قدمت في مقال الأسبوع الماضي، لمحة عامة عن كتاب تجارب التحول إلى الديمقراطية حول العالم، حوارات مع القادة السياسيين، والذي ضم عددا من المقابلات التي قامت بها المؤسسة الدولية للديمقراطية والانتخابات في الفترة ما بين يناير 2012 إلى العام يونيو 2013، مع ثلاثة عشر رئيسا ورئيسا للوزراء من تسعة بلدان (البرازيل وتشيلي والمكسيك، غانا وجنوب إفريقياـ إندونيسيا والفلبين، وبولندا وإسبانيا) من أجل الإجابة على سؤال واحد، كيف تمكنت تلك الدول من التحول من أنظمة استبدادية إلى أنظمة حكم ديمقراطية مستدامة لا يمكن التراجع عنها.

صدر الكتاب بالعربية عن دار الشروق في عام 2016.

أحاول هذا الأسبوع استعراض تجربة البرازيل في التحول الديمقراطي.

**

انقلاب عسكري واستقرار مؤقت

في إبريل 1964، نفذ الجيش انقلابا على السلطة ردا على الاضطرابات الناجمة من الارتفاع الحاد بالتضخم وتراجع احتياطي النقد الأجنبي والمطالبة بالإصلاح الزراعي، وكذلك الفشل الواضح للقادة المدنيين واشتداد الاضطرابات العمالية والطلابية.

حقق الحكام العسكريون استقرارا اقتصاديا لفترة، بعد أن حل الأحزاب وتبنى سياسة قمعية وعلق العمل بالمحاكم وفرض الرقابة على الصحف وأعلن حالة الطوارئ، وكذلك أخضع أعداء النظام البرازيلي – الحقيقيين والمتخيلين- للاعتقال العشوائي والتعذيب والمحاكمات العسكرية، لكن حتى في أوج القمع كانت الحال أقل وطأة في البرازيل من مثيلاها في القارة، فمثلا لم يحكم بالحرمان من الحقوق السياسية سوى على 500 سياسي مقارنة ب 15000 ألف في الأوروجواي، وكانت الحكومة مسؤولة عن 333 حالة وفاة، أي أقل من 50 أو 100 مرة في الأرجنتين وتشيلي، وكذلك كان النظام البرازيلي متمسكا بستار الشرعية فأجرى انتخابات برلمانية وبلدية منتظمة، وسمح لاحقا بحزب معارض رسمي مواليا للحكومة، ورغم تلاعب النظام بالقوانين الانتخابية وتجريده للمنتخبين من أي صلاحيات دستورية، إلى أن الانتخابات التنافسية مهدت الطريق في نهاية المطاف نحو بناء الديمقراطية.

وقد اتسمت عملية الانتقال نحو الديمقراطية في البرازيل بأنها تدريجية. وظهر الانفتاح على الليبرالية السياسية، بفعل الشرخ في المؤسسة العسكرية بين صقور (اعتقدوا أن البرازيل في حاجة إلى حكم عسكري مطلق) وحمائم (رأوا في الحكم العسكري حالة وصاية وتخوفوا من خسارة الدعم المدني للجيش كمؤسسة مستقبلا إذا لم يجر تقييد السلطة القمعية للمتشددين.

المشاركة هي الحل

في مطلع عام 1974، أعرب الرئيس – المعتدل- الجنرال إرنستو جيزيل عن عزمه “تخفيف” قبضة الحاكم العسكري، وتخفيف الرقابة على الصحف والسماح بحرية التعبير عن الأفكار وبالانتخابات الحرة، وبعد سبعة أعوام من النمو الاقتصادي والاستقرار السياسي والاجتماعي وبوجود معارضة محبطة بفعل حظرها في عام 1972، شعر جيزيل بثقة أن النظام سيتمكن من الفوز في انتخابات تنافسية.

واجهت المعارضة حينها المعضلة المعتادة: مقاطعة الانتخابات التي يمكن ألا تؤدي إلى انتقال غير مشروط للسلطة أم الاستفادة من الفرصة المتاحة من النظام وحشد الدعم للانفتاح الديمقراطي؟

استقرت المعارضة في النهاية على الخيار الثاني، متحملة الاتهامات بشرعنة الديكتاتورية، وقد دافع فرناندو كاردوزو، الذي حاوره الكتاب وأحد رموز المعارضة في تلك الفترة والذي سيصبح رئيسا للجمهورية في الفترة من عام 1995 إلى عام 2003، عن أن المشاركة في النظام والانتخابات هو أضمن طريقة للتغيير الديمقراطي.

