لم يقتصر النقاش حول دلالات وصول الفريق الوطني المغربي للمربع الذهبي على الجانب الكروي فقط، إنما امتد لجوانب أخرى كثيرة تتعلق بالهوية والانتماء بعد أن قرر مايقرب من ثلثي لاعبي المغرب أن يلعبوا مع فريق وطنهم الأم وليس مع فرق جنسياتهم الأوروبية.

اقرأ أيضا.. الفروقات الثقافية بين الرسوم المسيئة ودعم المثلية

صحيح أن النقاش الكروي ظل حاضرا ولم يختلف أحد على أن أداء الفريق المغربي كان متميزا، واتسم بالاحترافية الشديدة والالتزام التخطيطي، ما سمح له أن يفوز على فرق كبيرة مثل بلجيكا وإسبانيا والبرتغال ويخسر أمام فرنسا بطلة العالم، وحتى في المباريات التي استحوذ فيها الفريق المغربي أقل على الكرة، دافع بطريقة محكمة سمحت له بتنظيم هجمات مرتدة شديدة الخطورة، وفعل مثلما فعلت كرواتيا مع البرازيل وفرنسا مع إنجلترا والمغرب (في الشوط الثاني) حين استحوذتا أقل على الكرة، ولكنهما كانا أكثر فاعلية وقدرة تهديفية وفازا.

والحقيقة أن النقاش حول المغرب لم يقتصر فقط على احترافية الفريق ومهارة مدربه إنما امتد لقضايا أخرى كثيرة أهمها ما يتعلق بولاء غالبية لاعبي الفريق المغربي لوطنهم الأصلي المغرب، رغم أنهم حملوا جنسيات أوروبية وأتقنوا لغتها، ومع ذلك اختاروا بمحض إرادتهم أن يلعبوا لوطنهم الأم الذي زاروه ولم يعيشوا فيه، أو كما قال “حكيم زياش” النجم المغربي الذي ولد في هولندا أن دمه “أحمر” وليس “برتقالي” تعبيرا عن لون فانلة المغرب وهو أمر لافت وذو دلالة أن يختار نجم ولد في أوروبا وعرف الاحتراف في أنديتها الكبرى أن يلعب لبلد آبائه وأجداده.

والملاحظ أن النجم المغربي/الهولندي لعب في بداية مشواره مع منتخب هولندا للناشئين تحت 21 عاما. كما شارك مع المنتخب الهولندي الأول في بعض المباريات الودية، وتغير الحال بعدها وقرر قبل جائحة كورونا أن يمثل المغرب دوليا، وتسبب هذا الاختيار في استهدافه بعبارات عنصرية وتعرض لضغوط من قبل الصحافة والمسئولين الهولنديين. وكان رده: “لم أختر المنتخب المغربي لتأخر هولندا في استدعائي، بل اخترته لأن قلبي أملى عليّ ذلك”. كما أضاف: “هناك دفن والدي وهناك تعيش أسرتي، حيث أحس أنني داخل بيتي والدم يسري في عروقي بألوان الوطن”.

حكيم زياش
حكيم زياش

ورغم استبعاد “زياش” من المنتخب المغربي على يد المدرب الأجنبي السابق “وحيد خليلوزيتش” إلا إن ذلك لم يجعله يذهب للعب مع هولندا وظل محافظا على ولائه “لبيته” حتى أعاده المدرب الوطني الحالي إلى صفوف المنتخب وتألق في كأس العام.

والحقيقة أن حالة “زياش” تكررت مع عدد كبير من لاعبي المغرب، وفتحت نقاش حول قضية دمج المهاجرين وخاصة العرب واعتبر البعض في أوروبا أن هناك مشكلة هيكلية في مشاريع الدمج الأوروبية لأنها تصطدم بثقافة عربية إسلامية راسخة تحول دون دمج هؤلاء العرب في المنظومة الأوربية، حتى من ولدوا هناك وحملوا جنسياتها، وأن الدمج في فرنسا مثلا نجح مع البرتغاليين والإسبان والإيطاليين الذين جاءوا إلي هناك عقب الحرب العالمية الثانية، ولا تستطيع حاليا أن تفرق بين أبناء الجيل الثاني من هؤلاء ونظرائهم الفرنسيين، (وهو واقعيا صحيح) في حين أن حمل الجنسية الأوروبية وجواز السفر الأوروبي لم يعن بالنسبة لكثير من  أبناء الجيل الثاني من العرب والمسلمين انتماء وولاء، إنما سهوله في التنقل وفرص أكبر في العمل وحصول على ضمان اجتماعي وأحيانا حماية سياسية.

والحقيقة أن هذه الإشكالية لا تعني الذهاب لحرب حضارات ولا حملات تحريض متبادلة أوعنصرية غربية بغيضة، إنما يجب أن  يتعامل الغرب على أن المهاجرين الذين أغراهم للمجيء إلي أوروبا لتعميرها عقب الحرب العالمية الثانية أصبحوا حاليا حاملي جنسيتها دون أن يعني ذلك أنهم يحملون بالكامل نفس نظرتهم الثقافية والتاريخية، فهم يقينا لا يشاركونهم الإعجاب بتاريخهم الاستعماري، وأن نظرة المغربي أو الجزائري الذي يحمل الجنسية الفرنسية للاحتلال الفرنسي لبلاده الأصلية، مختلفة تماما عن نظرة كثير من الفرنسيين “البيض”، وهي كلها عوامل واعتبارات جعلت كثير من العرب من حملة الجنسيات الأوربية لا يشعرون بانتماء “كامل” للغرب وخاصة فيما يتعلق بالجوانب الثقافية ومسألة الهوية حتى لو كانوا مدمجين سياسيا وينخرط بعضهم في أحزاب وحركات سياسية وينتخبون في كل استحقاق انتخابي.

مسألة الانتماء “المنقوص” ليست اختراعا عربيا إسلاميا إنما هي إشكالية كبيرة عرفتها كثير من المجتمعات التي عاش فيها أقليات عرقية لم تأخذ حقوقها إلا بعد معاناه طويلة (مثل الأمريكيين من أصول أفريقية) كما أن هناك أقليات دينية وعرقية تعاني من التمييز بصورة تجعل انتماؤها لوطنها منقوصا. صحيح أن العرب والمهاجرين في أوروبا لا يمكن مقارنة أوضاعهم بالأمريكيين السود حتى ستينيات القرن، إلا أن هناك تمييز لازال واقع عليهم وفروقات ثقافية لازالت قائمة.

التعاطف مع المغرب لأسباب غير كروية حمل أيضا جوانب أخرى مثل دعم دول الجنوب في مواجهة سطوة الشمال وهيمنته حتى في الكرة، ودعم الشغيلة والكادحين لأن كثير من لاعبي المغرب هم أبناء العمالة الفقيرة الوافدة إلى أوروبا، وهناك الانتماء والمشاعر العربية التي فاضت من البيوت إلى الشوارع والمقاهي العربية ودعمت بحماس المنتخب المغربي.

ستبقي هذه النسخة من كأس العالم حافلة بمظاهر كثيرة غير كروية تتعلق بالهوية والانتماء وهي قضايا ستشكل جانب كبير من المشهد العالمي في السنوات المقبلة.