من حصار الأحزاب والنقابات إلى السيطرة على الفن والإعلام ومن تعيين العمد إلى تكليف العمداء، ومن اختيار مرشحي البرلمان إلى مواجهة الاحتجاجات الاجتماعية، تبقى الكلمة الأخيرة في مصر أمنية بامتياز.

قبل أيام كان الجدل السياسي والقانوني الذي فجره قانون المحال العامة الجديدة كاشفًا لدرجة تغلغل الأمن في الحياة العامة، 83 نشاطًا اقتصاديًا باتوا ملزمين بالحصول على موافقات أمنية قبل بداية النشاط، تتمدد هذه الموافقات لتصل إلى ضرورة الموافقة على أنشطة من نوعية: محلات بيع وتأجير الملابس، ومحلات بيع الأجهزة الكهربائية والإلكترونية المستعملة، ومحلات بيع وصيانة الهواتف، وأماكن بيع الكمبيوتر واللاب توب، والأحبار ومستلزمات الطباعة، ومحلات بيع وصيانة أجهزة التصوير، فضلًا عن محلات بيع المشروبات الغازية والسوبر ماركت والأسواق بأنواعها.

وتضمنت قائمة الأنشطة المطلوب حصولها على موافقات أمنية المقاهي والكافتيريات والكافيهات ومحلات تقديم المشروبات الساخنة.

هذه القائمة التي تفتقد لأي علاقة منطقية مع الأمن أثارت جدلًا حول دستورية فرض موافقات أمنية على أنشطة ترتبط بالحق في العمل الذي يضمنه الدستور، وتحميه نصوصه بشكل قاطع، هذا الجدل اعتبر فيه عدد من القانونيين أن القائمة تنتقص من هذا الحق، وتفرض عليه قيودًا غير مفهومة ولا مبررة.

في حسابات السياسة لا يمكن قراءة فرض قيود أمنية على الحق في العمل بمعزل عن مشهد أوسع يكشف الاعتماد على الأمن في كل شيء، من السياسة إلى الاقتصاد ومن الفن إلى الرياضة.

خلال انتخابات البرلمان في 2020 كانت تقارير المنظمات الحقوقية التي تتابع العملية الانتخابية ترصد تدخلات أمنية واضحة وصريحة في رسم المشهد الانتخابي، بداية من اختيار المرشحين، لا سيما في الترشح للقوائم الانتخابية، وحتى ضمان فرض الحصار الكامل على أي مرشح من خارج صفوف السلطة.

وبناء عليه نالت مصر برلمانًا تاريخيًا بمعنى الكلمة، فعلى مدار أكثر من 7 سنوات، بداية من برلمان 2015 وحتى اليوم، لم يشهد المجلس النيابي المصري استجوابًا واحدًا لمسئول في السلطة التنفيذية صغيرًا كان أو كبيرًا، ثم كانت الموافقات “التاريخية” لهذه المجالس على كل ما ترغبه السلطة، بداية من تمرير اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين مصر والسعودية المعروفة إعلاميًا باسم اتفاقية “تيران وصنافير” ومرورًا بعدم مطالبة البرلمان بحقه الدستوري في مناقشة اتفاقية إعلان المبادئ الخاصة بسد النهضة الإثيوبي.

في الحياة السياسية يتدخل الأمن في المشهد بشكل كامل، بداية من حصار شامل مفروض منذ سنوات على أنشطة الأحزاب الرسمية المدنية، ومنع كامل لنزول هذه الأحزاب إلى الشارع، مرورًا بملاحقات أمنية لأعضائها وشبابها الذين دخل كثير منهم إلى السجون، وقضى بعضهم عدة سنوات في الحبس الاحتياطي باتهامات تهديد السلم الاجتماعي ونشر الأخبار الكاذبة.. هذا المشهد المستمر منذ سنوات أفضى إلى حياة سياسية ميتة لا روح فيها ولا حياة.

المشهدان الفني والإعلامي ليسا أفضل حالًا، فللأمن الكلمة الأولى والأخيرة، بداية من تأميم ناعم لكل الشاشات والصحف والمواقع الإخبارية بعد السيطرة عليهم، ومنح ومنع واضح يحدد على أساس الموقف من السلطة الحالية، ثم قوائم لا يمكن لغيرها أن تظهر على القنوات أو تتحدث للصحف، ثم تحكم الشركة المتحدة في المشهد الفني بشكل كامل، بداية من السيناريوهات التي يتم عرضها على الشاشة ونهاية باختيار الفنانين الذين سيظهرون للمشاهد في الأدوار الفنية المختلفة.

قبل ثورة يناير 2011 كانت أجهزة الأمن تتدخل في كل ما له علاقة بالسلطة والقيادات الكبرى، ثم كل ما تعتبره السلطة يمثل تهديدًا مباشرًا لأمنها أو لأمن البلد كما تتصوره، حدث ذلك قبل أن تتطور الأمور لتصل إلى تدخلات أمنية في كل المجالات في مصر بلا أسباب واضحة ولا مفهومة.

الملفت في الأمر أن الأجهزة الأمنية كما كل المؤسسات لها طاقة وقدرة لا يمكن تجاوزها، في مصر أو في العالم، وتحميل هذه الأجهزة بكل صغيرة وكبيرة هو خطر على أمن البلد ذاته، فليس طبيعيًا وضع أدوار لأجهزة الأمن تتعدى الاختصاص الطبيعي لتصل إلى السياسة والاقتصاد والفن والإعلام وغيرها.

المؤكد أن قانون المحال التجارية لا ينفصل بحال عن المشهد العام الذي بدأ منذ العام 2016، بل هو التطور الطبيعي لهواجس أمنية متواصلة تحكم عمل السلطة الحالية وتتحكم في كل قراراتها بما يوحي أن الأمن هو بداية كل شيء ونهاية كل أمر.

هذا الأداء السياسي ليس هناك من يراجعه حتى الآن، وليس هناك من يرى أن هناك احتياجا فعليا لإعادة رسم المسار المستمر منذ عدة سنوات، والذي أوصل البلد إلى طريق ليس هو الأنسب وسط مستقبل كان يمكن أن يصبح أفضل من ذلك كثيرًا لو اختلفت الرؤية السياسية، وانفتحت على حقائق كثيرة أثبتتها الأيام على رأسها أن البلد تغيرت وأن العالم يرسم مستقبله بوسائل أخرى وأكثر حداثة.

مصر في احتياج حقيقي إلى “عقل سياسي” يغير المشهد الحالي بشكل كامل، ويعيد الأمور إلى نصابها الصحيح، ويعتبر أن السياسة أولًا وأن الدور الحقيقي للسلطة، أي سلطة، ليس فرض القيود المتواصلة على كل المجالات، ولا الحصار الكامل لكل المساحات الحرة، بل رسم خريطة طريق للمستقبل تشمل جميع العقول، وتحترم كل الأفكار، وترد الاعتبار للمشاركة السياسية، وتفتح الأبواب لهواء الحرية ليطهر الأجواء من عتمة الاستبداد وقيوده الخانقة.

مصر بحاجة إلى مراجعة سريعة لمسار الحكم لتبدأ في رحلة الحكم عن طريق السياسة والمؤسسات وفق ما رسمه الدستور الذي عظّم من قيمة الحريات العامة واحترام حقوق الإنسان والتنوع.

فالحكم على الطريقة القديمة انتهى ولا يمكن أن يعود، والظن أن السيطرة والتسلط على كل كبيرة وصغيرة يمكن أن يستمر هو ظن خاطئ، ونتيجته لن تعود بالخير على هذا البلد، ولا على أهله.