من المعلوم من السياسة بالضرورة أن الخطاب السياسي للحاكم هو أحد أهم أسلحته في التواصل مع شعبه أو ناخبيه.. وأن هذا الخطاب هو أقوى أدوات ممارسة سلطته، وتأكيد شرعيته وحشد الرأي العام خلف مشروعه أو هدفه السياسي.
وترتفع قيمة هذا الخطاب حتى فوق كل أدوات القوة مثل الجيوش والأسلحة وأجهزة الأمن عندما يمر بلد هذا القائد السياسي بأزمة خطيرة سواء كان مصدر التهديد داخليا أو خارجيا.
اقرأ أيضا.. إذا تمكن من رد اعتباره.. هل يترشح جمال مبارك في انتخابات الرئاسة القادمة؟
والأمثلة من التاريخ المعاصر وليس البعيد، مصريا ودوليا لا تحصى ولا تعد. خطاب عبد الناصر من فوق منبر الأزهر في مواجهة عدوان 1956، كان أحد أسباب الصمود والمقاومة في الداخل، وأحد أسباب إقناع الخارج ممثلا في القوتين العظميين بعد الحرب العالمية الثانية أمريكا والاتحاد السوفييتي، باتخاذ موقف معارض ورادع للعدوان.
خطابات ديجول وتشرشل مثال آخر “ليس صدفة أن يختارهما شعبهما أهم رمزين سياسيين.. كلا على حدة في كل العصور” في الحرب العالمية الثانية، في مواجهة تقدم هتلر والنازية في بداية الحرب.
هذه الخطابات الصريحة القائمة على الاعتراف بالحقائق والتأكيد على القدرة على الانتصار -رغم تفوق العدو وقتها- كانت من أهم أسباب نجاح الحلفاء والمقاومة الفرنسية، في تحرير فرنسا، وفي صمود الجزيرة البريطانية في مواجهة غارات الطيران النازي المدمرة.
يتحدد إذًا إلى حد مهم مصير أي بلد وقدرته على الانتصار على هذه الأزمة، والخروج أقوى أو الانهزام أمامها بكل ما يحمله من مخاطر وجودية على الجيل الحالي والأجيال القادمة على قدرة هذا الخطاب على تحقيق وظائف أربعة:
– القدرة على الرد على المخاوف والهواجس وتساؤلات المواطنين، وتقديم فهم مقنع وصادق لهذا الشعب عن أسباب المشكلة أو الأزمة وجذورها.
– تحديد الهدف والمصير الذي تسعى إليه القيادة السياسية في مواجهة هذه الأزمة.
– منح الأمل للشعب في القدرة على اجتياز هذه الأزمة.
– انتزاع حماس الجمهور وطبقاته الاجتماعية ونخبه المثقفة؛ للاحتشاد والتعبئة لتحقيق هذا الهدف.
من الناحية العملية، تواجه مصر الآن أزمة خانقة، تهدد اقتصادها واستقرارها السياسي ومكانتها كدولة في إقليمها، وحياة الغالبية العظمى من شعبها؛ تهديدا خطيرا ويكاد يكون وجوديا.
هذه الأزمة هي الأزمة الاقتصادية الخطيرة المتمثلة في ارتفاع الأسعار، ومعدل التضخم بنسبة تزيد عن 21% لدرجة بات معظم المصريين عاجزين عن توفير حاجاتهم الأساسية من الغذاء والسكن والعلاج والتعليم والتنقل. صَاحَب ذلك عجز مزمن في ميزان المدفوعات والميزان التجاري، وتراجع خطير في الاحتياطي من العملات الأجنبية، لدى البنك المركزي بحيث أصبح هذا الاحتياطي، إما مهددا بالعجز عن توفير الحد الآمن من الشهور لتدبير الاحتياجات الاستيرادية من القمح والمواد الغذائية والطاقة، أو مهددا بأن يصبح في مأزق أكبر فيما يتعلق بقدرة الدولة المصرية على سداد أقساط الديون الباهظة وفوائدها، خاصة إذا سحبت الدول الخليجية – بعضها أو كلها- ودائعها لدى البنك المركزي المصري، وهو أمر يضع الإرادة السياسية وهامش الحركة الإقليمية لصانع القرار المصري في حيز ضيق للغاية، وقابل للضغط عليه بقسوة، من دولٍ كانت حتى عقود أربعة سابقة تنتظر اتجاه الريح و نوع القرار السياسي الإقليمي من القاهرة!
