(1)

بمقدار ما كان يحلم “بدنيا الناس فيها سعيدة” دفع الجيل الذي شارك وانحاز لثورة 25 يناير أثمانا كبرى من حلمه وحريته واستقراره وسلامه النفسي.. هذه حقيقة لا جدال فيها!

رحيل الصحفي والكاتب النابه والمجتهد محمد أبو الغيط فجر الحوار وأشعل الجدل حول جيل يناير وما تعرض له.

أبو الغيط واحد من جيل يناير الذي شارك في الثورة، ومثل كل أبنائها قرر أن يختار طريقا رآه الأنسب والأكثر تعبيرا عما يريده لنفسه ولوطنه على السواء.

اقرأ أيضا.. “يا هوايا عليك يا محمد”.. في وداع العبقري الشاب محمد أبو الغيط

اختار الكتابة بيقين من يراها المعبر الأهم عن ضمير الناس والكاتب على السواء.

رحل أبو الغيط ابن جيل يناير في المنفى بعيدا عن وطنه، وخوفا من ملاحقات كان من الممكن أن تنتهي به إلى السجن، فاختار الوحدة والغربة بديلا، لينتهي به العمر وحيدا في بلاد غريبة، لا يملك حتى أن يدفن في تراب بلده.

ودعه نفس أبناء الجيل المنفي في البلاد البعيدة أو المحبط واليائس من أن يكون القادم أجمل! أمل واجتهاد واختيار.. ثم إحباط ومنفى ووحدة.. هذه حكاية الجيل الذي قرر أن يختار.

“«قبل أشهر قليلة، تحديدا في أغسطس 2022، وجدت نفسي في آخر مكان أتخيله. كنت في مركب يمضي ببطء داخل المسار البحري بكهف كوسكور في مارسيليا الفرنسية، أشاهد رسومات صنعها الإنسان القديم قبل نحو 27 ألف عام.

أسأل نفسي: لماذا فور إشباع حاجاته الأساسية من طعام ودفء وأمان وجد ذاك الإنسان الأول نفسه منجذبا لفكرة أن يطبع بالفحم وبقايا العظام والشحم آثار قبضته، أو يرسم حيواناته بأشكال فنية بدائية؟

الإجابة: هي أنه أراد أن يقول لمن بعده: لقد كنت هنا.

كلنا تتملكنا تلك الرغبة؛ رغبة الخلود في الحياة، فإن لم نخلد بأجسادنا فلنخلد بآثارنا، ولكلٍّ آثاره.

قد تبدأ آثار الإنسان من تلك الرسوم البدائية، وقد تتعقد لتصبح ملحمة جلجامش المثيرة على الألواح المسمارية، وقد تصبح أهرام الفراعنة، أو كاتدرائيات البيزنطيين، أو مساجد المماليك والعثمانيين، أو الكتابة لكاتب مثلي يشعر بخطر دنو نهايته.

لماذا أكتب؟

أكتب لأن الكتابة هي أثري في الحياة، هي أهراماتي الخاصة، فإلى متى ستبقى منتصبة من بعدي؟

الكتابة هي محاولتي لمغالبة الزمن والموت بأن يبقى اسمي أطول من عدد سنوات حياتي التافهة مقارنة بعمر الكون الشاسع المقدر حاليا بـ 14 مليار سنة.

أعرف أني مهما عشت فإن حياتي، والعالم كله، كذرة غبار لا تُرى على شاطئ ذلك الكون الفسيح. لكن الكتابة قد تجعل ذرتي ألمع بين باقي الذرات على الأقل.

هذه صيحتي: محمد أبو الغيط مرَّ من هنا!

تبدو هذه الفقرة مما كتبه الراحل النبيل محمد أبو الغيط معبرة عن جيل يناير أشد تعبير على الرغم من بساطتها. فالفقرة مطعمة بكل القيم والمثل العليا التي آمن بها هذا الجيل، واستمر في الإيمان بها حتى النهاية.

فقرة لا تتجاوز المائتي كلمة ممتلئة بكلمات من نوعية” الخلود.. آثارنا.. ملحمة.. الكتابة.. الزمن .. والموت”.

