كانت هذه الخدمة مهنية أو تجارية أومن شركة، وهو ما يبدو أنه حادث، وطالما فتح باب الاستثناء مرة فلا مانع من تكراره مرات طالما أخلينا بمبدأ المساواة أمام القانون ولم تعد العدالة معصومة العينين فسيكون من حق المحامين أو غيرهم أن يطلبوا استثنائهم من الفاتورة الإلكترونية.

والحقيقة، أن السؤال الذي يجب طرحه يتعلق بسبب اعتراض الناس في المجمل على دفع الضرائب حتى لو كانت مبررة ولها أساس في أي منظومة ضرائبية في العالم كله؟ الحقيقة، أن الاعتراض والبحث عن الاستثناء هو نتاج لحالة عامة تقوم من ناحية على تكريس الاستثناء، ومن ناحية أخرى، على أن الدفع لا يقابله أي تحسين في الخدمة ولا تطوير في الأداء ولا حضور للخدمات التي تقدمها الدولة في المجالات المختلفة من صحة وتعليم ومواصلات عامة وغيره.

وقد عانى الناس في الفترة الأخيرة من خبرات شديدة السلبية في تعاملهم مع الجهاز الإداري والمحلي، حيث غاب الإصلاح وحضرت الجباية، وكشفت قضية مخالفات البناء أهمية هذه الإصلاحات، فالمواطن الذي خالف وبنى على أرض زراعية حصل كثيرين منهم على تصاريح بناء مخالفة للقانون من قيادات محلية بأشكال مختلفة من الفساد. وبدا الأمر أن مطلوب منهم أولا أن يدفعوا ثم بعد ذلك يتصالحوا، دون إجراء أي إصلاحات في الجهاز الإداري للدولة تحول دون تكرار هذه الجريمة مرة أخرى، وبدت الصورة وكأن الحكومة ليست حريصة على تطبيق القانون، لكي تغلق باب المخالفات، إنما تركته مفتوحا أمام مخالفين جدد حتى يمكنها مطالبتهم مرة أخرى بالدفع قبل نيل التصالح.

أعباء أخرى عانى منها الناس مؤخرا، تمثلت في انهيار قدراتهم الشرائية مع غلاء الأسعار، وأصبحوا محاصرين بأماكن الدفع في كل مكان، فكان هناك كارت الطرق الذي تضاعفت تعريفته وتفهمه الناس وتحملوه، والمواصلات العامة التي تضاعفت حوالي 5 مرات، واضطر أن بقبلها الناس على مضض، وحتى ممشى أهل مصر يدفع الناس تذكرة دخول للتمشية على نيل بلدهم، وهو مشهد غير متكرر في أي مكان آخر، وغير مقبول من خبراء تخطيط المدن، لأن هناك في العلم شيء اسمه ذاكرة المدن التي تجلب لمن يفكر السياح (وأيضا العملة الصعبة)، وكانت تمشية النيل في قلب تلك الذاكرة منذ أكثر من قرن.

لا يمكن أن تقنع الناس بأي منظومة ضرائبية إلا بنظام شفاف لا يحمل في داخله أي استثناءات، وشعورهم أن مايدفعوه من ضرائب يعود عليهم في صورة خدمات في الصحة والتعليم والمواصلات العامة وغيرها، وحتى ما يعرف بتطوير الأحياء لم يشاركوا فيه ولم يأخذ رأيهم ونغص على كثيرين حياتهم اليومية، فهذا “التطوير” لم يميز بين الحي السكني والطرق السريعة فلا أماكن آمنه لعبور المشاة ولا أرصفة يسير عليها الناس، وجرفت فيه آلاف الأشجار والمساحات الخضراء.

يقينا المطلوب هو دولة قانون تقوم بإصلاح مؤسسي “Institutional reform” شامل لكل مؤسسات الدولة، وتكون الضرائب جزء من منظومة قانونية عادلة تشمل حقوق وواجبات، ومكسب يقابله ضريبة حق عام يستفيد منها الأضعف وتنفق على خدمات عامة أو على مشاريع منتجة تفتح فيها الأبواب للاستثمار المحلي والعالمي دون قيود أو منافسات غير عادلة.

لن يختلف تيار التنمية السياسية والديمقراطية أولًا مع تيار التنمية الاقتصادية والاجتماعية وعلى أولوية الإصلاح المؤسسي كشرط لأي تقدم بصرف النظر عن شكل النظام السياسي، وأن أي مستقبل مشرق لن يتحقق إلا بدولة قانون تقوم بإصلاح الجهاز الإداري للدولة كخطوة كبري نحو قبول أغلب الناس لمبدأ دفع الضرائب وليس التحايل عليها، لأنهم سيشعرون أنها في صالحهم وأن المسألة ليست مجرد “تلكيك” لجلب المال بسبب أو بدون سبب.

على الدولة ألا تنظر إلى الآلاف في نقابة المحامين وغيرها ممن رفضوا الفاتورة الإلكترونية بأنهم يرفضون تطبيق القانون إنما هم يشعرون بأن القانون لا يطبق بشكل عادل على الجميع، كما أنهم يعانون من وطأه الأزمة الاقتصادية. ومن ناحية أخرى، أرادوا أن يكونوا جزء من الاستثناءات السائدة وقدموا مبررات قوية في ذلك.