تكتسب الاستثمارات في إقليم شرق إفريقيا أهمية خاصة في سياسات دول الخليج، في إطار تنويع عائداتها الاقتصادية على المدى البعيد وتأمين حاجاتها المتعددة. لكنها أيضًا تتجاوز في هذه المنطقة من القارة السمراء وخصوصًا خلال الأعوام الأخيرة، مفهوم المساعدات والمعونات والاستثمارات غير المشروطة سياسيًا أو على الأقل غير المرتبطة بأهداف السياسات الخارجية للجانبين وتفاعلاتها وربما فرضت خيارات سياسية محددة وصريحة.

ومع إلحاح حاجة دول شرق إفريقيا للاستثمارات الخليجية في ظل أزمة اقتصادية مستحكمة دوليًا وإقليميًا، يبدو أن مشروطيات “أي الشروط والعوامل المتحكمة” السياسة الخارجية ستزداد حدة، وتهمش بالتالي مصالح أطراف أصيلة في استقرار الأوضاع في القرن الإفريقي وشرق إفريقيا وشريكة -في الوقت نفسه- للدول الخليجية في أكثر من ملف إقليمي، وتحديدًا مصر.

وهذا ما تستعرضه ورقة سياسات “رأس المال الخليجي في شرق إفريقيا.. الأنماط وارتباطات السياسات الخارجية وتأثيرها على مصر”، الصادرة عن “مصر 360” للباحث محمد عبد الكريم.

للاطلاع على ورقة السياسات كاملة..

شرق إفريقيا اقتصاديًا

يحل إقليم شرق إفريقيا ثالثًا في ترتيب أكبر الأقاليم الإفريقية اقتصاديًا، بعد شمال إفريقيا وإفريقيا الجنوبية، وقبل إقليم غرب إفريقيا. بينما يقدر متوسط نمو الناتج القومي الإجمالي في الإقليم ككل عند 5%. وقد قادت مؤشرات النمو به ثلاث دول رئيسة، هي: إثيوبيا وكينيا وتنزانيا. ذلك مع تبدل نسب نموها في الفترة 2015-2021، حيث تراجعت إثيوبيا بالتدريج من المرتبة الأولى، بنسبة نمو تجاوزت 10% في العام 2015، ثم نحو 9% في العام 2019، وانخفضت في العام 2021 دون 2.5%.

بينما حققت كينيا اتجاهًا صاعدًا عن الفترة نفسها من نحو 5% في العام 2015 إلى 6% في العام 2018 (بعد تراجع نسبي)، ثم كسر النمو حاجز 6% في العام 2021 رغم التراجع الحاد إلى رقم سلبي في العام 2020. ما أوضح قدرة الاقتصاد الكيني على الصمود والتعافي في وقت قصير.

أما تنزانيا فقد صعدت من نحو  6% في العام 2015 إلى ملامسة حاجز 7.5% في الفترة 2016-2019، ثم انخفاض متوقع دون 5% في العام 2020. وتعرضت لانخفاض آخر في العام السابق إلى نحو 4%.

ويواجه الإقليم تحديات جمة في سبيل تحقيق تنمية مستدامة قوامها بنية أساسية حديثة (لا سيما في قطاعات النقل والطاقة والاتصالات) وتحسين استغلال الموارد المتاحة وفتح أسواقه أمام تدفقات مالية ضرورية ومتنوعة لتعزيز أرقام النمو الاقتصادي بتنمية حقيقية ينتقل تأثيرها إلى مواطني الإقليم.

التأثير السياسي

يرصد الباحث محمد عبد الكريم بالتفصيل أهم القطاعات التي تحظى باستثمارات خليجية في شرق إفريقيا، ويحددها بالزراعة، والنقل البحري والمواني، والاتصالات. ويضيف أن نمط الرأسمالية الخليجية في إفريقيا وشرقها -على وجه التحديد- يقوم على ضخ بلايين الدولارات في الاستثمارات القائمة بالأساس على استغلال الموارد الزراعية والطبيعية الأخرى ومشروعات ذات طابع جيو استراتيجي. ذلك من أجل تنويع الاقتصادات الخليجية وصناديق ثرواتها السيادية التي تلعب دورًا رئيسًا في ذلك.

ومع ذلك، لا يزال إجمالي الاستثمارات الخليجية في شرق إفريقيا يمثل نسبة ضئيلة للغاية من الاستثمارات الخليجية بشكل عام في الخارج. إذ لا يقترب إجمالي هذه الاستثمارات في إقليم شرق إفريقيا (الذي يضم عشرين دولة) من رقم 15 بليون دولار. وهو رقم حجم الاتفاقات الموقعة في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي بين جنوب إفريقيا والسعودية خلال زيارة رئيس الأولى سيريل رامافوسا للرياض.

وبشكل عام، تعد الصناديق السيادية أهم أداة للاستثمار الخليجي. إذ تملك أكبر سبعة صناديق سيادية في الإقليم أكثر من 3 تريليون دولار، تشمل حصصًا في بعض أكبر الشركات العالمية العاملة في مناطق إفريقية. مع توجه أكبر في العامين الأخيرين للنفوذ خارج إفريقيا. إذ أقدمت هذه الصناديق في العام 2022 على عمليات استحواذ خارج الشرق الأوسط وإفريقيا بقيمة 28.6 بليون دولار.

