بحلول نهاية الأسبوع الجاري يكون قد مر ثمانية شهور بالتمام والكمال على إطلاق الدعوة الرسمية للحوار الوطني خلال كلمة رئيس الجمهورية في حفل إفطار الأسرة المصرية الذى انعقد في إبريل الماضي، وبحلول نهاية هذا الأسبوع أيضا يكون قد مر شهر كامل على آخر دفعة إفراج عن سجناء الرأي أعلن عنها في 24 نوفمبر الماضي.

اقرأ أيضا.. من الحرية لفلسطين إلى الحرية لفلان.. لسه الأحلام ممكنة

مع كل ما تعرضت له فكرة الحوار الوطني على مدار تلك الشهور الثمانية من تصاعد لأسقف التوقعات والطموحات ثم تراجعها، ومن تصورات عريضة وواسعة تراجعت لحدود واقعية حول ما يمكن الخروج به من توصيات غير مؤكدة التنفيذ، ومن حماس وتفاعل في البدايات إلى تراجع لفتور وملل وأداء روتيني وتكتيكات تقليدية، فإنها لا تزال فرصة قائمة ومتاحة في ظل استمرار انعقاد مجلس أمناء الحوار رغم كل أدائه الباهت والبطيء والضعيف في تقديري الشخصي.

لكنها فرصة لا بمعنى الطموحات العريضة والواسعة التي بنت تصورات غير حقيقية مع إطلاق الدعوة، وإنما بمعنى تحقيق بعض المكاسب الجزئية وعلى رأسها إتاحة المجال للمعارضة المدنية الديمقراطية للتعبير عن آرائها وتصوراتها وأفكارها لا أمام السلطة وحدها وإنما أمام المجتمع بشكل عام، واكتساب بعض المساحات المتوقع أن تظل محدودة لحرية الرأي والحركة والتنظيم، ومع هذا وذاك استكمال عملية الإفراج عن سجناء الرأي التي تحتاج لمعايير أكثر وضوحا وتحديدا ولآليات أكثر فاعلية من لجنة العفو الحالية.

ولا يزال الحوار فرصة أمام السلطة، لا لتغيير جوهري غير متوقع في توجهاتها وسياساتها، رغم أنه هام وضروري، إلا أنه يبدو واقعيا بعيدا جدا، وإنما لتجرب طريقة أخرى في التعامل مع الأفكار والآراء المختلفة، لا بالتسفيه منها أو الملاحقة لأصحابها أو حتى مجرد منعها وحجبها والتضييق على من يطرحونها، وإنما بالتفاعل الجاد معها وإتاحة الفرصة للنقاش حولها حتى لو لم تأخذ بأغلبها في النهاية.

الرئيس السيسي أثناء الدعوة للحوار الوطني
الرئيس السيسي أثناء الدعوة للحوار الوطني

الأوضاع الاقتصادية رغم أنها كلمة السر والأساس في كل التصورات والفرص والمخاوف في اللحظة الراهنة والمدى المنظور، إلا أنها تبقى رغم أولويتها شعبيا ومجتمعيا واحتياج الناس لحلول واضحة وإجراءات حاسمة تخفف من معاناتها التي تتزايد يوما بعد الآخر، ورغم ما يبدو واضحا أن السلطة مسئولة بالدرجة الأولى عن وصولنا لذلك الوضع المركب والمعقد دون إنكار تأثير عوامل ميراث الحقب السابقة والأوضاع الإقليمية والدولية، إلا أن هذا الملف تحديدا لا حلول مباشرة وسهلة ممكنة فيه، وإنما سياسات وأفكار عامة يمكن طرحها لكن حتى بافتراض السعى لتنفيذها –وهو مستبعد في تقديري- فإنها سوف تستغرق وقتا وجهدا لتبدأ آثارها في الظهور، وبالتالي فأقصى ما يمكن الأمل فيه هو إجراءات تخفف من آثار الأوضاع الراهنة والمتوقع تزايدها خلال الفترة المقبلة، مع سعي لتخفيف وتيرة تسارع الخطوات والإجراءات الاقتصادية محل الخلاف ذات الآثار الاجتماعية الواسعة.

في ظل هذا الوضع، فإن الحوار الوطني، شرط أن يكون جديا، رغم كل الفتور والإحباط وعدم الرهان على ما يمكن أن ينتجه لدى كثيرين يتزايدون خلال الشهور الماضية، بمن فيهم من أبدوا حماسا وتجاوبا وتفاعلا معه، لا يزال فرصة لتقديم حلول أقل تكلفة تخفف نسبيا من آثار الوضع الاقتصادي بحلول سياسية، ولا أقول إن هذا حل جوهري، لكنه فتح لباب ومساحة تحتاجها البلد كلها أكثر من المعارضة السياسية بالمعنى التقليدي، وإتاحة لوسائل وآليات قد نجد من خلالها من يقدم حلولا أكثر عملية وإقناعا وقابلية للتطبيق، لكن الأهم من هذا وذاك أنها تخلق قنوات للتعبير والتنظيم والحركة، وهذا في ذاته صمام أمان للمجتمع كله حسب أي فهم سياسي وإدراك لمخاطر اللحظة الناتجة من ضغط الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية.

من هنا، فإن استمرار الأداء الراهن بالتأجيل والمماطلة والتسويف فيما يتعلق ببدء جلسات الحوار الوطني وجدية وصوله لنتائج سريعة بالذات فيما يتعلق بملفات الإصلاح السياسي والتشريعي والحريات العامة والإعلام وغيرها، وفيما يتعلق باستمرار الأداء الحالي فيما يتعلق بملف سجناء الرأي المعلق والمؤجل وكأنه أداة الضغط من كل طرف على الآخر رغم أنه يفترض أن يكون بأي حساب عاقل وعادل خطوة ضرورية لا بد منها سواء كان هناك حوار أو لم يكن وسواء أنتج شيئا أو لم ينتج.

