في الأول من ديسمبر/ كانون الأول الجاري، شيع أهالي مركز أبو المطامير في محافظة البحيرة (شمالي البلاد)، جثامين 10 من العمال الزراعيين، ضحايا “لقمة العيش”، لقوا مصرعهم نتيجة اصطدام جرار زراعي بالسيارة، التي كانت تنقلهم “مكدسين في صندوقها” لموقع العمل بأحد مزارع وادي النطرون.
وفي اليوم ذاته، تعرض 11 من العمال، بينهم سيدات بإحدى مصانع الملابس في شبين الكوم بالمنوفية (شمالي البلاد)، للاختناق؛ جراء تصاعد أدخنة كثيفة من المصنع المجاور. وسابقًا، لقي 8 أشخاص بينهم أطفال، حتفهم، غرقًا بالنيل، إثر سقوط سيارة النقل التي كانت تقلهم، من أعلى معدية بمنشأة القناطر. السيارة كان على متنها 23 من أبناء قرية طليا بمحافظة المنوفية، في طريقهم للعمل بإحدى مزارع الدواجن مقابل 25 جنيهًا “للنفر” في اليوم.
تكرار حوادث الإصابات هذه مؤشر لحالة العمالة في مصر، المنتظمة منها وغير المنتظمة. حيث يُمثل غياب وسائل السلامة والصحة المهنية، أحد أهم المخاطر التي يتعرض لها العمال. هذا فضلًا عن غياب الرقابة الحكومية المستدامة على أنشطة العمل الذي يفتح بابًا لزيادة العمالة غير المقيدة، التي تفقد كل مستويات التأمين الصحي والاجتماعي. ذلك في وقت يضن به سوق العمل بالفرص المتاحة. ما يدفع عددا كبيرا للقبول بأعمال خطرة تفتقد الأمان المهني والصحي والاجتماعي.
الإصابات في تزايد
في نشرته لهذا العام، نشر الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، إن إجمالي الإصابات في مصر ارتفع خلال العام الماضي 2021 بنسبة 8.8% مقارنة بعام 2020. وأشار إلى أن إجمالي الإصابات في القطاعين العام والخاص وصلت إلى 12527 إصابة مقابل 11510 إصابة لعام 2020.
(أ.س ) يعمل مسعفًا بهيئة الإسعاف، تعرض لحادث أثر على كفاءته وقدرته على القيام بالأعمال الشاقة التي تتطلبها المهنة. حيث يتعين عليه رفع وحمل المرضى من أدوار مرتفعة نزولًا وصعودًا.
يقول لـ”مصر 360″: “سقطت أثناء العمل. أدى ذلك إلى حدوث كسور بالحوض وعنق الفخذ، وخضعت لعمليات جراحية وتثبيت الكسور بشرائح و مسامير. لم يحدث لي ذلك عجزًا كليًا، لكنني لا أستطيع أن أمارس عملي بكفاءة”.
اقرأ أيضًا: معاناة العمال بعد تصفية شركات الدولة.. حكومة تتنصل ومجتمع ينزف كوادره
يضيف: “عمل المسعف يتطلب رفع المصاب وحمله من أدوار عليا. وطالبت من المديرين تحويلي إلى لجنة لفحص حالتي الصحية، وتمكيني من أداء أعمال خفيفة أو تحويلي لعمل إداري بناء على التقارير الطبية. لكنهم أخبروني أن راتبي سيتقلص إلى النصف. رغم أن ما حدث لي يُعد إصابة عمل ومثبت بمحضر إداري ومحضر شرطة وكل التقارير اللازمة، وحتى اليوم لا أجد استجابة”.
أزمة إثبات المرض
يوفر قانون العمل رقم 12 لسنة 2003 حماية العمال ضد مخاطر المهنة وإصابات العمل، وتلزم هيئة التأمينات الاجتماعية صاحب العمل الإبلاغ عن حالات الإصابة وقت وقوعها وفقًا للقانون، وعمل محضر إداري وإرفاق تقرير طبي بها ورأي جهات التحقيق ، وأقوال الشهود، والظروف التي وقع فيها الحادث.
القيادي النقابي صلاح الأنصاري يبين وجود شقين فى إصابات العمل خاضعين لقانون التأمينات، الأول يمكن إثباتها فى حالة الحوادث التي تقع أثناء العمل ويمكن إثباتها في محضر رسمي، والثاني يتعلق بالمرض المهني (يحدث للعامل نتيجة للتأثير الضار لبعض العوامل التي لا تنفصل عن بيئة العمل) وهو ما يصعب إثباته، لأن الغالبية العظمى من قطاعات العمل لا تُخضِع العاملين لديها للكشف الطبي الدوري كل 6 أشهر لبيان أثر المهنة على صحة العمال.
