المشهد في المنطقة العربية بإنجازات المغرب في عالم كرة القدم يبدو وكأنه لا يري سوى صورة واحدة من صور الإنجاز المغربي، فهناك صور متعددة مركبة، ما يجعل مشهد كأس العالم مرآة تمكننا من أن نرى من خلالها ومن زوايا متعددة.
على عكس ما يحدث في مصر؛ فإن كرة القدم في المغرب ذهبت للاحتراف، ليس بمعنى تعظيم أجور اللاعبين والمدربين، بل اعتماد الكفاءة والمهارة كمعيار للتعامل مع لاعب الكرة، في حين أننا في مصر وفي أندية كبيرة نعتمد الواسطة والمحسوبية وكأنها مرض استشرى في جسد الوطن كالسرطان الذي يغزو جسم الإنسان فلا يتركه إلا ميتا.
المشهد في المغرب بدأ بتولي محمد السادس عرش المغرب، مدركًا أن السياسات السابقة ليست هي المناسبة للمستقبل، فأغلق ملفات سجناء الرأي، بل وعوضهم عن سنوات السجن، فأحدث هذا روحا جديدة في المغرب، ليكرس عبر خبرة المخزن السياسية تدريجيا فكرة تداول السلطة في المغرب بين الأحزاب السياسية، فالمعارضة الاشتراكية وصلت للسلطة في مارس 1998. هذا ما أعطى هواء جديدا للسلطة في المغرب.
أدرك الملك المغربي سقف خطاب حركة 20 فبراير الثوري في 2011 فرع هو سقف الخطاب الثوري بخطاب ثوري ألقاه في 9 مارس 2011، فقاد ثورة ملكية ليؤسس ميلاد جديد للملكية المغربية. أدى هذا إلى إدماج الجميع في النظام الملكي، فصار النظام المغربي واسع الرقعة، واستبدل منطق المواجهة مع المعارضة إلى منطق جديد هو بناء الثقة مع الفاعلين السياسيين، أدى إلى هذه الثقة ما طرحه العاهل المغربي في خطاب الإصلاح، بترسيخ سلطات جديدة لمجلس الوزراء، والاعتراف بالتعددية، ومن ثم الأمازيغية كمكون أصيل للهوية المغربية، مع إقرار دور الأحزاب والمجتمع المدني، ودسترة هيئات الحكامة وحقوق الإنسان وحماية الحريات.
صاحب هذه الإجراءات السياسية مشروع متكامل للتنمية المستدامة، إذ دون تنمية مستدامة تعوج أغصان شجرة الديمقراطية، بل قد تذبل ويصيبها الأذي، ويحكم عليها بالزوال، إذا لم تعمم الحكمة بسرعة، وترو الجذور بماء التنمية البشرية المستدامة الحكامة الجيدة، وبالإمكان أن تنجح هذه السياسات في ضوء دراسات جادة، لذا ذهب المغرب لتأسيس مركز للدراسات الاستراتيجية في الرباط، يشكل الإطار المرجعي للدولة للحاضر والمستقبل.
عن طريق المندوبية السامية للتخطيط، جرت مراجعة اعتماد المغرب على الإنتاج الزراعي كمورد أساسي محرك للاقتصاد، فتوجهت المغرب إلى التوسع في الصناعة وحوافز الاستثمار. ونظرًا لاستقرار النظام السياسي الحاضر، وفي أفق المستقبل، فقد جرى الاستثمار بقوة في المغرب من شركات كبرى.
ركز المغرب في البداية علي تعظيم عوائده من الصناعات المرتبطة بالزراعة وصيد الأسماك، ثم انتقل إلى صناعة السيارات، حتى تحول حاليا لأكبر مصنع للسيارات في إفريقيا، وأكبر مصدر في إفريقيا للسيارات. هذا ما قاد إيرباص لتصنيع أجزاء من الطائرات في المغرب.
