يجادل هذا المقال بأنه لا يمكن مناقشة موجة الاستحواذات الخليجية لأصول مصرية عامة وخاصة بمعزل عن أن الخليج بات هو المحرك الرئيسي للحظة التاريخية المعاصرة في المنطقة، محرك سياسي واقتصادي ومالي، وكذلك حضري/معماري واجتماعي وزراعي وثقافي.
الهدف: بناء نظام إقليمي يتمحور حوله مستفيدا من عوامل جيوسياسية متعددة تبلورت علي مدار العقد الماضي، لكن ما سيناقشه هذا المقال فقط هو قوة الدفع التي تتأتي لهذا المشروع من “تكثيف التحولات النيوليبرالية” في المنطقة، وهنا يحسن أن نؤكد أن الخليج لعب دورا أساسيا من قبل في الدفع بتحولات الاقتصاد المصري -كما جرى في فترة السادات بعد 1974 ورصده بالتفصيل عادل حسين في كتابه الاقتصاد المصري من الاستقلال إلى التبعية- أو في برامج التكيف الهيكلي والخصخصة التي بدأت مع مبارك في التسعينيات من القرن الماضي. أقول تكثيف التحولات النيوليبرالية وزيادة وتيرتها، لأن الأنظمة المصرية قد أخذت قرارا من السبعينيات بالتحول عن الاقتصاد الذي تقوده الدولة إلى اقتصاد السوق، وإن تفاوتت سرعتها وعمق تحولها من حقبة لأخرى.
لا يعني ما تقدم أن دول الخليج الست تتصرف كوحدة واحدة، فما بينها من تنافس الكثير وهو ما يستحق أن يخصص له مقال مستقل، ولكن يظل ما يجمعها هو السوق النيوليبرالي الذي يقود نظرة الرأسمالية الخليجية والتي تتكامل أدواتها وتتشابك قطاعاتها ويندمج فيها العام بالخاص معا -كما قدمت في مقال سابق.
بعبارة أخرى، فإن فهما أعمق لطبيعة الرأسمالية الخليجية التي يقودها الربح والسيطرة والتحكم لتحقيقه، وتشابك علاقاتها وكيفية اندماجها في الديناميكيات العالمية لحركة رأس المال، والطرق التي يعمل بها “الخليج العالمي” لتشكيل المنطقة عبر تدفقاته المالية، من شأنه أن يساعدنا نحن المصريين على تقييم مسألة الاستحواذات، بعيدا عن نظرة اختزالية تبسيطية تستند إما إلى تدفق الاستثمار الأجنبي، أو إلى السعر العادل، أو إلى نظرة ضيقة لمفهوم السيادة الوطنية الذي بدوره يحتاج إلى تجديد.
ولا تعني الرغبة الخليجية في بناء نظام إقليمي يتمحور حوله ويكون على مثاله أن هذا التصور لا يعاني من فجوات خطيرة، فالرغبة لا تعني الإمكانية، والإمكانية لا تعني الإمكان والتحقق.
4 عمليات متكاملة من التشكيل
لتكثيف التحولات النيوليبرالية في مصر يقوم الخليج بأربع عمليات متكاملة مع بعضها البعض من التشكيل وهي:
أولا: تشكيل هياكل الدولة:
توضح عديد الدراسات الارتباط بين تدويل فوائض المال الخليجي وبرامج إعادة التكيف الهيكلي، فتحرير الأسواق شرط لضمان الأرباح. هذا التدويل لرأس المال الخليجي تم تمكينه بشكل أساسي من خلال طرح حزم التكيف الهيكلي في العديد من البلدان العربية خلال التسعينيات والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وما تلاه من تحرير وانفتاح على تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر.
على مدى العقد الماضي، كان رأس المال الخليجي هو المستفيد الرئيسي من هذا التحول الليبرالي الجديد – حيث أصبح متشابكًا بشكل وثيق مع أنماط وإيقاع تراكم رأس المال في جميع أنحاء المنطقة ككل.
يمكن أن نسوق عديد الأمثلة علي العلاقة بين تدفقات المال الخليجي وبين التحول في وظائف وأدوار الدولة المصرية، فالتخلي عن هيمنة الدولة المصرية على القطاع الزراعي في التسعينيات من القرن الماضي كان شرطا ضروريا لتدفق المال الخليجي في هذا القطاع، كما كان تدويل رأس المال الخليجي في الصناعات المصرية متوقفًا على نمو الأسواق المالية في التسعينيات كجزء من سياسات التحرير للقطاعات المملوكة للدولة، كما أن مزيدا من حضور البنوك الخليجية في مصر ارتبط بإصلاح وإعادة هيكلة قطاع البنوك المصرية وخصخصة بعض البنوك المملوكة للدولة.