كلمات كاشفة ومعبرة عن هذا الجيل الذي يستحق أن نكتبه الآن!

(2)

في حسابات الأمل كان جيل يناير حاضرا، جاء في موعده مع القدر! ظن أن الدنيا منحته ما يريد وقت أن قرر أن ينظف ميدان التحرير من آثار الاعتصام، وانصرف غارقا في أحلام القادم الأخضر!

لم يكن يعلم أن “براءة الأحلام” يمكن أن تصطدم بواقع أقسى بكثير من كل الأمنيات الجميلة.

كان هذا الجيل يظن منذ عشر سنوات أنه ملك الدنيا وما فيها، راح يحطم أصنام الماضي بإرادة من يبني بلدا تستحق العيش فيها ويزرع الأمل لمواطن يستحق أن يعيش!

واصل على مدى سنوات زرع الحلم، الأمل، النضال، متمسكا بالانتصار.

ثم خرج من الجولة الأولى لمعركته مهزوما جريحا محاصرا بالإحباط من كل اتجاه.

يواجه أشباح عودة الماضي وعمق الذي ما زال مغروسا في هذه الأرض من فساد استبداد وطغيان!

لقد مسنا الحلم مرة.

بنفس جسارة الأمنيات التي لم تتحقق كان هذا الجيل وما زال يتمسك بخيوط الأمل.

يقرأ الأبنودي ومحمود درويش ومصطفى إبراهيم ويغني معهم ويغضب من نفسه، يعبر عن غضبه بكتابات حادة على شبكات التواصل الاجتماعي.

يرسم على الجدران مقولاته وشعاراته ويحملها في قلبه: نحن لم نحلم بأكثر من حياة كالحياة، يسقط كل من خان، عاشت ثورة يناير.

جيل على روعته ونبل أحلامه ما زال يتراوح بين اليأس والأمل، يستدعي الأمل مرة ويستدعيه الإحباط مرات.

ينزف دموعا وهو ينعي أصدقاءه ورفاقه الذين رحلوا بعد أن مسهم الحلم الذي لم يتحقق.

يحفظ ويحتفظ بكل التواريخ التي تمثله وتمسه وتعبر عنه: من 25 يناير مرروا بمحمد محمود ومجلس الوزراء وماسبيرو والعباسية.

يحفظ أسماء الميادين الكبرى والأماكن الخالدة: ميدان التحرير، ميدان الأربعين، ميدان الشون، القائد إبراهيم!

جيل يتشابه في ملامحه وأفكاره وغضبه وأمله وإحباطه، ويجمعه أنه ذاق مرارة السجن ومر الهزيمة.

رغم الهزيمة فإن الانتصار مؤكد مهما ابتعد.

فهذا الجيل الذي ينعي كل يوم صديقا جديدا لا يمكن أن ينعيه التاريخ، لأنه صنع من الأحلام أغنيات ستغنيها أجيال قادمة في هذا البلد، قبل أن يرى ثمار ما زرعه ينبت ويحيط الوطن بالأخضر.

فقط عليه أن يؤمن أن محطة الوصول لم تكن قريبة، وأن الانتصار النهائي ليس بالسهولة التي كان يتصورها!

هذا الجيل هو كلمة السر والرقم الصعب في معادلة المستقبل القادم، وهو الذي دفع الأثمان كاملة، تلك الأثمان التي تدفعها كل الأوطان التي تناضل من أجل مستقبل أجمل.

ليست الهزيمة هي القدر النهائي، ولا يمكن أن تتوقف عجلة التاريخ عن المسير قبل أن تنصف جيل يناير وتحمل معه البلد وأهلها إلى الأمام.

هكذا أعتقد وأنا أنتمي لنفس هذا الجيل الذي يحمل الحلم شراعا ليعبر به بحرا هائجا من القبح.

أؤمن أن جيلنا قد قدم ما آمن بصحته، وأنه مستمر في التمسك بخيطان الأمل مهما كان الواقع صعبا، وظني أن أحلامنا ستنتصر.

وداعا محمد أبو الغيط..