في صيف عام 2020، استطاعت الحكومة الرواندية القبض على زعيم المعارضة المنفي بول روساباجينا. وذلك خلال توقف مؤقت في دبي، حيث تم دفعه تحت ذرائع كاذبة لركوب طائرة متجهة إلى كيجالي -العاصمة الرواندية- حيث اعتقلته السلطات الحكومية على الفور لانتمائه إلى جماعة معارضة.

لم يلاحظ في ذلك الوقت أن هذه العملية استخدمت مراقبة رقمية متطورة للغاية. حيث اكتشفت منظمة العفو الدولية وCitizen Lab في جامعة تورنتو، وهي مجموعة بحثية للأمن الرقمي أسسها ويديرها أونالد ديبيرت، أستاذ العلوم السياسية في كلية مونك بالجامعة. أن الهواتف الذكية الخاصة بالعديد من أفراد عائلة روساباجينا -الذين يعيشون أيضًا في الخارج- قد تم اختراقها بواسطة برنامج تجسس إسرائيلي متقدم هو “بيجاسوس”.

يمكن لأحدث إصدار “بدون نقرة” من برنامج التجسس اختراق جهاز دون القيام بأي إجراء من قبل المستخدم

في مقاله المنشور في فورين أفيرز/ Foreign Affairs، يشير ديبيرت إلى أن حزمة برامج بيجاسوس، التي تنتجها مجموعة NSO، تتيح للمشغل وصولاً شبه كامل إلى البيانات الشخصية للهدف.

وكشف تحليل الطب الشرعي عن أن الهاتف الخاص بابنة روساباجينا قد أصيب ببرنامج تجسس في وقت قريب من اختطاف والدها، ومرة أخرى عندما كانت تحاول تأمين إطلاق سراحه، وكانت تلتقي بمسئولين رفيعي المستوى في أوروبا ووزارة الخارجية الأمريكية، بما في ذلك المبعوث الأمريكي الخاص لشؤون الرهائن.

اقرأ أيضا: الشبكة الحديدية.. القمع الرقمي في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

يقول ديبيرت: لا تحدد NSO Group عملاءها الحكوميين علنًا ونفت الحكومة الرواندية استخدام بيجاسوس. لكن الأدلة الظرفية القوية تشير إلى النظام في كيجالي.

ويضيف: هذه الحادثة ليست سوى واحدة من عشرات الحالات، التي تم فيها العثور على بيجاسوس، أو غيره من تكنولوجيا برامج التجسس المماثلة، على الأجهزة الرقمية لشخصيات المعارضة السياسية البارزة، والصحفيين، ونشطاء حقوق الإنسان، في العديد من البلدان.

الجميع يتجسس

يشير ديبيرت في مقاله إلى أن البرامج الحديثة توفر القدرة على التسلل سرًا حتى لأحدث الهواتف الذكية “يمكن لأحدث إصدار “بدون نقرة” من برنامج التجسس اختراق جهاز دون القيام بأي إجراء من قبل المستخدم”.

يقول: أصبح بيجاسوس أداة المراقبة الرقمية المفضلة للأنظمة القمعية حول العالم. وقد تم استخدامه ضد منتقدي الحكومة في الإمارات، والمتظاهرين المؤيدين للديمقراطية في تايلاند. وقد تم نشره من قبل السعودية بقيادة محمد بن سلمان، ورئيس المجر فيكتور أوربان.

لكن، استخدام برامج التجسس، بالكاد يقتصر على المستبدين في العالم. كشف الباحثون، على مدى العقد الماضي، استخدام العديد من الديمقراطيات في استخدام برامج التجسس بطرق تنتهك المعايير الراسخة لحقوق الإنسان.

أظهرت وثائق الحكومة الأمريكية، التي كشفت عنها صحيفة نيويورك تايمز في نوفمبر/ تشرين الثاني 2022، أن مكتب التحقيقات الفيدرالي لم يحصل فقط على خدمات برامج التجسس من NSO لأغراض التجسس المضاد، ولكن أيضًا يفكر في استخدامها على أهداف أمريكية. وقال متحدث باسم مكتب التحقيقات الفيدرالي لصحيفة The Times أنه “لم يكن هناك استخدام عملي لمنتج NSO لدعم أي تحقيق لمكتب التحقيقات الفيدرالي”.