هذا الوضع كله يزيد من وضع الأزمة ويعقدها بدلا من أن يساهم في حلحلتها، وحجم الاحتقان في المجتمع عموما وبين السلطة والمعارضة خصوصا من آثار السنوات الماضية كبير بما يكفي ويحتاج لما يخففه لا ما يعمقه ويزيد من آثاره، وقد كان متصورا أن الدعوة للحوار الوطني هي خطوة على هذا الطريق، لكن طريقة إدارته والإعداد والتحضير له من مختلف الأطراف بدت أقل مما هو متوقع ومن مستوى الطموح ومن المرغوب فيه من مثل هذا الحوار رغم محدودية تلك التوقعات.

بإختصار ووضوح، فإن الدعوة للحوار الوطني وبدء جلساته ونقاشاته والوصول سريعا لنتائجه، والاستعداد خلاله لطرح كافة الآراء والتصورات، والاستعداد من كل الأطراف من حيث المبدأ كل على قدر مسئوليته على الاعتراف بالأخطاء حتى لو لم تكن كلها محل اتفاق، لكن الفكرة في ذاتها دون ضرورة أن يسعى كل طرف لإثبات أنه وحده من يمتلك الصواب والمعرفة أو الحكمة بأثر رجعي، إذا لم يكن ذلك كله سوف يتم كخطوة على طريق إصلاح سياسي واسع وعميق ولو تدريجى لكن لا يقتصر على الشكل ولا يعتبر أن مجرد تعديل تشريعى هو غاية المنى رغم أن هذا التشريع من الممكن ألا يطبق في اليوم التالى لصدوره، ودون إدراك أن البلد بحاجة لهذا الحوار كمخرج بديل عن مزيد من الاحتقان الذي يتزايد منسوبه مرة أخرى لا بسبب السياسة وإنما بسبب الاقتصاد والأوضاع الاجتماعية لكن المخرج الممكن والمتاح والضروري الآن هو السياسة ولا بديل عنها أو بدونها.

وربما جزء من أسباب الوضع الراهن هو تغييب وإماتة السياسة على مدار السنوات الماضية، عكس بعض التصورات أن هذا ما خلق قدرا من الاستقرار النسبي، لكن الحقيقة أنه بدون سياسة، وبدون فتح الآفاق للتعبير الآمن عن الآراء، وبدون وجود مؤسسات سياسية ونقابية وأهلية، وبدون تحرك جاد نحو إنهاء الأوضاع الاستثنائية التي حكمت خلال السنوات الماضية، فإننا ندفع باتجاه أزمات أكبر وتكلفتها سوف تكون صعبة على الجميع دون استثناء.

مصر إذن، ليست بحاجة للحوار الوطني لتحسين شكلها وصورتها وسمعتها فيما يتعلق بملف الحريات وحقوق الإنسان أمام أي أطراف خارجية حتى لو كان هذا جزءا من تصورات البعض، وإنما هي بحاجة لهذا الحوار استجابة للأوضاع الراهنة ولضرورة قدرة كافة الأطراف على الوصول لمساحات مشتركة وتقديم تنازلات ولو مرحلية أو جزئية، تفاديا لخطر أكبر داهم سواء كان ممثلا في انفجار مجتمعي أو غيره. السلطة بحاجة لهذا الحوار، والمعارضة بحاجة لهذا الحوار، والمجتمع بحاجة لهذا الحوار، رغم أنه لا يحقق أغلب آمال وطموحات كل طرف، لكن هذا هو السبيل المتاح والآمن الآن في هذه اللحظة المعقدة والمركبة والمتشابكة.

وبالتزامن ودون تأخير أو تباطؤ ودون تعليق هذا الملف على أي شيء آخر فإن تواصل ملف الإفراج عن سجناء الرأي بشكل أوسع وأسرع ومعايير أوضح ونقاش جاد حول تطوير أداء وآليات لجنة العفو –ويمكن أن يكون ذلك جزءا من النقاش داخل الحوار الوطني نفسه– هو أمر صار ضرورى وواجب ولا بد منه، ولا أقول هنا كي ينجح الحوار الوطني أو كي يبدأ أو كي يكتسب مصداقية وزخما -فقد بالفعل كثيرا منهما على مدار الشهور الماضية لأسباب متعددة يعد ملف سجناء الرأي واحدا من أهمها- وإنما لأن هذا الملف لا ينبغي أن يكون أداة ضغط لا من السلطة على المعارضة ولا من المعارضة على السلطة، وإنما حق وواجب لا بد من استكمال ما بدأ منه، فحياة وحرية السجناء المحبوسين على خلفية آرائهم أو مواقفهم لا يجب أن تكون رهنا باتفاق وخلاف سياسي.

الأيام القليلة المتبقية حتى نهاية العام الجاري، والأيام التالية من الشهر الأول في العام الجديد، إذا لم تشهد جديدا محددا وواضحا في ملف الحوار الوطني وقضاياه وملفاته ونجاحه في التوافق السريع على بعض القضايا الأساسية والخروج بتوصيات لها تكون محل استعداد للتطبيق والتنفيذ من طرف السلطة، فإننا قد نشهد إهدارا لفرصة جديدة متاحة مهما بلغت محدودية أفقها ونتائجها في آراء البعض، وأهميتها في كونها بديلا عن احتمالات أخرى مجهولة يبدو أغلبها أكثر بؤسا وصعوبة على الجميع في مساراته ونتائجه.