أثبتت النتيجة أنهم على حق، فازت المعارضة بـ 16 مقعدا من أصل 22 مقعدا يجري التنافس عليها في مجلس الشيوخ، وزادت حصتها من المقاعد في مجلس النواب من 28 إلى 44 في المائة، وسيطرت على برلمانات خمس ولايات إضافية، ويرى كاردوزو، أن تلك الخسارة النكراء للحكومة لا ترجع إلى التعطش الشعبي للديمقراطية بل إلى الحملة القوية التي أطلقتها المعارضة احتجاجا على قضايا اقتصادية معيشية، لا سيما تآكل القيمة الشرائية للأجور رغم الازدهار الاقتصادي.

عززت الانتخابات على المدى البعيد قدرة المعارضة على حشد الناخبين والضغط على الحكومة للمحافظة على مسار الانفتاح السياسي، أو وفق تعبير كاردوزو:

الانتقال نحو الديمقراطية لم يحدث نتيجة الهجوم المباشر على حصون النظام وإنما بمحاصرته حتى أبدى من هم في داخله استعدادهم لعقد الصفقة.

اللعب مع قوانين مغشوشة

استمرت المعارضة في العمل حتى بعد أعاد النظام صياغة قواعد اللعبة ببراعة مرة أخرى للتلاعب بالعملية السياسية لتخدم مصالحه، لكن المعارضة أدركت أن الزمن في صالحها، فالنمو الاقتصادي خلق طبقة وسطى قوية وزاد حجم القوى العاملة نحو 30 % من السكان.

في الهامش، انبق مجتمع مدني وكانت النخب المؤثرة من أصحاب الرأي هي أول من عبر عن انتقاده للحكم الاستبدادي، وبرز رجال الدين في الكنيسة الكاثوليكية على الأخص في انتقاد القمع وإدانته، الذين أعدوا سجلات لعمليات القتل والعنف التي تقوم بها السلطة، واعتنقوا الديمقراطية وروجوا للمجموعات الشعبية التي تترعرع في ظلها قيم المشاركة، وقاد كاردينال كنيسة سان باولو مظاهرة حاشدة احتجاجا على مقتل صحفي يهودي بارز في أقبية سجن وحدة استخبارات الجيش الثاني.

وكذلك شن مجموعة من رجال الأعمال البارزين حملة ضد هيمنة الدولة في 1974.

ومع انفتاح الفضاء السياسي، ضغطت مجموعات دينية شعبية وروابط أهلية وحركة نسائية قوية لتحقيق المزيد من الحرية السياسية، وفي أواخر سبعينات القرن الماضي قاد لولا دا سيلفا حركة نقابية  عمالية جديدة تنتقد تدخل الدولة وحشدت الحركة على نحو لافت آلاف الأشخاص في القلب الصناعي لمدينة ساو باولو للإضراب من أجل زيادة الأجور، وعززت تعبئة المجتمع المدني في أوساط النخبة والشوارع والمصانع والدوائر الانتخابية قوة القدرة على التفاوض.

نقطة تحول

تسارعت العملية الانتقالية في البرازيل مع انتخابات حكام الولايات في عام 1982، وكان النظام العسكري قد سمح بتشكيل أحزاب جديدة عام 1979 سعيا إلى تفتيت المعارضة إلى خمسة أحزاب من بينها حزب العمال بزعامة لولا في اليسار وحزب معتدل في اليمين لم يعش طويلا.

أثمر قرار المشاركة في الانتخابات رغم التلاعب مرة أخرى في ظل اقتصاد بلغ فيه التضخم حد غير مسبوق، متجاوزا 200%، وانتخب 10 حكام ولايات من المعارضة في أهم الولايات بالبرازيل.

حافظ الجيش على وعده بتسليم السلطة إلى رئيس مدني في عام 1985 لثقته بأن مرشح النظام ستكون له الغلبة، رغم تلك النكسات الانتخابية.

وفي عام 1984 حشدت المعارضة حملة من “أجل انتخابات مباشرة” وإقرار تعديلات دستورية تفرض انتخاب الرئيس مباشرة من الشعب لا عبر المجمع الانتخابي، ورغم فشل المعارضة في نيل أغلبية ثلثي الكونجرس اللازمة لتغيير الدستور من أجل إقرار التعديلات، إلا أنها قررت خوض الانتخابات غير المباشرة، وكان حزب النظام العسكري قد سمى مرشحا أثار كثيرا من الجدل، مما أدى إلى سلسلة من الانشقاقات في الطبقة السياسية أسهمت في فوز مرشح المعارضة تانكريدو نيفيس السياسي التوافقي.

لكن تسليم السلطة إلى مرشح مدني فقد واجه البرازيليين، بدء من ذلك العام تحديات جديدة تخص بناء نظام ديمقراطي، وهو ما سنتعرف عليه في مقال قادم بإذن الله.