النسيان نعمة أنعم الله بها على الإنسان ليتجاوز أحزانه، لكن النسيان يصبح جريمة عندما تمارسه الذاكرة الجماعية للمجتمعات والشعوب فتجاوز الماضي وعدم الاستفادة منه ووضعه نصب أعيننا يجعلنا نقع في ذات الأخطاء كما فعل (سيزيف) في الأسطورة الإغريقية الشهيرة حيث استطاع أن يخدع إله الموت ( ثاناتوس) مما أغضب كبير الآلهة (زيوس)، فعاقبه بأن يحمل صخرة من أسفل الجبل إلى أعلاه، فإذا وصل القمة تدحرجت إلى الوادي، فيعود إلى رفعها إلى القمة، ويظل هكذا إلى الأبد، فأصبح رمزًا للعذاب الأبدي.

اقرأ أيضا.. الحوار السياسي.. ورسائل “الجماعة” المرفوضة

ومن أهم أخطاء التي ارتكبتها الدولة المصرية بكل مؤسساتها الرسمية وغير الرسمية خلال تقريبا مائة عام، نسيان تجاربها مع جماعة الإخوان المسلمين منذ نشأة الجماعة في عام 1928 حتى اليوم، فقد لدغنا في هذا الجحر مرات عديدة، وكل مرة ننسى ونظن أن عقرب الإخوان أصبح حيوانا أليفا يمكن بقاؤه في المنزل.

كتب زميلي العزيز محمد صلاح مقالا بعنوان (جماعة الإخوان والمعركة المؤجلة)، قال فيه “إخواننا المجاهدين هكذا أطلقت الجماعة على العناصر المسلحة في الشيشان وأفغانستان والبوسنة، لم تحمل الجماعة السلاح في مصر قبل 2011 ولكنها لم تلفظه تماما، وعملت على دعم المسلحين ماليا وسياسيا عبر أذرعها الاقتصادية والإعلامية والدينية، كذلك فإن الجماعة أعلنت رفضها تصرفات الجماعة الإسلامية التي كانت قد انشقت عن الإخوان، ولكنها لم تدخل مواجهة من أي نوع مع التنظيم المسلح وتركت هذه المواجهة للدولة”.

وفي هذه العبارة الكثير من المغالطات التاريخية والتي تنذر أن ذاكرتنا الجماعية ليست بخير وتحتاج إلى مزيد من (الإنعاش)، خاصة وأنه ختم مقالته بعبارة “إذا كنا نبني جمهورية جديدة فلا يجب أن نغفل مخلفات الجمهورية القديمة، وأبرزها التنظيم الإسلامي الاجتماعي الذي يضم الآلاف في صفوفه، ورغم ضعفه إلا أن بعضا من قوته التنظيمية لازالت حاضرة”! وعلى طريقة المثل الشعبي الرائج الذي يقول: “إن كنت نسيت اللي جرى، هات الدفاتر تتقرا”.

سأحاول في مقالي هذا إعادة قراءة دفاتر الإخوان لأذكر زميلي أن ما كتبه عن “أن الجماعة لم تحمل السلاح في مصر قبل 2011” غير صحيح وذلك بحقائق تاريخية تقول:

في تاريخ 15 نوفمبر 1948 قام عدد من أعضاء النظام الخاص بجماعة الإخوان المسلمين في مصر بنقل أوراق خاصة بالنظام وبعض الأسلحة والمتفجرات في سيارة جيب من إحدى الشقق بحي المحمدي إلى شقة أحد الإخوان في العباسية إلا أنه تم الاشتباه في السيارة التي لم تكن تحمل أرقاما وتم القبض على أعضاء التنظيم والسيارة لينكشف بذلك النظام الخاص السري لجماعة الإخوان المسلمين. وأدى هذا الحادث إلى إعلان محمود فهمي النقراشي رئيس الوزراء آنذاك أمرا عسكريا بحل جماعة الإخوان واعتقال أعضائها وتأميم ممتلكاتها وفصل موظفي الدولة والطلبة المنتمين لها، وكان هذا القرار سببا جعل النظام الخاص يقوم بقتل النقراشي، وانتهت القضية فيما بعد ببراءة النظام الخاص من التهم المنسوبة إليه وإلغاء قرار النقراشي من حل الجماعة وتأميم ممتلكاتها.

وهذه لم تكن حادثة العنف الوحيدة التي ارتكبتها الجماعة قبل 2011.

