يبدو أن دول شمال إفريقيا ستشهد شتاء “ساخنا” مع ارتفاع وتيرة الاحتجاجات الشعبية في المغرب وتونس والجزائر، على خلفية الأوضاع المعيشية الصعبة، وفي ظل تطورات سياسية لم تأت بنظم حاكمة عادلة تستطيع تحقيق معدلات نمو، أو توفير وظائف كافية، أو حتى الحفاظ على حدود محتملة من معدلات التضخم.

اقرأ أيضا.. سياسات الطاقة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.. من الهيدروكربونات إلى المصادر المتجددة

تشهد منطقة شمال إفريقيا، معدلات تضخم مرتفعة، طالت السلع الأساسية، وساهمت في زيادتها ارتفاع أسعار الغذاء ومشتقات الطاقة، بما ينبئ بشتاء قاس يحاصر مواطني المنطقة، كما يدفع بتوقعات بموجة احتجاجات جديدة. يأتي هذا في الوقت الذي شهدت فيه بلدان شمال إفريقيا عدة احتجاجات في الأسابيع الماضية، اتصلت منذ بداية ديسمبر/كانون أول في كل من تونس والجزائر والمغرب، حيث يجتمع مواطنو الدول الثلاث على أرضية أزمة اقتصادية متفاقمة.

المغرب

جانب من احتجاجات المغاربة
جانب من احتجاجات المغاربة

شهد المغرب وقفات احتجاجية منذ أكتوبر/تشرين أول الماضي شملت 40 مدينة، ورفعت شعارات تطالب بوقف ارتفاع الأسعار، وحماية القدرة الشرائية للمواطنين، ودعت الجبهة الاجتماعية المغربية،  والتي تضم 30 تنظيما، للتظاهر عدة مرات، وقدمت لائحة مطالب اقتصادية  من بينها رفع الأجور وخفض أسعار المواد الغذائية وفواتير الماء والكهرباء.

وعلى مستوى التشريع طالبت الجبهة  بسحب مشروعات وصفتها بالرجعية تهدف إلى شل العمل النقابي وزيادة الضرائب، وطالبت بالاستعداد للمواجهة والتصعيد، كما دعت خلال أول ديسمبر/كانون أول الحالي إلى تحركات احتجاجية جديدة، وقالت الجبهة إن المغرب على فوهة بركان، وأنها ستواصل الحراك، بينما خاض المحامون إضرابا عاما عن العمل رفضا لفرض ضرائب جديدة عليهم.

واستمرت الاحتجاجات في البلاد حيث خرجت في الأسبوع الأول من الشهر الجاري عدة مظاهرات، وأعلنت الجبهة الاجتماعية أن المتظاهرين يحتجون على غلاء المعيشة ومشروع قانون الميزانية الذي أقرته الحكومة مؤخرا، ويستهدف بعض المهن بشكل غير عادل، في إشارة إلى المحامين  وغيرهم من المهنيين.

تونس

احتجاجات ضد الأوضاع الاقتصادية في تونس
احتجاجات ضد الأوضاع الاقتصادية في تونس

وفي تونس يزحف التضخم حسب مؤشرات رسمية، على البلاد بجانب  أزمة في توفير بعض السلع التموينية، في الوقت الذي يتوقع فيه خبراء اقتصاديون أن يواصل التضخم مستويات أعلى في 2023، في ظل أزمة تمويل تجعل توفير مخزون المواد الأساسية صعبا، سواء السلع التموينية المدعومة أو تلك الحرة. بينما عانت السوق من أزمة تقلبات الأسواق العالمية التي أدت لارتفاع تكلفة واردات الغذاء والطاقة.

كما شهدت تونس عدة مظاهرات بعضها كانت ليلية، ضد ارتفاع الأسعار واختفاء بعض السلع، بالإضافة إلى ارتفاع تكاليف المعيشة، وبالتوازي دعت المعارضة لسلسلة من التظاهرات لطرح القضايا الاجتماعية والاقتصادية.