الملاحظ أننا بتنا نشهد تحولا ملحوظا نحو نظام يعتمد علي هيمنة سلطة الشركات في مقابل سلطة الدولة، وهي نتيجة طبيعية لـ”الليبرالية الاقتصادية” الموجهة لتعميق علاقات السوق عبر خصخصة الدول. في هذا النظام تتحدي حوكمة الشركات نظام الدولة، ويقال إن هذا يخلق نوعًا من الفضاء بلا حدود، حيث تتدفق السلع والخدمات والأموال بحرية، حتى عبر الحدود الوطنية والدولية.
الخلاصة: عملت تدفقات رؤوس الأموال الخليجية على تعميق التحرير نفسه تمهيدا للاستفادة منه، من خلال ترسيخ منطق موجه نحو السوق تقوده الشركات بشكل تدريجي في جميع الأنحاء، وهذا سيكون له انعكاس وتداعيات كبير ة على تسليع جوانب الحياة كافة -كما سيتضح في هذا المقال، إلا أن الأهم في هذه النقطة فإن الدولة -من حيث الوظائف والأدوار والهيكل- هي أول المتأثرين بذلك.
ثانيا: تشكيل سياسي
انتهت دراسة رائدة لـ”سياسة جديدة لفن الحكم الاقتصادي لدول مجلس التعاون الخليجي: حالة المعونة الإماراتية والتدخل المالي في مصر” إلى القول بأن “النهج الإماراتي لمصر يقدم شكلاً جديدًا من المشروطية .. [فهو] أكثر اهتمامًا بالنهوض بالهدفين التوأمين: الرأسمالية التي تقودها الدولة، والرؤية الإقليمية للقيادة العربية العلمانية”، وتضيف أن دول الخليج مستعدة بشكل متزايد لتصدير نماذج الاقتصاد السياسي الخاصة بها -كتحد للنصائح الغربية- في جهودها الاستراتيجية للحد من المنافسة السياسية، والفضاء السياسي المتسامح التعددي الذي يشمل الجميع.
أما الأهداف التي تتوقع دول الخليج تحقيقها بالموارد الاقتصادية فهي: خلق فرص استثمارية، وإنشاء “بوابات” إقليمية لأسواق أكبر، وإيجاد مسارات للتأثير السياسي المحلي الذي يمكن أن يخلق أو يدعم أو يضعف المنظمات السياسية المحلية، أما الجهود المنسقة لمكافحة الإرهاب -الذي تتفاوت في تعريفه- فهي أيضًا دافع رئيسي وراء الحفاظ على تدفق المساعدات المالية.
هناك تفاصيل كثيرة حول التأثير السياسي لمعونات الخليج علي طبيعة نظام الحكم ليس مجال الخوض فيها الآن، لكن العلماء يشيرون إلى عدد من النقاط أبرزها: المساعدات الخارجية لا تفعل شيئًا يذكر لتحسين الحوكمة، وبدلاً من ذلك يمكن أن تمد فترة الحكام، ومن المرجح أن تعزز المعونات من ممارسات المحسوبية وتزيد من القمع.
تظهر أدلة جيدة في دراسات عديدة على أن المساعدات في شكل منح نقدية للحكومة في مصر تؤدي إلى تفاقم مشكلة التضخم، مما يخلق آثارًا جانبية مزعزعة للاستقرار على الاقتصاد الهش الذي تسعى المساعدات إلى تعزيزه، كما إن القدرة على تخصيص الأموال للإنفاق الحكومي خارج إجراءات الميزانية العادية تشوه أولويات الميزانية وتجعل التخطيط لها لسنوات أقل موثوقية، وأخيرا، فإن المساعدة التي تستهدف الدول التي تعاني من مشكلة الإرهاب والميل إلى تكتيكات الأمن القمعية لا يبدو أنها تعمل، بل قد تزيد من حلقات قمع الدولة.
ثالثا: تشكيل اقتصادي/ اجتماعي
يجري هذا التشكيل عبر مسارات عدة أبرزها:
1- مزيد من دمج الاقتصاد المصري في السوق العالمي، وعلي ما يبدو فإن الخليج بات البوابة الملكية لهذا عبر توفير التمويل، ولعب دور الوسيط من خلال توجيه بعض القطاعات للتصدير بغض النظر عن الاحتياجات المحلية -كما في القطاع الزراعي، بالاضافة إلي المشاركة في إنتاج وتداول السلع.