ويؤكد مؤسس مجموعة الأمن الرقمي بجامعة تورنتو، أن ظهور برامج التجسس المتقدمة أدى إلى تغيير عالم التجسس والمراقبة “مع نظام رقمي اجتياحي، تحتوي فيه الهواتف الذكية، والأجهزة الشخصية الأخرى، على التفاصيل الأكثر حميمية لحياة الأشخاص. يمكن للتقنية الجديدة تتبع أي شخص تقريبًا في أي مكان في العالم. وقد لاحظت الحكومات ذلك”.

نفوذ إسرائيلي

بالنسبة لإسرائيل، التي توافق على تراخيص تصدير هذه البرامج، فإن بيع برامج التجسس لحكومات أجنبية جلب نفوذاً دبلوماسياً جديداً للدولة العبرية في دول مختلفة مثل الهند وبنما.

توصل تحقيق أجرته صحيفة نيويورك تايمز إلى أن صفقات NSO ساعدت رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على إبرام اتفاقيات إبراهيم مع البحرين والمغرب والإمارات. في المقابل، استخدمت هذه الدول نظام بيجاسوس، ليس فقط ضد جماعات المعارضة والصحفيين والمنظمات غير الحكومية، ولكن أيضًا ضد المنافسين الجيوسياسيين.

في عامي 2020 و2021، اكتشف Citizen Lab أن العديد من الأجهزة التابعة لمسؤولين في مكتب التنمية والكومنولث في المملكة المتحدة قد تم اختراقها باستخدام بيجاسوس، وأن عميلًا لمجموعة NSO في الإمارات استخدم برنامج التجسس لاختراق جهاز موجود في 10 داونينج ستريت، مقر إقامة رئيس الوزراء البريطاني.

وفي نوفمبر/ تشرين الثاني 2021، أخطرت شركة آبل للتكنولوجيا 11 موظفًا في سفارة الولايات المتحدة في أوغندا بأن هواتفهم من نوع iPhone تم اختراقها عبر البرنامج الإسرائيلي.

ردًا على هذه الاكتشافات، نفت شركات برامج التجسس مسئوليتها عن انتهاكات عملائها، أو امتنعت عن التعليق.

في تصريح لصحيفة The New Yorker في إبريل/ نيسان 2022، قالت الشركة الإسرائيلية: “لقد تعاوننا مرارًا وتكرارًا مع التحقيقات الحكومية، وتعلمنا من كل هذه النتائج والتقارير، وحسّننا الضمانات في تقنياتنا.”. وأضافت أن تقنيتها “مصممة لمساعدة الحكومات في التحقيق في الجرائم والإرهاب”.

لكن برامج التجسس المتقدمة متورطة الآن في انتهاكات حقوق الإنسان والتجسس بين الدول في عشرات البلدان. ولا تتحمل شركات برامج التجسس سوى القليل من الالتزامات، أو الحوافز القانونية للشفافية العامة أو المساءلة.

برامج التجسس المتقدمة متورطة في انتهاكات حقوق الإنسان ولا تتحمل الشركات سوى القليل من الالتزامات للشفافية أو المساءلة

اقرأ أيضا: ماذا تفعل برامج التجسس الفرنسية؟

من أجلك نتجسس

برزت ثورة برامج التجسس كنتاج ثانوي لتقارب ملحوظ للتطورات التكنولوجية والاجتماعية والسياسية على مدى العقد الماضي. الهواتف الذكية والأجهزة الرقمية الأخرى هي عرضة للمراقبة، لأن تطبيقاتها غالبًا ما تحتوي على عيوب، ولأنها تنقل البيانات باستمرار من خلال الشبكات الخلوية، وشبكات الإنترنت غير الآمنة.

يؤكد ديبيرت أنه على الرغم من أن الشركات المصنعة لهذه الأنظمة الأساسية التكنولوجية توظف مهندسين للعثور على الثغرات الأمنية وتصحيحها، فإنها تميل إلى إعطاء الأولوية لتطوير المنتجات على الأمان. من خلال اكتشاف عيوب البرامج غير المعروفة لمصمميها وإصلاحها.

بعبارة أخرى، تستغل شركات برامج التجسس انعدام الأمن المتأصل في عالم المستهلك الرقمي.

لكن النمو الاستثنائي لسوق برامج التجسس كان مدفوعًا أيضًا بالعديد من الاتجاهات الأوسع نطاقًا. حيث، تستفيد برامج التجسس من الثقافة الرقمية. فمن خلال اختراق جهاز شخصي، يمكن لبرامج التجسس أن تزود مشغليها بنمط حياة المستخدم بالكامل في الوقت الفعلي.

