في المشهد الأول له كمرشح للرئاسة، اختار المشير أن يعلن ترشحه للانتخابات الرئاسية في 2014، مرتديا الحلة العسكرية الكاملة. رأى السيسي في الزي العسكري تعبيرا عنه وعن شكل النظام الذي ينتوي بناءه. وهو ما قد كان. فقد تمتع الرئيس خلال السنوات الثماني الماضية من حكمه بروح محارب حقيقي، بعيدا عن التقييم السياسي لهذه السنوات، فإن الرئيس واجه كل التحديات بروح وعقل محارب، وكان بعيدا كل البعد عن مناورات السياسة ومواءمات الحكم.

المحارب يتمتع بحس رومانسي حالم مثله تماما مثل الثائر، وهكذا كان لدى الرئيس، أحلام عريضة وأماني واسعة وطموح ليس له حدود، بالإضافة إلى إيمان حقيقي بدعم السماء لأحلامه وأفكاره. وقد كان لها ما يبررها من تدخلات قدرية ساعدت في إزاحة عدد من العراقيل التي كانت تواجه النظام الجديد. الرومانسية كانت سمة لسنوات الحكم الماضية.

هذه الرومانسية والروح الحالمة انعكست على خطاب الرئيس في سنوات حكمه الأولى، ورغم عدم تقديم الرئيس برنامجا سياسيا لفترة الحكم، إلا أنه قدم وعودا تلقفها المواطن البسيط بالبشر والسعادة، شعر المواطنون أن آمال ثورتي يناير ويونيو قد أثمرت عن رئيس همه الأول الشعب، ولديه نفس الحلم بالقضاء على الفقر والعوز.

منذ ظهوره الأول والرئيس يبدو في صورة الرجل القوي، يمسك بمفاتيح الدولة جميعا في يده، ومفاتيح قلوب الشعب في اليد الأخرى، وفي رأسه آمالا لا نهاية لها، رغم ما أظهر النظام في بدايات حكمه من شدة في التعامل مع المعارضة، إلا أن الجميع آمن بأن الرئيس لديه من الرغبة والقدرة لتقديم العديد من المكتسبات للمواطنين، ربما تكون هذه المكتسبات في مقابل التنازل عن بعض الحقوق المدنية والسياسية، ولكن على الأقل سوف يحصل الملايين على مقابل مناسب لمصادرة حقهم في التعبير.

“مصر هتبقى أد الدنيا” ، “بكرة تشوفوا مصر”، كانت هذه الشعارات هي أحلام الرئيس التي نقلها إلى الشعب، والتي أظهرت ما ينوي أن يقوم به من تطوير وبناء، كما كانت هناك العديد من الوعود المؤقتة بمدد للانتهاء من مشروعات بعينها، مثل مشروع العاصمة الإدارية، ومشروع البنية التحتية في عمومه، وتنمية المنطقة الاقتصادية لقناة السويس واستصلاح ملايين الأفدنة، والقضاء على العشوائيات، وحياة كريمة، وغيرها عشرات المشروعات التي لم تقدر الدولة على الالتزام بجدولها الزمني.

واجه الرئيس تحديات كان يعيها مبكرا فاستطاع أن يتغلب عليها أو يتجاوزها، وأبرزها تحدي البيروقراطية التي تعطل الإنجازات، وتقيد طموحات الرئيس وأفكاره، وقد تجاوزها الرئيس عبر إسناد المشروعات بالأمر المباشر إلى جهات بعينها لتنفيذها، والإشراف بنفسه على كل ما يتم من عمل، كما واجه الرئيس تحديا من نوع آخر وهو ترهل الدولة وتزايد معدلات الفساد على مستوياتها التنفيذية والقيادية، بالإضافة إلى “طمع” القطاع الخاص بمكاسب سريعة وعالية من مشروعات الدولة، وهو ما قابله بتجنيب للدولة وإسناد أغلب المشروعات الكبرى للقوات المسلحة، لتكون ذراعه التنفيذية وتتولى القيام بدور الدولة في الرقابة والإشراف على العمليات خصوصا الانشائية والتصنيعية.

