في كتابه «رقعة الشطرنج الكبرى.. الأولوية الأمريكية وضروراتها الجيوستراتيجية»، اعتبر مستشار الأمن القومي الأمريكي الأسبق زبيغنيو بريجنسكي أن أحد أخطر التطورات المستقبلية المحتملة بالنسبة لأمريكا هو ظهور «ائتلاف صيني-روسي-إيراني».

بريجنسكي الذي تولى منصبه كمستشار للأمن القومي في عهد الرئيس الأمريكي جيمي كارتر، حذر في كتابه الذي صدر عام 1997 صناع السياسة الأمريكية من التصرّف بما يستفزّ مشاعر الصين القومية، ودعاهم إلى العمل على استمالة إيران ودفعها باتجاه الاعتدال، ولفت في نفس الوقت إلى أن روسيا ستبقى خصما لأمريكا وحلفائها الأوروبيين.

وقبل رحيله عام 2017 أعاد بريجنسكي صياغة نصائحه وتحذيراته لصناع القرار في بلاده، محذرا من أفول الهيمنة الأمريكية على العالم بسبب عدم وجود استراتيجية واضحة للتعامل مع الخصوم والحلفاء الدوليين، داعيا إلى التكيف مع الأوضاع الجديدة «التكيف هو الخيار الوحيد القابل للتطبيق بالنسبة للولايات المتحدة وروسيا والصين».

وتحت عنوان «نحو إعادة التنظيم العالمي»، قدم بريجنسكي في مقاله الذي نشره عام 2016  ما اُعتبر «وصيته الأخيرة» والتي تحمل رؤية استرتيجية متكاملة لإعادة التموضع الأمريكي بعد التراجع الواضح في الدور والهيمنة الأمريكيين في العقود الثلاثة الأخيرة.

وطالب المفكر السياسي البارز حكومة بلاده إلى الاتجاه لخلق تحالفات جديدة، حتى مع القوى التي كانت تعد منافسا ومتحديا تاريخيا للقوة الأمريكية ومنها الصين وروسيا، «الهدف من ذلك كله هو خلق نوع من إعادة التنظيم والتموضع للقوة العالمية الفاعلة».

لكن يبدو أن الإدارات الأمريكية المتعاقبة باستثناء بارك أوباما لم تنصت جيدا إلى نصائح السياسي العجوز الذي لعب أدوارا متعددة خلال تاريخه السياسي، ويبدو أيضا أن من يديرون المطبخ الحقيقي للسياسة الأمريكية لا يقبلون بأفكار الاحتواء والتكيف والتعايش، ويؤمنون بأن الصراعات المباشرة وغير المباشرة هي الضامن الأوحد لمصالح الولايات المتحدة الاقتصادية، وهي التي ستمكنها من تمديد نفوذها والاستمرار في فرض سيطرتها وهيمنتها على العالم.

حاول أوباما خلال فترتي رئاسته تخفيض منسوب الصراعات بين بلاده وخصومها التقليديين، وفي ذات الوقت مضى في طريق التمدد وبسط النفوذ الأمريكي في مناطق كانت هدفا للقوى الدولية التي تسعى إلى مناطحة بلاده، واستخدم في ذلك سياسة «التكيف والاحتواء».

استهدف أوباما القارة الإفريقية باعتبارها «قارة المستقبل» التي يتنافس عليها كل خصوم أمريكا، استغل الرئيس الأمريكي الأسبق أصوله الإفريقية لاستمالة حكومات القارة السمراء وربطها بالسياسات والمصالح الأمريكية، في محاولة لتطويق التغلل الصيني والروسي في القارة.

زار أوباما العاصمة الغانية أكرا في نهاية عام 2009 بعد زيارة مشابهة إلى القاهرة التي وجه فيها خطابا إلى العالم الإسلامي، بينما وجه خطابه الثاني من منصة البرلمان الغاني إلى الشعوب الإفريقية.

«إن مستقبل إفريقيا بين يدي الأفارقة» قال الرئيس الأمريكي في خطابه، مؤكدا أن «ملامح القرن الحالي ستتشكل ليس فقط في عواصم الغرب بل أيضا في إفريقيا»، مضيفا أن «الغرب تعامل مع إفريقيا على أنها مصدر أساسي للمواد الأولية لصناعته، لكنه ليس مسؤولا عن انهيار اقتصادات القارة أو تجنيد الأطفال في حروبها».

ولأنه يعلم أن روسيا والصين كسبتا ولاء الحكومات الإفريقية لأنهما لا يطرحان مسائل الديمقراطية وحقوق الإنسان كشرط لتعزيز علاقاتهما بدول القارة، أكد أوباما في خطابه أن «الديمقراطية ليست هي الانتخابات فحسب، بل هي كيف يعيش الناس».