فالجماعة كانت رائدة من رواد صناعة العنف والكراهية المقدسة والقتل باسم الدين وإشعال النار المقدسة التي تشتعل في قلوب المؤمنين لتحصد أرواح الأبرياء، وأخطر ما يصيب الإنسان هو داء الكراهية، وأخطر منه أن يصبغ الإنسان الكراهية بالدين، فتكون كراهيته وحقده وجهله، أوامر من الله، هذا ما يصوره له خياله المريض وقلبه الذي أكلته الضغينة واستولت عليه، ربما يكون سبب ذلك الفقر، الحرمان، قله الحيلة، انعدام الموهبة، لكن هناك دائما من يتربص بهؤلاء لاصطيادهم واستقطابهم ليصنع منهم آلة للقتل، وعادة ما يكون الدين هو الوسيلة الأسهل والأقرب، التأويل الخاطئ للنصوص والاستشهاد بالفتاوى فى غير موضعها، هذه هي الوسائل التي يصنع منها القاتل بأمر الله.. وقد أتقنت الجماعة صناعته.

وفي قصة مقتل الشيخ الذهبي على يد شكري مصطفى أكبر دليل على ذلك.

سيد قطب في قضية تنظيم 1965

شكري أحمد مصطفى (أبو سعد) والشهير بشكري مصطفى من مواليد من مواليد قرية (الخرص) مركز أبوتيج محافظة أسيوط 1942، أحد شباب جماعة الإخوان الذين اعتقلوا صيف عام 1965 حتى صيف 1971، وكان لا يزال طالبا بكلية الزارعة بجامعة أسيوط وتم اعتقاله بتهمة توزيع منشورات لانتسابهم لجماعة الإخوان وكان عمره وقتئذ ثلاثة وعشرين عاما وفي هذه الفترة تعرف على كتابات سيد قطب وأبو الأعلى المودودي هو وكثير من الشباب على أيدي جماعة الإخوان المسلمين، بعدها أسس شكري جماعة التكفير والهجرة التي قامت باغتيال فضيلة الشيخ محمد حسين الذهبي أمين عام مجمع البحوث الإسلامية، ووزير الأوقاف وشئون الأزهر حتى نوفمبر 1976، حيث قررت اختطافه والاحتفاظ به كرهينة مقابل فرض الإفراج عن الأعضاء المعتقلين، ولقد كان السبب الرئيسي في اختيار الدكتور الذهبي، هو أنه كان أصدر وقت أن كان وزيرا للأوقاف، كتيبا صغيرا فى عام 1975 ناقش فيه فكر جماعة التكفير والهجرة.

حمل السلاح في جرائم العنف ليست أصعب مرحلة، لكن صناعة العقيدة التي ستحمل السلاح وتجنيد الأفراد وتسخيرهم هي المهمة الأصعب والتي أجادتها الجماعة عبر تاريخها. فدائما كانت الجماعة تبذر العنف وتزرعه وتسقيه لينمو، حتى ولو على أغصان أخرى متشابكة معها كالجماعات التي خرجت من عباءة الإخوان، فغني عن الذكر وقائع العنف التي ارتكبتها الجماعة الإسلامية وجماعة الجهاد خلال فترة الثمانينات والتسعينات.

صناعة العنف تلك، كان سببا أساسيا لها هو تغاضي الدولة أحيانا وتحالفها أحيانا مع الجماعة، فالدولة المصرية بكافة مؤسساتها، ارتكبت أخطاء كانت سببا في نمو وانتشار تيار الإسلام السياسي، بداية من السبعينيات حتى 30 يونيو، فقد شهدت فترة التسعينيات أكبر عملية نصب شاركت فيها الدولة بمؤسساتها مع جماعة الإخوان المسلمين، وهي الترويج لأسطورة الإسلام في خطر، ولابد من أن تكون الدولة هي حارس الأخلاق الحميدة! تلك التي كانت سببا في ازدياد شعبية التيار الديني والإقبال على الانضمام للجماعات الإسلامية للدفاع عن الإسلام والأخلاق وحمايتهما!

أحداث كثيرة تم استثمارها للترويج لهذا، منها على سبيل المثال لا الحصر، حشد رجل الشارع ضد أي مفكر أو كاتب أو حتى عمل أدبي وفني لا ينال رضا تيار الإسلام السياسي، أولها مناظرة فرج فودة والشيخ الغزالي وقيادات الجماعة في 8 يناير 1992 في معرض الكتاب، وما بعدها حيث تم الترويج لفكرة إن العلمانيين ضد الدين والإسلام، وبعدها تم اغتيال فرج فودة.

وسفر المصريين لأفغانستان والبوسنة والشيشان على أيدي جماعة الإخوان تحت مظلة الإغاثة الإسلامية أو النقابات المهنية وبخاصة نقابة الأطباء، كان تحت شعار مقاومة الإلحاد ومناصرة إخواننا المسلمين تحت مسمى الجهاد، وهذه كانت بداية الإرهاب والقاعدة وداعش.