من ناحيتها اتهمت جبهة الخلاص الرئيس التونسي قيس سعيد، بسوء إدارة الاقتصاد والانقلاب على الديمقراطية، حيث يتظاهر أعضاء الجبهة وكان منها مظاهرة في شارع الحبيب بورقيبة منتصف أكتوبر/تشرين الأول وهي تظاهرة شهدها عدد كبير من التونسيين. ويذكر أن الحكومة التونسية ومؤيديها دائما ما يميلون للتقليل من شأن هذه الجبهة كونها تضم بالأساس جماعة الإخوان المسلمين وممثلها السياسي حزب النهضة، الذي تصدر المشهد السياسي الحاكم (أي الحكومة والحكم) على مدار العقد الفائت دون أن يحقق إنجازات تذكر.

المشهد الحالي في تونس عبرت عنه تظاهرات عدة لأطياف سياسية وقوى اجتماعية مختلفة، لكن قوى المعارضة اتفقت في النهاية على أن تونس تمر بأزمة عميقة، ما يشير إلى توسع الاحتجاج مستقبلا، خاصة في ظل تحذيرات من انفجار اجتماعي وشيك نبّه له الاتحاد العام للشغل، وهو التنظيم الأكبر في البلاد والذي يضم كل العاملين التونسيين بأجر.

الجزائر

مظاهرة تطالب بالتغيير السياسي في الجزائر
مظاهرة تطالب بالتغيير السياسي في الجزائر

أما في الجزائر، فارتفعت أسعار السلع عموما، والغذائية خصوصا، ورفع الخبازون بقرار فردي الأسعار بعد ارتفاع تكلفة الطحين والكهرباء والغاز، بينما هددتهم الحكومة بقرارات عقابية.

وتأتي الجزائر ضمن قائمة أكبر مستوردي الحبوب في العالم، وعلى وقع الأزمة، عادت الاحتجاجات مجددا، وشهدت مدينة ميلت شرق الجزائر، ثلاثة أيام من التوتر والمشادات مع قوات الشرطة، مع اتخاذ قرارات بهدم عدد من المنازل في الولاية.

البنك الدولي لفت الانتباه إلى أن  المؤشرات الاقتصادية في الجزائر، لا تشير إلى التعافي الاقتصادي بشكل كامل، كما سبق ولفت البنك إلى انكماش الاقتصاد بحدة في عام 2020. وتوقع أن يشهد تعافيا بطئيا في 2021/2022 بينما سيبقى عجز الموازنة الكلي في البلاد مرتفعاً رغم تعافي الإيرادات نتاج الارتفاع المستمر في أسعار النفط والغاز الذي تصدره البلاد.

وحسب نشرة صندوق النقد الدولي، يمثل الغاز والنفط نحو 98 % من صادرات البلادة حوالي 40-45 % من مجموع إجمالي الناتج المحلي ونحو ثلثي إيرادات الموازنة، وكان لارتفاع الإيرادات بقفزة تاريخية سجلت 50 مليار دولار في العام الجاري 2022 مقابل 35 لعام 2021 دافعا لتعويض ارتفاع بعض الواردات، لا سيما الحبوب، وأيضا ساعد على تراجع العجز في الحساب الجاري، إلا أن الأزمة باقية، والتضخم أخذ خطا صاعدا، وهو ما يمثل مصدر قلق متزايد.

مؤشرات الأزمة

يلاحظ أن معدلات التضخم شهدت ارتفاعا كبيرا في تونس والمغرب والجزائر وأن كان بدرجات متفاوتة، في الوقت الذي تركت فيه أزمتا كورونا والحرب الروسية آثارهما، إلا أن معدلات التضخم التي توصف بالتاريخية تعبر عن خلل اقتصادي في دول شمال إفريقيا، عجزت حكومات تلك الدول عن مواجهته.

كانت ضمن السلع الأكثر ارتفاعا في الأسعار الحبوب والغذاء عموما، حيث وصل التضخم في المغرب إلى 8.3 % وهو ما يمثل أعلى مستوى لها منذ 1995.

ومثلت حركة أسعار المواد الغذائية النسبة الأكبر فيها حيث وصلت إلى 14.7 % بينما كانت معدلات التضخم في ديسمبر/كانون الأول 2021 في حدود 3.2 % وهو ما يعبر عن ارتفاع مستمر. كما يخالف توقعات سابقة للبنك المركزي المغربي. حيث أشار إلى أنه سيصل إلى 6.3% خلال 2022، و2.4% في 2023 مقابل 1.4% في 2021.