قبل انقضاء فترة ولايته الثانية دعا أوباما زعماء القارة إلى القمة الأمريكية الإفريقية الأولى التي انعقدت في واشنطن عام 2014، وتعهد خلاله بتخصيص 37 مليار دولار في هيئة استثمارات وقروض لدعم مجال قدرات الطاقة الكهربائية التي لا تزال تنقصها الإمدادات في القارة، وتمويل قطاعي الصحة والأدوية.

بعد رحيل أوباما وتسلم دونالد ترامب مقاليد منصبه في البيت الأبيض انقلبت السياسة الأمريكية الخارجية رأسا على عقب، فالرئيس الجديد لم يبد أي اهتمام بإفريقيا ولم يزرها من قبل، فضلا عن أنه رفع شعار «أمريكا أولا» الذي عزل بلاده عن العديد من مساحات نفوذها.

تجاهل ترامب للقارة السمراء، منح خصومه مساحات جديدة للتمدد، فتحولت الصين إلى أكبر شريك تجاري للدول الإفريقية، بينما صارت روسيا أكبر مصدر للسلاح إلى القارة.

شهدت المرحلة الأولى من حكم الرئيس الحالي جو بايدن حالة من التخبط في السياسة الخارجية، فلا هو مضى على طريق أوباما، ولا هو اتبع استراتيجية خصمه اللدود ترامب.

أدرك بايدن أن الانسحاب من مناطق النفوذ يولد الفراغ وأن هذا الفراغ يغري الخصوم بالتمدد، فعاد وإن كان متأخرا إلى إفريقيا ودعا إلى القمة الأمريكية الإفريقية الثانية بعد توقف دام 8 سنوات.

في أغسطس الماضي أجرى وزير الخارجية الأمريكي جولة بعدد من عواصم الدول الإفريقية شملت جنوب إفريقيا والكونجو الديمقراطية ورواندا بهدف التصدي للتمدد الروسي الصيني في القارة، وذلك بعد فترة وجيزة من جولة إفريقيا لوزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف.

وقبل زيارة بلينكن قالت الخارجية الأمريكية في بيان لها إن الوزير الأمريكي سيحاول أن يثبت للدول الإفريقية أن لديها دورا جيوسياسيا أساسيا، وأن دولها تمثل حلفاء جددا مهمين في المسائل الأكثر إلحاحا في عصرنا، وكذلك في تطوير نظام دولي منفتح ومستقر للحد من مفاعيل التغير المناخي وانعدام الأمن الغذائي.

وتحت عنوان «استراتيجية الولايات المتحدة تجاه إفريقيا جنوب الصحراء» أعلنت واشنطن عن أهدفاها بالقارة السمراء، «دعم المجتمعات المفتوحة وتوزيع مكتسبات الديموقراطية والأمن، ودعم التعافي من الوباء والفرص الاقتصادية، وإتاحة الفرص الاقتصادية، ودعم الحفاظ على المناخ والتكيف معه، والتحول المنصف للطاقة».

الوثيقة الأمريكية التي نشرت في أغسطس الماضي على موقع وزارة الخارجية، هاجمت روسيا والصين وقالت إن الولايات المتحدة ستعمل على «مكافحة الأنشطة الضارة لكلّ من جمهورية الصين الشعبية وروسيا والجهات الفاعلة الأخرى».

وتعهدت الحكومة الأمريكية وفق ما جاء في الوثيقة بالعمل على تعزيز الانفتاح ودعم المجتمعات المنفتحة من خلال الخطوات التالية:«تعزيز الشفافية والمساءلة الحكومية، وزيادة التركيز على سيادة القانون والعدالة والكرامة، ومساعدة البلدان الإفريقية على الاستفادة بشكل أكثر شفافية من مواردها الطبيعية من أجل التنمية المستدامة».

وانتقدت الوثيقة الدور العسكري لروسيا في إفريقيا: «موسكو ترى أن المنطقة تمثل بيئة مستباحة للشركات شبه الحكومية والعسكرية الخاصة، وغالبًا ما تخلق حالة من عدم الاستقرار لكسب مزايا استراتيجية ومالية».

إدراك الولايات المتحدة لضرورة التواجد في إفريقيا وفتح قنوات اتصال مع حكوماتها جاء بعد رفض هذه الدول الانحياز لأي طرف في الأزمة الأوكرانية، إذ اختار عدد كبير من دول القارة الحياد وعدم التصويت ضد روسيا في المحافل الدولية فيما يخص الأزمة الأوكرانية، وهو ما أشعر الإدارة الأمريكية بخيبة أمل.