كانت محاولة جريئة من الرئيس بتجنيب البيروقراطية ورجال الأعمال، وتأسيس ما يشبه القطاع العام الجديد، ولكنه في هذه المرة بقيادة وإشراف المؤسسة العسكرية.

رغم نجاح الرئيس في التغلب على التحديات السابقة، إلا إنه واجه صعوبات أخرى مع تحديات لم يضعها في حسبانه، مثل صعوبة تمويل المشروعات القومية داخليا، وتراجع شعبية النظام والحكومة، وانسحاب القطاع الخاص من السوق بدرجة كبيرة، بالإضافة إلى التحديات الخارجية من انخفاض الاستثمارات المباشرة، وتراجع الحلفاء عن وعودهم بدعم المشروعات الكبرى، وكان آخر تلك التحديات وأصعبها هو ما مر به العالم خلال جائحة كورونا والأثر الاقتصادي للحرب الروسية الأوكرانية.

اليوم ومع وطأة الأزمة الاقتصادية، وتزايد ضغوط التحديات الداخلية والخارجية على الرئيس، يبدو أنه بات صعبا تحقيق أحلامه وآماله.. لازالت العديد من المشروعات القومية معلقة بسبب نقص التمويل، وتواجه الدولة أزمة مالية لا تملك حلا لها سوى عبر صندوق النقد الدولي، الذي فرض شروطا سوف تضع القيود في يد الحكومة، وتحجم طموحات الرئيس.

وبالطبع يواجه الرئيس ضغوطا صعبة نتيجة الغضب الشعبي من ارتفاع الأسعار.

في ظل ذلك يبدو مفهوما أن يقوم الرئيس بتحميل مسئولية عدم نجاحه في تحقيق أحلامه للنمو السكاني أو لثورة 25 يناير، وتبرر الحكومة موقفها عبر إظهار جانب واحد من الأرقام الاقتصادية وإخفاء الأخرى، لتظهر الوضع في أحسن صورة.

“محدش هيقدر يعمل أكتر من اللي احنا بنعمله” جملة أخرى قالها الرئيس مؤخرا.. عادة ما تحمل خطابات الرئيس إجابات عن أسئلة مخفية، والجملة هنا تجيب عن أحد هذه الأسئلة التي ربما يكون قد طرحها الرئيس على نفسه، أو طرحها آخرون.

مع اقتراب الرئيس من العام العاشر في الحكم، تبدو أحلامه محاصرة بين عدم الرضاء الشعبي، وتراجع الحلفاء الإقليميين عن الدعم، وضغوط المؤسسات الدولية لوقف المشروعات القومية، وأزمة اقتصادية بدأت بالفعل ولكنها لم تصل ذروتها بعد، ومطالب بانفتاح سياسي وإعلامي، وشروط المستثمرين الصعبة.

المتابع لخطابات الرئيس منذ 2014 وحتى الآن سوف يلمس ما لمسته من نبرة الحزن والغضب واللوم التي باتت تكسو كلماته، والتوقعات لعام 2023 لا تبشر بخير، التنبؤات الاقتصادية تشير إلى مزيد من الضغوط، ولا يبدو أن ثمة ثمار من الممكن أن نجنيها، ولن ترث مصر ثروة، بحسب تعبير الرئيس.

في ظروف مثل هذه فإن الرئيس السياسي سوف يرى أن الاستسلام هو الحل الأنسب، والتخلي عن الطموحات والأحلام والعودة الى أرض الواقع، فريضة تلزمه بها قواعد البراجماتية. ولكن الرئيس المحارب من الصعب أن يقبل بالاستسلام، ولن يتخلى عن أمنياته، ودائما على استعداد لبذل كل شيء في سبيل الأمل وإن كانت المؤشرات تعاكسه، فإن الله لن يتركه وسوف ينصره أخيرا.