ويشير البنك الدولي إلى زيادة الضغوط التضخمية، حيث وصل التضخم خلال أغسطس/آب 2022 إلى 8.6 % وهو أكبر معدل في المملكة منذ سبتمبر/أيلول 1991. وارتفع مؤشر الأسعار بالنسبة للمواد الغذائية، بمعدل بلغ 14،7%في سبتمبر/أيلول، وفق معطيات رسمية.

أما في تونس ارتفع معدل التضخم من 6.7 % في يناير/كانون الثاني 2022 إلى 8.1 % في يونيو/حزيران 2022، ما دفع البنك المركزي إلى رفع سعر الفائدة، وهي أول زيادة منذ 2020، بينما أعلن المعهد الوطني للإحصاء في تونس ارتفاع نسبة التضخم إلى 9.8 %، خلال نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، وهو ما يصنف كأعلى مستوى له منذ بداية تسعينيات القرن الماضي، في أزمة لم تشهدها تونس من فترة طويلة وظهرت في ارتفاعات أسعار الغذاء ونقص بعض السلع.

وفى الجزائر وصلت معدلات التضخم في يوليو/تموز 2022 إلى 9.4 بالمائة على أساس سنوي مقارنة بـ 7.3 بالمائة فى العام الماضي، واستمرت فى الارتفاع، بينما كان توقع صندوق النقد والبنك الدوليين بلوغ معدل التضخُّم في الجزائر 7.22 بالمائة في عام 2021، ويتوقَّع الصندوق ارتفاع التضخُّم إلى 8.66 بالمائة نهاية العام 2022.

نقص المواد الغذائية في تونس
نقص المواد الغذائية في تونس

يدفع التضخم المستمر القدرة الشرائية إلى التدهور، حيث تفقد النقود جزءا من قوتھـا الشــــرائیـة، وینعكس ذلــك في إضــــعــاف ثقــة الأفراد بالعملة الوطنیة .

توضح نشرة آفاق أسواق السلع الأولية أن أسعار المواد الغذائية انخفضت نسبيا في الربع الثالث من العام 2022 بنسبة 12% بعد أن بلغ أعلى مستوى له على الإطلاق في إبريل/ نيسان. لكنه يظل أعلى بنسبة 20 % تقريبا مما كان عليه قبل عام.

الدواء المر

لا يبدو أن حكومات دول شمال أفريقيا لديها حلول سوى الاستمرار في برامج الإصلاح الاقتصادي المقترنة بالاقتراض لتمويل عجز الموازنة والإفلات من أزمة التمويل. بالإضافة إلى تقليص برامج الرعاية الاجتماعية ورفع الدعم ضمن إجراءات تقشفية ترتدي زي الإصلاح وتتخذ من شعارات الدواء المر طرحا للأزمة، داعية الشعوب لتحمل تبعات فشلها في إدارة موارد البلاد.

ففي تونس ينظر للعام 2022 بأنه الأصعب اقتصاديا، إلا أن عام 2023 حسب توقعات عدة، سيكون أكثر صعوبة، خاصة مع إجراءات مزمع تنفيذها تتزامن مع اتفاق للاقتراض من صندوق النقد، وما يفرض من شروط إذعان، وضمنها تحرير لأسعار الطاقة وتخفيض الدعم والانتقال إلى تحرير اقتصادي يفاقم أزمة معيشية لفئات اجتماعية مأزومة بالأساس.

وكذلك في المغرب وحسب الموازنة الجديدة هناك مجموعة من الضرائب والأعباء التي تفرض على المواطنين وتلقى رفضا واضحا لما سيتركه من آثار تزيد الأزمة الاقتصادية على المواطنين، في الوقت الذي توضح المؤشرات تصاعد نسب الفقر والهشاشة الاجتماعية، وحسب دراسة لمندوبية التخطيط، جهة الإحصاء الرسمي في المغرب، تضاعف معدل الفقر 7 مرات وانتقل من 1.7 % قبل الأزمة إلى 11.7 % خلال فترة الحجر الصحي.

ويبدو أن الجزائر ورغم أفضلية وضع اقتصادها بالمقارنة بالمغرب وتونس لن تفلت من غضب محتمل مع ارتفاع أسعار السلع الغذائية.