المشكل مع هذا الدمج أن ما يحكمه هو أولويات الخليج وتصوراته ومصالح مؤسساته وشركاته المتعددة -حكومية وعائلات تجارية كبرى.
2- اندماج بين الرأسمالية المصرية وبين الخليجية الذي يبرز في هياكل ملكية الشركات المشتركة بين الطرفين، وفي أحيان تتحول بعض رموز الرأسمالية المصرية لأن تكون واجهة لرأس المال الخليجي.
مع هذا الدمج ينتفي التنافس وتزداد التحالفات عبر الوطنية وتمتد في الإقليم، ولكنها في المقابل قد تؤدي إلي ضعف البرجوازية المصرية علي المدي القصير.
إن المتابع لصفقات الاستحواذ في قطاعات مختلفة يلحظ خروج كامل عن ملكية المصريين، أو يتحول إلي شريك أصغر، أو يؤدي إلى تفتيت هيكل الملكية في الشركة.
يؤدي دمج رأس المال الخليجي في هياكل الملكية هذه إلى ربط تراكم رأس المال المصري في الأعمال بشكل وثيق بأشكال وأنماط التراكم في الخليج الذي هو بدوره مندمج بإحكام في الرأسمالية الغربية، وبالتالي فإن مستقبل الرأسمالية المصرية سيتحدد بشكل اساسي بطبيعة علاقتهم بدول الخليج.
3- تشكل بعض القطاعات رابطا مؤسسيا رئيسيا بين نخبة رأس المال الخليجي وبين نخب الدولة، وهنا يمكن أن نسوق عديد الأمثلة فحيث لاتزال مؤسسات الدولة تسيطر علي الأراضي فإن قطاع العقارات الذي توسعت فيه الشركات الخليجية يصبح مثالا بارزا علي العلاقات التي تنشأ بين النخبتين.
تقدم لنا دراسة “من يملك القاهرة” أرقاما صادمة حول توزيع ملكية أراضي القاهرة، فالحكومة الإماراتية تمتلك أراض بنسبة 6.16%، فيما تملك الحكومة المصرية نسبة 16% لتحتل المركز الأول في القائمة، كأكبر مالك للأراضي، ثم تأتي حكومات الكويت والنرويج في مراتب متتالية من خلال صناديق استثمار بحصص أصغر كثيرًا.
الشركات العشر الكبرى في مجال الاستثمار العقاري [إعمار مصر، ومجموعة طلعت مصطفى، وبالم هيلز، ومدينة نصر للإسكان والتعمير، وبنك التعمير والإسكان، والسادس من أكتوبر، وبايونيرز بروبرتيز، ومصر الجديدة للإسكان، وأوراسكوم للتنمية، وأخيرًا بورتو جروب] والتي يبرز فيها المال الخليجي بقوة تملك نحو 40 ألف فدان في القاهرة الكبرى، بما يمثل 5% من مساحة المدينة داخل الكردون، وبنحو 10% من الأراضي المبنية، و16% من مساحة المدن الجديدة بالمحافظة، وتستحوذ علي تسعين في المائة من أرباح هذا القطاع الذي بات يمثل 11% من الناتج القومي بعد الزراعة التي صارت 12٪ بعد أن كانت 25%.
ملمح آخر لدمج رأس المال الخليجي في الدولة ويتمحور حول القطاع المصرفي، ويتعزز هذا الارتباط مع الدولة من خلال تمويل الدين العام، وهنا فإن الدولة المصرية “تتوسط بشكل متزايد في تحويل الثروة الوطنية إلى البنوك الكبيرة المرتبطة بالخليج من خلال خدمة الدين المحلي”.
4- شركات الخليج الكبرى هي مجال من عوالم اجتماعية-مؤسسية متداخلة، وهنا يمكن أن نشير إلي العائلات الحاكمة ومؤسسات الدولة والأسر التجارية والمنظمات فوق الوطنية وهي تعمل في تناغم شديد لاستخراج الثروة من خلال غزوها للمساحات المتعددة. وبهذا المعنى، فإن رأس المال الخليجي هو تعبير عن هذه الإمبراطورية في مصر، وهو ممثل فاعل يرسم كثير من علاقات القوة والثروة فيها وفي الإقليم.
يشير آدم هنيه في كتابه الهام عن الاقتصاد السياسي لمنطقة الشرق الأوسط لأحد ملامح التأثير الخليجي فيقول: “يواجه صغار المزارعين في مصر شركات الأعمال الزراعية التي يملكها مستثمرون خليجيون أقوياء. في صراعهم، لا يواجه صغار المزارعين المصريين الهيكل الطبقي المحلي فحسب، بل يواجهون أيضًا هيكل دول مجلس التعاون الخليجي، التي يمنحهم رأس مالها وعلاقاتها الحميمة مع القوة الأمريكية [وأضيف مع أجهزة الدولة أيضا] وطبيعتها الاستبدادية قدرة معتبرة”.