ما الذي خلفه هذا الوضع الذي انهار فيه الجنيه المصري في أقل من عشرة أشهر أمام الدولار كما لم يحدث له في سنوات بل لعشرات السنين؟
خَلَّفَ ذعرا كبيرا وغيمة قلق وتشاؤم، ظللت معظم بيوت المصريين؛ خوفا من أن يتواصل التدهور؛ فيصل إلى حدود العجز عن إطعام أطفالهم، ثلاث وجبات أو تعجز الدولة عن الوفاء بالتزاماتها في سداد الدين الداخلي والخارجي، وتوفير المستلزمات الأساسية بأسعار يمكن تحملها.
هذا الذعر والهلع وصل إلى أسماع الرئيس السيسي – بالتأكيد- عبر تقارير أجهزة الدولة المعنية بتتبع ورصد اتجاهات الرأي العام، وأشار إليه علنا وصراحة عندما تساءل قبل أيام: “أنتم ما لكم خايفين كدة ليه؟”
فهل استطاع الخطاب السياسي للرئيس الإجابة على مخاوف المواطنين، وتهدئة شعورهم بالذعر الشديد من المستقبل؟
هل استطاع تقديم تصوّر مقنع عن الأزمة وعن كيفية الخروج منه؟
هل استطاع هزيمة اليأس والإحباط والاكتئاب العام المسيطر على الشارع والمزاج العام، أي هل منح الشعب الأمل في المستقبل؟
وهل حدد هدفا استطاع حشد العقول والقلوب عليه؛ بحيث تنضم كل طاقات الشعب إليه وإلى حكومته في تحقيقه فتعبر مصر أزمتها الخانقة؟
للأسف الشديد فإن الخطاب السياسي للرئيس السيسي، ورئيس مجلس الوزراء الدكتور مدبولي ووزراء الحكومة، قد أخفق إخفاقا واضحا في هذه المهام، أي عجز في لحظة مصيرية للنظام السياسي والدولة، عن استخدام أمضى أسلحة القائد، خاصة في لحظة الأزمة ألا وهي الخطاب السياسي الذي يلتف الشعب بعده حول مركز السلطة ويعطيه من قلب الأزمة شرعية جديدة.
القفز على الأزمة أو الدوران حولها أو جذب الاهتمام لقضايا أخرى أقل أولوية:
اتسم الخطاب السياسي للرئيس، في هذا الأزمة بسمة أساسية، هي عدم المواجهة الصريحة مع مخاوف وقلق المصريين، وتراوح بين القفز عليها بالحديث عن قضايا وموضوعات أخرى لا يراها المواطن ذات أولوية في الوقت الراهن، مثل دعوته الأخيرة إلى مؤتمر “للدين”. ويراها قسم معتبر من النخبة خطرا على الوحدة الوطنية إذ اشتملت الدعوة للمرة الأولى على الأقباط والكنيسة المصرية التي لطالما كان التقليد المستمر للدولة المصرية، هو ترك شئونها الروحية إلى البطريرك ورجاله.
وعندما يتطرق الخطاب السياسي إليها.. يطاف حولها وليس مواجهتها مواجهة صريحة، فمرة يُكتَفى بالإشادة بإنجازات البنية التحتية التي تحققت وهي إنجازات حقيقية “يقتضي الإنصاف القول، أنه منذ بدأت الأسطورة المزيفة منذ عهد الانفتاح، أن التركيز على البنية التحتية هو القاطرة لاقتصاد قوي يجذب الاستثمارات الخارجية المباشرة، ويمكن القطاع الخاص من القيام بمهام التصنيع، وتشغيل القوى العاملة. وهو ما لم يحدث أبدا على مدى ثمانية وأربعين سنة كاملة، فإن الرئيس السيسي كان أكثر الرؤساء همة وقدرة على تحقيق إنجاز ملموس في هذا المجال؛ رغم الاعتراف بأنه لن يحرر الاقتصاد المصري من التبعية ولن يؤدي إلى تقدمه، ويليه في ذلك نسبيا الرئيس الأسبق مبارك.. أما الأقل إنجازا في تحقيق قفزة في البنية التحتية -على وفرة ما حصل من معونات عربية بعد حرب أكتوبر مباشرة – فكان الرئيس السادات.