أيضا، تقدم برامج التجسس للوكالات الأمنية طريقة أنيقة للتحايل على التشفير من طرف إلى طرف، والذي أصبح عائقًا متزايدًا أمام برامج المراقبة الجماعية الحكومية التي تعتمد على جمع بيانات الاتصالات والإنترنت. من خلال الدخول إلى جهاز المستخدم، تسمح برامج التجسس لمشغليها بقراءة الرسائل أو الاستماع إلى المكالمات قبل تشفيرها أو بعد فك تشفيرها.

العامل الثالث الذي دفع نمو الصناعة هو ظهور حركات الاحتجاج التي تم تمكينها رقميًا. فاجأت الاضطرابات الشعبية، مثل الثورات الملونة في دول الاتحاد السوفيتي السابق في العقد الأول من هذا القرن، والربيع العربي في 2010-2011 العديد من المستبدين، وغالبًا ما استخدم المنظمون الهواتف لتعبئة المتظاهرين.

يضيف ديبيرت: من خلال تقديم طريقة شبه إلهية للدخول إلى شبكات النشطاء. فتحت برامج التجسس طريقة جديدة قوية للحكومات، لمراقبة المعارضة، واتخاذ خطوات لتحييدها، قبل حدوث احتجاجات كبيرة.

لا مكان للاختباء

يؤكد مدير برنامج أبحاث الأمن الرقمي بجامعة تورنتو أن الاستخدام المتزايد لبرامج التجسس ضد أهداف المجتمع المدني والسياسي في الديمقراطيات المتقدمة أمر مثير للقلق بدرجة كافية. ومع ذلك، قد يكون الأمر الأكثر تهديدًا هو الطرق التي سمحت بها التكنولوجيا للأنظمة الاستبدادية بتوسيع نطاق قمعها إلى ما هو أبعد من حدودها.

يقول: في العقود الماضية، واجه المستبدون حواجز كبيرة أمام قمع المواطنين الذين ذهبوا إلى المنفى. ومع ذلك، باستخدام برامج التجسس، يمكن للمشغل الدخول إلى شبكة كاملة في المنفى دون أن تطأ قدمه داخل البلد المعتمد للهدف. مع القليل جدًا من المخاطر والتكاليف المرتبطة بالتجسس الدولي التقليدي.

هنا، يذكر ديبيرت عددا من الأمثلة على هذا الشكل الجديد من القمع العابر للحدود.

يقول: اعتبارًا من عام 2016، تم استخدام Cyberbit لاستهداف المنشقين والمحامين والطلاب الإثيوبيين وآخرين في حوالي 20 دولة. كما كانت حملة برامج التجسس العابرة للحدود التي شنتها الحكومة السعودية بعيدة المدى بشكل خاص.

في عام 2018، تم اختراق هاتف مملوك لغانم المسارير -معارض سعودي يعيش في المملكة المتحدة- ببرنامج تجسس من نوع بيجاسوس، وبالتزامن مع إصابة جهازه، تم تعقب المسارير والاعتداء عليه جسديًا من قبل عملاء سعوديين في لندن.

وأضاف: ربما لعبت برامج التجسس أيضًا دورًا في مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي في القنصلية السعودية في تركيا. في عام 2018، تم اختراق هاتف يملكه عمر عبد العزيز – ناشط سعودي مقيم دائم في كندا ومقرب من خاشقجي- ببرنامج بيجاسوس. وكان عبد العزيز وخاشقجي يناقشان نشاطهما ضد النظام السعودي بشأن ما افترضوا -خطأً- أنها منصات اتصالات آمنة.

باستخدام برامج التجسس يمكن للمشغل الدخول إلى شبكة كاملة في المنفى دون أن تطأ قدمه داخل البلد المعتمد للهدف

اقرأ أيضا: أصفار وآحاد.. أوكرانيا تستعد للغزو السيبراني

التجسس السيئ

على الرغم من وجود مجموعة كبيرة ومتنامية من الوثائق حول إساءة استخدام برامج التجسس في جميع أنحاء العالم، إلا أن هناك العديد من الأسباب التي تجعل من المحتمل أن تنتشر التكنولوجيا على نطاق أوسع. فعلى الرغم من أن الكثير من التدقيق حول شركات برامج التجسس قد اهتم بعقودها مع الوكالات الحكومية الوطنية، فإن العديد من الشركات تقوم بالتسويق لأكثر من عميل واحد في بلد معين، بما في ذلك أجهزة إنفاذ القانون المحلية.