ويلفت نظرنا إلى ملمح آخر وهو أن التفاوتات المكانية الناتجة عن الحياة الحضرية اليومية قد أدت إلى ظهور احتجاجات اجتماعية كبيرة حول سياسات مثل إخلاء الأحياء الفقيرة وإعادة تقسيم الأراضي، والتغييرات في قوانين التحكم في الإيجارات، و بيع الأراضي للمستثمرين الأجانب بأسعار أقل من السوق. في الوقت نفسه، حاولت الحكومات الاستبدادية استغلال مجتمعات فقراء الحضر لتحويل قطاعات من السكان المهاجرين التابعين إلى مناطق عازلة للنظام.
كانت النتيجة هي زيادة الاستقطاب الاجتماعي في المجتمع، ففي جميع أنحاء المنطقة العربية، تعايشت القطاعات الزراعية الموجهة نحو التصدير والتي تهيمن عليها الشركات الكبرى جنبًا إلى جنب مع زراعة الكفاف على نطاق صغير ومستويات الفقر الريفي المستوطنة. وفي المدينة العربية الآن تتجاور مجتمعات مسورة ذات خدمات متميزة لقطاع من الطبقة العليا مع أحياء فقيرة لا تكاد تتوفر لها مقومات الحياة الأساسية.
رابعا: تسليع المجالات والحياة اليومية:
يظهر هذا في مجالات ثلاثة -كأمثلة- أعاد الخليج تشكيلها بشدة في المنطقة وتحول فيها إلى أن يكون المركز الذي يرسم ملامحها:
1- القطاع الزراعي وفيه تم تأطير “الأمن الغذائي” لدول مجلس التعاون الخليجي حول إمدادات مضمونة ومنخفضة التكلفة من المواد الغذائية الأساسية، ويعمل على إعادة توجيه تداول الغذاء في الشرق الأوسط حول أنماط التراكم في الخليج.
إن إعادة تنظيم النظم الغذائية الخليجية تعمل على تغيير الأنماط الإقليمية للتجارة الزراعية، وأنواع السلع الزراعية المنتجة وهياكل الملكية والرقابة داخل القطاع.
هذا نظام غذائي يتم التعبير عنه بشكل متزايد على المستوى الإقليمي – وهو نظام يدور حول منطقة الخليج كجاذب مركزي، ويتم من خلاله التوسط في أشكال التنمية الزراعية في البلدان العربية الأخرى.
اتخذ ذلك في مصر مسارات متعددة منها سيطرة بارزة على كل مراحل الإنتاج والتصنيع وسلاسل التوريد من خلال عدد محدود من الشركات التي ينطلق عملها من الخليج ليمتد إلى آفاق إقليمية ودولية متسعة. بات الخليج مركز التصدير والاستيراد للمنتجات الزراعية المصرية، فثلث الخضار والفاكهة المصرية يتم تصديرها إليه، وفي المقابل أصبح الخليج أحد الموردين لمصر بحصة سوقية تبلغ 13%، بالاضافة إلى احتلال الشركات الخليجية في السوق المصري لحصة معتبرة في قطاعات غذائية عديدة. تمتلك 27 شركة خليجية حصة سوقية مهيمنة في جميع القطاعات الرئيسية للأغذية التي تنتجها الشركات، بما في ذلك منتجات الألبان والعصير وإنتاج الدواجن وزيوت الطعام والخضروات والفواكه والسكر والحبوب والدقيق. رأس المال الخليجي هو القوة المهيمنة عبر قطاع التجزئة الحديث للمواد الغذائية في مصر، حيث تسيطر نفس الشركات على غالبية سلاسل الهايبر ماركت والسوبر ماركت الكبيرة.
2- الحيز العمراني: المدينة هي النطاق المكاني أو الحيز العمراني الذي يتم فيه إنتاج النيوليبرالية وتغليب عناصر السوق ومحدداته. ويلاحظ أن وتيرة وطابع التغيير الحضري في المنطقة العربية يتشكلان بقوة من خلال تراكم رؤوس أموال دول مجلس التعاون الخليجي، فقد تم الدفع بالسياسات الحضرية التي كانت أولى أولويات السوق والتي ظهرت في جميع أنحاء المنطقة -خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين- من خلال تدويل رأس المال الخليجي.