للاطلاع على ورقة السياسات كاملة.. اضغط هنا

وكذلك تشير التغييرات الإدارية غير المسبوقة التي أقدم عليها الصندوق السيادي الكويتي في ذراع أنشطته في لندن في يوليو/ تموز 2022 (بإقالة رئيس الفرع دون إخطار مسبق) إلى تحولات مهمة في الفترة المقبلة. ومن بينها تصعيد التنسيق الكويتي مع الإمارات في القارة الإفريقية.

ومن بين قيمة إجمالية 3.7 بليون دولار لأكبر عشرة صناديق استثمارية في الشرق الأوسط تستحوذ الصناديق الإماراتية وحدها على 1.8 بليون دولار عبر ستة جهات استثمارية منها خمسة صناديق سيادية وواحد للاستثمار الخاص. وجاءت تسعة من قائمة العشرة الكبار في الشرق الأوسط من دول الخليج العربي.

يقول الباحث إن تعقيدات ارتباط السياسات الخارجية الخليجية تجاه القارة الإفريقية بالمصالح الاقتصادية زادت خلال السنوات الأخيرة، وتعددت أطرافها (من حكومات وشركات مملوكة للدولة ومتعددة الجنسيات).

ثم يتناول بالرصد كيف أثرت هذه الاستثمارات في التوجهات السياسية الخارجية داخل شرق إفريقيا. وذلك عبر مسارين واضحين: الصلة السعودية- الإثيوبية، وسياسات الإمارات الاستثمارية في إقليم أرض الصومال المطالب بالانفصال عن جمهورية الصومال الفيدرالية. ويقدم عرضًا تفصيليًا لهذين المسارين وتأثيرهما الاقتصادي والسياسي.

كيف أضر مصر؟

تعاني مصر في الفترة الأخيرة من تداعيات سلبية خطيرة على دورها الإقليمي في دائرة لصيقة من دوائر أمنها القومي في حوض النيل وشرق إفريقيا.

هنا يشير الباحث إلى تأثير النشاط الاستثماري الخليجي في شرق إفريقيا على مصر؛ فيقول إن الاستثمارات الخليجية في إثيوبيا والصومال على وجه التحديد ساهمت في تغذية السياسات المناهضة لمصر ومصالحها ودورها الإقليمي أو حتى علاقاتها الثنائية في بعض الحالات.

كما أن بعض هذه الاستثمارات -مثل استثمارات الإمارات في أرض الصومال- ساهمت في تعزيز قدرات إثيوبيا الإقليمية اقتصاديًا وعسكريًا في مقابل تحجيم مكانة مصر الإقليمية لصالح اضطلاع الإمارات بدور أكبر على حساب وحدة دولة الصومال الفيدرالية، ودون أن تستطيع القاهرة مواجهة هذه السياسة الإماراتية، التي تتعارض مع صلب قواعد سياسات القاهرة العربية والإفريقية. وبالتالي خصمت في المحصلة من رصيد القاهرة في مستويات سياسية وشعبية صومالية بشكل ملموس حتى شهور قليلة خلت.

للاطلاع على ورقة السياسات كاملة.. اضغط هنا

وفي مستوى أقل تعقيدًا، فإن الاستثمارات الخليجية في دول مثل أوغندا وكينيا وتنزانيا كانت أقل ارتباطًا بتوجهات سياسية مرتبطة بمكانة القاهرة في الإقليم أو مهددة لها. ومن ثم فإن القاهرة حققت اختراقًا مهمًا في حالة تنزانيا بضخها (على نحو منفرد) استثمارات مهمة في قطاع الطاقة والأمن المائي في تنزانيا كما في مشروع سد جوليوس نيريري الذي تنفذه شركة مقاولات مصرية عريقة.

ويختتم بأن رؤية الاستثمارات الخليجية وأنماطها في شرق إفريقيا تضع مصر في مكانة محددة للغاية ضمن نظام إقليمي فرعي جديد يقوم بالأساس على استراتيجيات الشركات والصناديق السيادية وأغراضها الاقتصادية، بتعظيم الاستفادة من موارد الدول الإفريقية في هذه المرحلة الحرجة، وبشروط سياسية غير مسبوقة، تتجاوز المفاهيم التقليدية عن الأمن القومي ودوائره، وتعيد إنتاج نظام “للتكالب الرأسمالي” على شرق إفريقيا، وما يستتبعه من ضبط السياسات الخارجية لدوله، وتهديد مصالح دول أخرى من بينها مصر. وربما بذل جهود مضاعفة لدمجها على نحو كامل في بنية نظام فرعي إقليمي قائم بالأساس على “التنمية الاقتصادية” المشتركة أو تعظيم استغلال موارده وفق ديناميات رأسمالية أكثر صرامة والتزاما بجهود تحقيق الربح  وأقل مراعاة للسياسات “الدولتية” التقليدية.