ولكن اقتصار الرئيس السيسي في مواجهة الأزمة الراهنة بالإشارة إلى ما أنجز في شبكة الطرق والبنية التحتية؛ لا يجيب عن أسئلة أخطر، ويتركها معلقة في المجال العام، وتزيد أفهام الناس حيرة وغموضا مثل: هل كان التركيز الشديد عليها، وهي التي لا تدر عائدا مباشرا كان هو الأولوية الصحيحة، أم التركيز على زيادة الإنتاج السلعي الصناعي والزراعي، بما يحققه من عائد يُمكّن من سداد القروض، ويُقلّل الاستيراد ويُقلّل الفجوة في احتياطي العملات الأجنبية التي رُهِنَ الاقتصاد المصري لها؟
وعندما ينتقل الخطاب السياسي إلى تحديد المسئول عن الوضع الاقتصادي والمالي والمعيشي المخيف و المتأزم؛ لا يقدم الخطاب للمواطن البسيط إجابة واحدة، فمرة تُحمّل الأزمة للحرب الأوكرانية، ومرة توضع المسئولية على ثورة 25 يناير.. ومرات أخرى تتهم الزيادة السكانية.. بعبارة أخرى يتم لوم الضحية blaming the victim وهو الشعب الذي ليس له ناقة ولا جمل في صنع القرارات الاقتصادية، وعقد القروض الباهظة.. بدلا من لوم توجهات وقرارات سلطة امتلكت في يدها في السنوات التسع الأخيرة كل السلطات التنفيذية والتشريعية والإدارية، ويتبعها الإعلام والمؤسسة الثقافية والدينية اتباعا تاما.
الأمر لا يقف عند تقديم الخطاب السياسي الرسمي، إجابات متعددة مختلفة وغير منطقية أو مقنعة لسؤال الأزمة الواحد؛ ولكن يتعداه إلى تقديم حالة من الارتباك والاضطراب؛ يصل للتناقض من خطبة إلى أخرى، بحيث تترك الرأي العام غير واثق في قدرة الحكم على حل الأزمة، والخروج بمصر منها بأقل الخسائر، وفي أقرب وقت معقول ممكن.
فعندما بدأت تتكشف أبعاد الأزمة بعودة مصر إلى طلب قرض إسعاف عاجل من صندوق النقد الدولي المشئوم، وتغيير رئيس البنك المركزي بآخر، وارتفعت الأسعار بسرعة صاروخية تتجاوز حتى ارتفاعات الدولار، مع ترك السوق “سداحا مداحا” للقطاع الخاص والتجار وكبار مستوردي السلع الاستراتيجية، لرفع الأسعار دون ضابط أو رابط؛ بدأ الخطاب السياسي يتواضع قليلا فيقول، لقد تعلمنا درسا قاسيا من هروب نحو 22 مليار دولار في غضون أسابيع من الأموال الساخنة، وأننا من الآن فصاعدا سنركز على الصناعة والزراعة، وبدأ حتي الاعتراف بأن الأمر لا يتعلق بأوكرانيا أو فوضى الثورة!! أو الزيادة السكانية فحسب، بل لأسباب هيكلية في بنية الاقتصاد المصري منذ عام 1974، وهي الاعتماد على القطاعات الريعية المتذبذبة، والإنفاق المبالغ فيه على البنية التحتية، وإهمال قطاعات الإنتاج السلعية، وتراجع نصيبها في الناتج القومي.
لكن مع زيادة أمال الحكومة في الحصول على قرض صندوق النقد الدولي، وتوقع أن تمارس واشنطن ضغطا أكبر على مؤسسات التمويل الدولية، والمانحين لصالح احتياجات مصر التمويلية، بعد لقاء بايدن/السيسي الحميم في قمة المناخ الأخيرة COP 27 “عادت ريما إلى عادتها القديمة”؛ وصدر كتاب الحكومة الأخير المحبط الذي اعتبر كل الانتقادات الصحيحة من متخصصين عن الخلل البنيوي في اقتصادنا الوطني، بل وحتى بعض ما قالته هي ووزراء فيها سابقا؛ إنما هي “مزاعم” ينبغي التصدي لها، وتبرير كل الأخطاء التي تم ارتكابها في السنوات التسع الأخيرة.