أصبح الانتشار الناتج عن المجتمعات المسورة ذات الحراسة المشددة ومراكز التسوق الراقية والمباني الشاهقة الجديدة علامة على المناظر الطبيعية للمدينة في شمال إفريقيا والمشرق العربي – وهو شكل حضري غالبًا ما يُقارن بتلك الموجودة في دبي ومدن الخليج الأخرى. تمتد هذه المحاكاة الإقليمية للخليج أيضًا إلى الأساليب المعمارية والفنية وهي عبارة عن أبراج شاهقة -كما في العلمين والعاصمة الإدارية، أو هدم لمساحات من البحر كما في مدينة أبي قير شرق الاسكندرية، وهنا يحسن أن نذكر أن المفاوضات الأولي التي جرت لإنشاء العاصمة الإدارية كانت مع شركات خليجية، وكان الخليج سيضطلع بدور أساسي في تدشينها.
وهكذا، فإن منطق دول مجلس التعاون الخليجي المعماري والحضري داخليا يمتد بشكل متزايد داخل النطاق الحضري للمنطقة الأوسع من خلال عملهم كمطورين عقاريين ومقاولين وممولين، ويرتبط هذا التشابك ارتباطًا وثيقًا بتدويل فائض رأس المال الخليجي في البيئة المبنية للدول العربية الأخرى.
لا يمكن فصل هذا عن تحرك جميع حكومات المنطقة بشكل ملموس نحو تبني تسليع الأراضي والإسكان والبنية التحتية الحضرية. شكلت هذه التحركات نحو سياسة الإسكان والعقارات التي يحركها السوق الشكل السائد للتطوير العقاري الحضري في المنطقة.
3-إعادة إنتاج الأفراد والأسر لأنفسهم على أساس يومي وعلى المدى الطويل على مقاس النيوليبرالية.
هذه الظاهرة ترتبط ارتباطًا وثيقًا بتآكل التوفير الاجتماعي للإسكان والتعليم والرعاية الصحية ورعاية المسنين في ظل النيوليبرالية، فقد أصبحت الأسر تعتمد بشكل متزايد على الأسواق المالية لضمان الاحتياجات الأساسية. وينعكس هذا في النمو الكبير في تمويل الرهن العقاري والإسكان وتعليم الأبناء، والارتباط المباشر المتزايد للمعاشات التقاعدية بآليات أسواق رأس المال، وظهور أشكال مختلفة من التأمين القائم على السوق كوسيلة لإدارة المخاطر.
يلاحظ بعض العلماء أن هذه العملية تشكل إضفاء الطابع المالي على جوانب من الحياة الإنسانية لم تكن مالية -من خلالها يتوسط القطاع المالي في توفير السلع والخدمات الخاصة للأسر والأفراد.
زادت هذه النسبة بسرعة كبيرة – في مصر، على سبيل المثال، شكلت الأرباح المتعلقة بالتمويل 11.2% من الأرباح في عام 2005، و27.9% من الأرباح في عام 2009، ووصلت إلى 69.4% من إجمالي الأرباح المدرجة في عام 2015.
في الوقت نفسه، أصبح الاقتراض الأسرى أكثر أهمية في ملامح قروض البنوك. في مصر، على سبيل المثال، بلغت نسبة القروض المصرفية للأسر مقابل تلك المقدمة للشركات الخاصة حوالي 41% في عام 2016 بينما كانت النسبة في عام 2010: 28% فقط.
بالطبع لا يمكن عزو هذه الظواهر فقط لتدفق المال الخليجي وخاصة في القطاع المالي، ولكن لا يمكن في نفس الوقت ألا تكون هناك علاقة بين زيادة حضوره في قطاع البنوك المصرية وشركات التمويل الشخصي وبين هذا النمط من الحياة للمصريين.
وهكذا، فإن زيادة الدور الخليجي ارتبط بتصاعد التوجهات النيوليبرالية في المنطقة، هي تستفيد منها وتدعمها في نفس الوقت في جميع القطاعات التي أشرت إلى بعضها، ونحتاج إلى متابعتها في قطاعات أخرى كثيرة، كما أن الكثير من التحليلات التي تتابع المنافسات والتحالفات السياسية المتغيرة باستمرار في المنطقة تميل إلى التقليل من أهمية عنصر متزامن في السياسة الإقليمية المعاصرة وهو: محاولة إعادة تشكيل الهياكل الاقتصادية بحيث لا يظل الاتجاه العام لإعادة التكيف الهيكلي للاقتصاد الذي تم إنشاؤه خلال العقود السابقة دون منازع فحسب، بل يتم تكثيفه بشكل أكبر.