مثل معظم أبناء جيلي والأجيال التالية له مباشرة في مهنة الصحافة لم تتح لي مناسبات كثيرة للالتقاء المباشر مع الراحل البديع محمد أبو الغيط، بل لعلي أقول إن لقاءاتي به لم تعد لحظات خاطفة أو كلمات قصيرة، وربما إيماءات في أروقة جريدة الشروق، أو في غيرها، وهذه كلها لم تكن كافية لاكتشاف الدر الكامن في أعماق هذا الشاب الملهم (بفتح الهاء وكسرها) على مستوى العقل والقلب والضمير، لكن من حسن حظي أنني سرعان ما تداركت هذا القصور بإعادة اكتشافه عندما تقاعدت من الالتزامات المكتبية، وأحسست بنقص فادح في معرفتي بهذا الجيل من شباب المهنة، الذي بزغ في سماء مصر -كضياء الشمس في يوم صحو من بدايته- مع ثورة 25 يناير 2011، وفي الزخم السابق عليها، واللاحق لها.
اقرأ أيضا.. يناير لا يأتي في نوفمبر
ولعلي غير مبالغ إذا اعترفت بأن التجارب الثرية والواعدة لأولئك الشباب هي التي اجتذبتني للكتابة الصحفية المنتظمة، بعد أن كنت قد اعتزمت التركيز على إصدار الكتب قدر الاستطاعة، وكان ذلك بداية من موقع “مدى مصر”، وحتى موقع “مصر 360” الذي ينشر فيه هذا المقال، جنبا إلى جنب مع مواقع أخرى، وعديد البرامج التلفزيونية الحوارية والأفلام الوثائقية، ثم وجدتني مهتما بتبادل الخبرات والأفكار معهم.
أذكر بالإضافة إلى أبو الغيط حسام بهجت ولينا عطالله، وتامر أبوعرب، ونائل الطوخي وعمر سعيد، وأحمد الدريني ومحمد طلبة رضوان وأحمد بان وحسين بهجت ومصطفى محيي، وعشرات غيرهم، لا تسعفني الذاكرة بأسمائهم، ولكن بقي لمحمد أبو الغيط ظرف فريد بين جميع أبناء جيله، ليس فقط بسبب خصوصية تجربته المرضية بالغة القسوة، في المنفى مع زوجة شابة حانية وواعية، ترى حبيبا نادر الجمال والنبل ينزف رحيق الحياة ساعة بعد ساعة، فيما تروي برعما صغيرا هو ثمرة ذلك الحب، وتتألم لأب مسجون منذ 9 سنوات، رغم الحكم ببراءته، كذلك ليس سبب تفرد ظرف أبو الغيط هو فقط اضطراره للتحديق في الموت القريب جدا، (بتعبير الصديقة العزيزة منى أنيس) والذي يترصده عند كل باب، ومع كل خطوة، مع أن كل تلك أسباب قوية وكافية لذلك التفرد وتلك الاستثنائية، ولكن هناك أيضا حرارة التعبير عن التفاعلات الشعورية والفكرية في مواجهة المحنة، دون انفصال عن سياقها الإنساني الخاص والعام، وهناك أيضا تلك القدرة الذهنية (على صغر السن وقصر التجربة) على اكتساب المنهج والأدوات اللازمة للارتقاء إلى مستوى العالمية في الأداء المهني، وتلك الموهبة الفطرية للسمو على الاستقطاب الإيديولوجي والتناحر الحزبي، ورفض الانهماك في تبادل اللوم والاتهامات، وتصفية الحسابات.
منذ بدأ التواصل المكثف بيني وبين محمد إما عبر الرسائل المباشرة، أو من خلال متابعتي لكتاباته، أو متابعته لكتاباتي كان واضحا لي أن هذه رؤيته الأصلية والأصيلة لخلاص المصريين من أزمتهم السياسية بل الوجودية، المزمنة والمستعصية، ومن ثم فليست هذه الرؤية السابقة كثيرا على اكتشاف إصابته بذلك النوع سريع الفتك من السرطان وليدة أزمته المرضية، وليست حالة وجد صوفي، أو سمو روحي لشاب مثقف متدين يحدق في الموت، فيلتف حوله الأصدقاء أو يتعاطف معه الآخرون متناسين خلافاتهم، ولكنها رؤية عقل ناضج سياسيا، وفهم كاتب ومفكر وناشط قرأ واستوعب وعايش وخبر بنفسه، ونال الجوائز الدولية والمحلية والتقدير ليس في مصر، أو في لندن فقط، ولكن في عموم الإقليم، وفي غيره من أقاليم العالم.
لذا كان أبو الغيط محاورا وصديقا ومنشطا للتفاعلات بين كل أطياف الحركة والفكر السياسين من مصريين وعرب في الخارج وفي الداخل، يساريين وقوميين وليبراليين، وإسلاميين، على قاعدة أساسية صلبة هي المواطنة، وصيحة الفقراء أولا التي كانت شهادة ميلاده الصحفية والسياسية علما في أفقنا المصري، فكان بذلك امتدادا لسلسال نبلاء وشهداء الوطنية المصرية العادلة الرحبة الذين سبقوه على طريق الآلام والمجد، والذين يجب أن نتذكر في طليعتهم عبد الفتاح صبحي وحيدة وعزيز فهمي جمعة وشهدي عطية الشافعي وأنور عبدالملك ووليم سليمان قلادة وطارق البشري ومحمد السيد سعيد.. الخ
المدهش والمحزن في آن واحد أن يكون لدينا كل ذلك التراث الناصع، وأن يبعث حيا المرة بعد المرة كما حدث في يناير، وكما جسدته حياة ومرض ووفاة محمد أبو الغيط ثم نظل واقفين في مكاننا، ندور حول أنفسنا باحثين عن باب للخروج.