وفقًا للأنصاري، فإن إصابات “المرض المهني” تظهر بعد عدة سنوات في بعض الصناعات كالحديد والصلب والكوك والأسمنت. يقول: “الغبار الصلب يصيب العاملين بالتحجر الرئوي، وأغلب العاملين بمصانع الغزل والنسيج يستنشقون غبار القطن. ومن ثم يصابون بالتليف الرئوي. ما يحتم أهمية اتباع وسائل السلامة والصحة المهنية بالمصانع”.
اقرأ أيضًا: كيف تأثر العمال المصريين بالأزمة الاقتصادية؟
يضيف الأنصاري: “في هذه الحالات، يتحمل العامل تكلفة علاجه”.
يشير الأنصاري إلى أن العمالة غير الرسمية التي لا يشملها قانون التأمينات، تمثل 50% من قوة العمل في مصر. بينما أغلب التأمينات على العمال فى هذه القطاعات موجهة ضد إصابات العمل وليس للتأمين الاجتماعي كقطاع المقاولات. “أحيانًا يتم التأمين الاجتماعي على بعضهم ولكن بشكل جزئي وليس على إجمالي العاملين”؛ يقول الأنصاري.
كذلك، يلفت “الأنصاري” إلى قيام العديد من قطاعات العمل بمخالفة القانون أثناء التأمين على العاملين، بتسجيله بأجر أقل من أجره الشامل. وذلك في مخالفة صريحة لنص القانون. وهو ما يندرج تحت بند “تهرب تأميني”. حيث يتمكن صاحب العمل من دفع تعويض “قليل القيمة” على أساس الأجر المُسجل. كما يتسبب ذلك في دفع بدلات مخاطر بمبالغ ضئيلة.
غياب دور النقابات
يُرجع كمال عباس، المدير التنفيذي لدار الخدمات النقابية، إهمال اشتراطات وسائل السلامة والصحة المهنية بالقطاع الرسمي ومشكلات الحصول على التعويضات وبدلات الإصابات إلى غياب الدور النقابي، الذي يمثل العمال في المنشآت الخاضعة لقانون العمل وغير الخاضعة له، بمطالبة أصحاب العمل، بوضع لوائح تنظم عدد ساعات العمل، وتوفير وسائل السلامة والصحة المهنية. ذلك في ظل غياب دور وزارة القوى العاملة في التفتيش على عوامل الأمان والتهوية وأدوات الحماية من أضرار العمل.
يقول عباس: “هناك أكثر من 50 ملف نقابة مستوفي الأوراق طبقًا للقانون في أدراج وزارة القوى العاملة، لم ير النور منها إلا أربعة ملفات فقط”.
فصحيح أن قانون العمل رقم 213 لسنة 2017 ينص على حق العمال في إنشاء نقابات وعقد جمعيات عمومية وانتخاب مجالس إدارة. لكن على أرض الواقع، يتم إيداع الأوراق في الوزارة، بلا رد. كما ترفض حتى تقديم ما يفيد أنها تسلمت الأوراق.
أما عن العمالة غير المنتظمة، فيمكن رصد معاناتهم بالعين المجردة، مع غياب الكيانات النقابية، التي تعرقلها الوزارة. خاصة قطاع المقاولات والزراعة والأخشاب والعاملين بأجر يومي.
واقع الحال
يذكر عصام صبري، عامل بشركة النصر لصناعة الكوك والكيماويات (تم تصفيتها منذ 4 أشهر)، أن نسب الإصابات داخل المصنع كانت تتراوح ما بين 5 إلى 6 إصابات شهريًا. ورغم إجراء كشف دوري على العمال كل سنة. لكن الإجراءات الوقائية كانت محدودة، تتلخص في توفير (سفتي – نظارة – وكمامة)، رغم كون صناعة الكوك من الصناعات الخطرة. وتسبب أمراضًا سرطانية للعاملين بها، وبنسب مرتفعة؛ نتيجة استنشاق غبار الفحم والأبخرة الكيماوية.
لكن المهندس عبد الرزق رمضان، عضو لجنة الصحة والسلامة المهنية السابق بشركة الكوك، ينفي هذا. ويؤكد أن المصنع كان يطبق إرشادات التعامل مع الأمراض المهنية واتباع معايير السلامة والصحة المهنية عن طريق عمل دورات كاملة بالمصانع لتوعية العمال.