فخلال تصويت الأمم المتحدة لإدانة الهجوم الروسي في أوكرانيا في مارس الماضي،  صوتت 28 دولة إفريقية لصالح القرار، فيما صوتت نسبة كبيرة من دول القارة (25 دولة) إما بالامتناع عن التصويت أو عدم التصويت على الإطلاق، وهو ما اعتبره مراقبون دليل على النفوذ الروسي المتزايد في القارة الإفريقية.

التمدد الروسي الصيني في القارة السمراء شكل هاجسا لدى صناع السياسة الأمريكين، وبدأت دوائر السياسة الأمريكية في طرح استراتيجيات لدحر هذا التمدد، منها العودة إلى سياسة احتواء حكومات القارة السمراء واستمالتهم بغض النظر عن سجلهم في ملفات الحريات وحقوق الإنسان.

ويقول تقرير لمجلة «فورين بوليسي» الأمريكية أن القمة المقرر انطلاقها اليوم الثلاثاء، هي واحدة من أهم أولويات السياسة الخارجية للرئيس جو بايدن في الأشهر المقبلة «إنها الفرصة الأولى لإدارته لإظهار كيف تنظر إلى مستقبل العلاقات بين الولايات المتحدة وإفريقيا على أرضها وسط التوتر الجيوسياسي المتزايد مع روسيا والصين والجهود المبذولة لإعادة العلاقات بين الولايات المتحدة وإفريقيا بعد عهد ترامب».

ورغم أن دعوة بايدن لعدد من الحكام الذين يتم تصنيفهم على أنهم مستبدين أتاح الفرصة لتوجيه انتقادات حادة من مشرعين ومدافعين عن حقوق الإنسان إلا أن الإدارة الأمريكية بدا أنها لن تتوقف كثيرا عند هذا الملف، فصراعها مع موسكو وبكين مقدم على أي حديث آخر.

مولي في، مساعدة وزيرة الخارجية للشؤون الإفريقية، صرحت للصحفيين قبل انطلاق القمة بأن بلادها تعطي الأولوية للعلاقة مع إفريقيا «من أجل مصالحنا المشتركة.. نحن ندرك جيدًا تاريخ الحرب الباردة.. نحن ندرك مرة أخرى، التأثير الضار للاستعمار على إفريقيا، ونسعى بجد لتجنب تكرار بعض أخطاء تلك العصور السابقة».

ويقول محللون إن الزعماء الأفارقة سيحثون بايدن لتقديم بعض الالتزامات الرئيسية خلال القمة، بما في ذلك الإعلان عن أول زيارة رئاسية له إلى إفريقيا جنوب الصحراء، وسيطالبوه ببذل الجهود لتعزيز اقتصاد القارة من خلال استثمارات القطاع الخاص والتجارة وغير ذلك.

«ربما الأهم من ذلك أنها قد تكون فرصة لبايدن لإثبات أن إفريقيا هي أكثر من ساحة معركة في تنافسها الاقتصادي والعسكري مع بكين وموسكو»، يقول إبراهام كول نيون، المحلل السياسي وأستاذ مشارك في العلوم السياسية في جامعة جوبا بجنوب السودان.

ويضيف في تحليل نشرته مجلة «جلوبال نيوز» الكندية: «أعتقد أن الولايات المتحدة لا تزال يُنظر إليها على أنها قوة عظمى من المنظور الإفريقي، لكن معظم القادة الأفارقة لا يريدون مواءمة تعزيزها للديمقراطية.. إنهم بحاجة إلى دعم أمريكا ولكن ليس دعم النظام الأمريكي».

أدركت القيادة الأمريكية فشل سياستها في إفريقيا، ففي الوقت الذي تقدم فيه خصومها نحو القارة وصنعوا تحالفات وولاءات وقدموا منحا وقروضا وشاركوا في مشروعات باستثمارات هائلة، كانت واشنطن تحاول أن تملي على الحكومات الإفريقية ما تحتاجه بدلا الاستماع إلى أولوياتهم.

تسعى واشنطن إلى تعويض فشل سياساتها تجاه دول الشرق الأوسط التي أدركت خلال العامين الماضيين أنه من الضروري أن تنوع في قائمة حلفائها الاستراتيجيين فعززت من علاقاتها مع بكين وموسكو.

لجوء الولايات المتحدة إلى إفريقيا قد يكون محاولة لتجنب أخطائها في المنطقة العربية، وهو من جانب أخر خطوة في طريق إعادة التموضع في القارة السمراء.