وبالرغم من هذا، فالواقعية والشفافية في المغرب جعلت هناك طرح مستمر لهشاشة في الاقتصاد المغربي، ما زالت موجودة، وعززتها اضطرابات جرت في الفترة بين 2011 و2022. هذه الاضطرابات بسبب ضعف التنمية في بعض المناطق، وهشاشة قدرتها علي مواجهة الضغوط الاقتصادية. خاصة أيضا أن الذي استفاد من تقدم الاقتصاد المغربي الطبقات الثرية والفقيرة، ولم ينعكس هذا إيجابا على الطبقة الوسطى، فقد قل معدل الفقر في المغرب بصورة ملحوظة، لكن بمعدلات أقل مما يطمح له المغاربة.
إن واحدة من معطيات الواقع المغربي الحيوية التي يتمتع بها المجتمع المدني في المغرب، هذا ما جعل القدرة على الابتكار واستيعاب الطاقات محركا فاعلا في أداء السياسات المغربية في كل أنحاء التراب المغربي، فانعكس إيجابا على الصناعات الحرفية التقليدية وعلى التعليم والأنشطة الثقافية والرعاية الاجتماعية، وصارت هناك أدوارا موزعة واضحة المعالم بين الدولة والمجتمع، مع معالم واضحة للعلاقة. هذا ما أدى إلى تدفق مغربي في المؤسسات الدولية، جعل حضور المغرب قويا على الصعيد الإفريقي والدولي.
أدرك المغرب أن هناك ثلاث دوائر يتحرك فيها، هي: الدائرة العربية، فحرص علي بث روح من التعاون محاولا تجاوز الخلافات العربية، لكنه اصطدم بالعديد من التبايات العربية مع بعض موافقه، فاستطاع أن يؤطر علاقات مع غرب إفريقيا، فصارت شراكاته الاقتصادية مع غرب إفريقيا عمقا للصادرات المغربية ونفوذا سياسيا يخدم توجهات المغرب.
كما أن شراكته مع الاتحاد الأوروبي فتحت له أفاقا غير مسبوقة، خاصة مع قدرة المغرب في السنوات الأخيرة علي التعامل الرشيد مع مشكلات المهاجرين المغاربة في أوروبا، فقد استطاع بناء برامج متعددة، جعلت المهاجرين ليسوا رهائن لسياسات أمنية وسياسة محاربة الإسلام السياسي والمخدرات والجريمة، بل هناك الآن هجرة عكسية من أوروبا للمغرب، ينقل عبرها المهاجرين المغاربة خبرات وصناعات إلى التراب المغربي. وفي هذا تكرار لما نجحت فيه تركيا منذ عهد تورجت أوزال، حين نجحت في نقل التقنيات والصناعة من أوروبا لتركيا.
هذا النجاح المغربي مرهون الآن بقدة الدولة المغربية على التعامل مع مزدوجي الجنسية، واعتبار المهاجر امتدادا للوطن، مع التدخل المستمر الفاعل لحل قضايا الجاليات المغربية المهاجرة. وهو ما تفوقت فيه المغرب أكثر من أي بلد عربي آخر. لكن مازالت العديد من مشكلات المهاجرين المغاربة قائمة؛ أبرزها قضية الاندماج في مجتمعات المهجر بصورة جيدة. إذ بدون هذا ستظل هناك مشكلات تتعلق بفكرة الانتماء.
في المشهد الثقافي، حصد المغرب في السنوات الأخيرة جوائز ثقافية عربية أكثر من أي بلد عربي آخر خلال السنوات العشر الماضية، بل تُرجم الأدب المغربي للعديد من اللغات خاصة الفرنسية التي يكتب بها العديد من الكتاب المغاربة، فترجم أدبهم إلى الإسباينة والإنجليزية. وهنا تبدو الفرنسية في تراجع داخل المغرب، خاصة مع صعود تغلغل اللغة الإنجليزية. وهذا تعبير عن خروج المغرب من السياق الفرنسي الذي ظل محصورا فيه لسنوات إلى النطاق الأكثر عولمة واننشارا المرتبط باستخدام اللغة الإنجليزية، وتصاعدت صادرات وإصدرارت المغرب من الكتب، خاصة لأوروبا. بل صارت تزاحم الآن مصر والسعودية أكثر الدول العربية تصدريا للكتاب لإفريقيا.
ألا يستدعي كل ما سبق أن نتأمل المشهد المغربي بصورة أكثر اتساعا من زاوية كرة القدم.