ويضيف أنه في حالات العجز أو الإصابة كان يتم تحويل العامل للمؤسسة العلاجية وصرف التعويض المناسب له على أساس الأجر التأميني ونسبة العجز. وفي حال خروجه من العمل يحصل على معاشه كاملًا من الأجر الوظيفي وليس التأميني.
وعن العمالة المؤقتة بالشركة، يقول عبد الرازق إنه في حالة حدوث إصابة لأحد العمال، كانت الشركة تتكفل بالعلاج فقط. لكن لا يتم صرف تعويضات.
أحوال القطاع غير الرسمي
تقول منى عزت، المدير التنفيذى لمؤسسة نون، إن غالبية العاملين في القطاع غير الرسمي، يعملون ساعات عمل إضافية ويتعرضون إلى حمل أوزان زائدة، تسبب لهم أمراضًا وانحناءً في الظهر. فضلًا عن أمراض صدرية وخشونة بالمفاصل. خاصة في قطاع عمال الزراعة. وتتعرض عاملات المنازل في أحيان ليست قليلة للتعنيف والضرب.
تضيف عزت: “في حال وقوع إصابات ينكر صاحب المنزل الواقعة ويدعي أنها تمت بعد خروجها من منزله”.
وتتفق عزت مع القيادي العمالي صلاح الأنصاري في أن الغالبية ممن يعملون بلا سقف رسمي لا يتمكنون من إثبات الأمراض المهنية والإصابات التي يتعرضون لها. وفي حال العجز يفقد العامل مصدر رزقه دون حماية اجتماعية أو تعويض ويتحمل تكلفة العلاج على نفقته الخاصة لغياب العلاقة التعاقدية بين العامل وصاحب العمل.
الحصول على الحقوق
يشير أشرف عباس المحامي العمالي إلى تأثير غياب التوعية لدى كثير من العمالة غير المنتظمة بالحقوق الصحية للمطالبة بها بالقطاع الرسمي وغير الرسمي. فقطاع مثل المقاولات يجهل العاملون فيه أن لهم نوعا من الحماية التأمينية في حالة الإصابة وعند خروجه على المعاش.
يشرح المحامي العمالي الأمر بأن الحكومة تجبر المقاولين عند صرف أي شيكات أو مبالغ من أي شركة، تسديد جزء من تأمين العاملين دون تحديد الأسماء، وبعدد معين، وعند حدوث وفاة أو إصابة في مواقع العمل يقوم العامل بعمل محضر إثبات إصابة ويحصل من التأمينات على تعويض دون احتياج لاسم محدد.
وقال أشرف لـ”مصر 360″: “نحتاج إلى تفعيل دور الاتحادات والنقابات لتوعية العمال بحقوقهم ومساندتهم ماديًا في إجراءات التقاضي. خاصة العمالة غير الرسمية التي لا تقدر على دفع رسوم التقاضي لإثبات الإصابات التي تلحق بهم. وبالتالي تضيع حقوقهم”.
كما يلفت إلى تراجع دور مكاتب العمل التابعة لوزارة القوى العاملة في المحافظات في مراقبة ومتابعة مواقع العمل والتفتيش الدوري على المنشآت الصناعية والتجارية والورش، والتأكد من تطبيق معايير السلامة والصحة المهنية، ووضع اللوائح المنظمة للعمل في أماكن واضحة للعمال”.
كما أن لها دورا كما يقول في التأكد: “هل يتقاضى العامل الأجر الذي تم الاتفاق عليه مع صاحب العمل؟”.
يُحمل أشرف وزارة القوى العاملة وإدارة المرور، مسئولية موت وإصابات عمال التراحيل في حوادث متكررة داخل وسائل نقل غير آمنة تمتلئ بهم وتشحنهم إلى أماكن العمل.
يقول: “ما يحدث على الطرق من شحن العمال بأعداد كبيرة في السيارات غير قانوني”.
وفي حين أن معظم عمال اليومية لا يعرفون صاحب العمل، ولا يعملون وفق أوراق رسمية، حسبما يقول أشرف، فإن هناك معضلة كبيرة تخص إثبات إصابات العمل. لأن المشرف على العمال لا يعلن في أحيان كثيرة عن اسم صاحب العمل. مطالبًا القوى العاملة بإلزام أصحاب الحيازات الزراعية وشركات الزراعة على التسجيل التأمينى على العمال مثل قطاع المقاولات لحمايتهم في حالة حدوث إصابات.