على سبيل المثال، في رحلة لتقصي الحقائق إلى إسرائيل في صيف عام 2022، علم المسئولون في البرلمان الأوروبي أن مجموعة NSO لديها ما لا يقل عن 22 عميلًا في 12 دولة أوروبية. مما يشير إلى أن عددًا كبيرًا من هؤلاء العملاء هم “وكالات دون وطنية”.

وعلى الرغم من أن بعض شركات برامج التجسس تدعي أنها تتعامل فقط مع أجهزة حكومية، فلا يوجد الكثير لمنعهم من بيع تقنيتهم لشركات خاصة أو أفراد فاسدين. بل، تشير دلائل إلى أن البعض يفعل ذلك بالفعل.

في يوليو/ تموز 2022، أصدر مركز معلومات التهديدات لشركة Microsoft تقريرًا عن شركة تجسس واختراق للتأجير مقرها النمسا تسمى DSIRF، استهدفت أفرادًا في البنوك وشركات المحاماة والاستشارات في العديد من البلدان. وعلى الرغم من أن المركز لم يحدد نوع العملاء الذين وظفوا DSIRF، إلا أن الشركة تعلن عن خدمات “العناية الواجبة” للشركات، مما يعني ضمناً أن عمليات القرصنة هذه تم تنفيذها نيابة عن عملاء من القطاع الخاص.

تهديد مستقبلي

منذ ما يقرب من عقد من الزمان، تمكنت صناعة برامج التجسس من توسيع نطاق انتشارها في جميع أنحاء العالم إلى حد كبير دون تنظيم أو مساءلة. لكن هذا خيار اتخذته الحكومات، وليس نتيجة حتمية يجب قبولها ببساطة.

ونظرًا لأن مراقبي المجتمع المدني والصحفيين سلطوا الضوء على الانتهاكات الصارخة، فقد أصبح من الصعب على كبار بائعي برامج التجسس وعملاء الحكومة إخفاء عملياتهم. في أوروبا والولايات المتحدة، عقدت اللجان جلسات استماع حول برامج التجسس، وبدأت الوكالات الحكومية في تطوير سياسات جديدة للحد من استخدامها.

أيضا، أصبحت برامج التجسس مكونًا مركزيًا لقائمة أوسع من أدوات المراقبة، مثل تتبع الموقع، وتحديد الهوية بالمقاييس الحيوية، التي تستخدمها العديد من وكالات الأمن الحكومية. وكلما تم دمج برامج التجسس في عمليات جمع المعلومات الاستخبارية اليومية والرقابة عليها، كلما كان من الصعب كبحها.

يضيف ديبيرت: الأمر الأكثر خطورة هو أن برامج التجسس قد تكتسب قريبًا المزيد من القدرات، من خلال استغلال التطبيقات القابلة للارتداء، مثل أجهزة المراقبة الطبية الحيوية. تهدف العديد من التطبيقات الرقمية إلى التعمق في الجوانب اللا شعورية أو اللا واعية لسلوك المستخدمين، وجمع البيانات عن صحتهم، ووظائف الأعضاء.

وأكد: لم يعد من الخيال العلمي تصور برامج التجسس التي قد تستخدم الوصول الخفي إلى هذه البيانات حول أنظمتنا البيولوجية أو المعرفية، لمراقبة سلوك الضحية ورفاهيته العامة، بل والتلاعب بهما.

رغم هذا، يؤكد أنه “لا شك أن الحكومات الاستبدادية والوكالات الأمنية التي تستفيد حاليًا من برامج التجسس ستسعى إلى إعاقتها. لكن المخاطر المتزايدة على الأمن القومي لسوق غير منظم قد تدفع إلى تقييم أكثر واقعية”.

في نوفمبر/ تشرين الثاني 2022، حذر السير جيريمي فليمنج -أحد كبار مسئولي المخابرات البريطانية- من أن الاستخدام المتزايد لبرامج التجسس المستأجرة و”المتسللين للتأجير” من قبل الدول والمجرمين “سيزيد من التهديد المستقبلي للأمن السيبراني في المملكة المتحدة”.

ويؤكد ديبيرت أنه “إذا استمر استخدام برامج التجسس المستأجرة في النمو دون رادع، فستصبح المخاطر على الديمقراطية حادة”.