الألم موجود داخلنا.. أجسادنا مصممة لاستقباله ولتحمله معنا أينما ذهبنا. يحيط بنا من كل جانب ونعيش في مفاوضات مستمرة معه نحمله عضويا فى خلايانا وعقولنا، طبيعته شديدة التعقيد والتركيب يحمل طبقات وأنماط شتى واحتمالات عديدة لأسبابه ونتائجه، هو خط الدفاع الأول للجسد ليحافظ على سلامة وجوده وليحفظ الفرد وينبهه لوجود خطأ ما يتهدد نظامه الحيوي.

تكمن صعوبته في كل مراحله.. استقباله والإحساس به والشعور بالعجز إزاء ذلك، لأنه عادة ما يشمل باقي الجسد وليس الجزء المعرض للألم فقط، ثم محاولة البحث عن سببه وإزالته ليزول، أو البحث عن وسيلة لتسكينه أو وسيلة أخرى للتعامل معه ثم التسليم بوجوده ومحاولة تخفيف آثاره، الاستسلام والتسليم التدريجي بوجوده والتخلي عن التحكم لصالحه ثم يأتى أخيرا قبول التغيير الناتج عنه. علاقة الفرد بالألم دائما هي علاقة الدلالة والقيمة لأن الناس لا يتصرفون بشكل ثابت في مواجهته ولأن الألم هو تجربة خاصة بالأساس تتأثر بدرجات متفاوتة بعوامل بيولوجية ونفسية واجتماعية عديدة.

ما هو الألم؟

تتميز العلوم الطبيعية بالتجرد والحياد، وتتسم تجاربها وتعريفاتها بالمعيارية والقابلية للتكرار وللقياس وبرغم هذا فإن من أغرب التعريفات التي قرأتها في المراجع الطبية كان هو تعريف الألم فبحسب مرجع (وول وملزاك) الطبي عن الألم يتم تعريفه كالتالي:

الألم هو تجربة حسية وعاطفية غير سارة مرتبطة أو تشبه تلك المرتبطة بتلف الأنسجة الفعلي أو المحتمل، دائما ما يكون الألم تجربة شخصية تتأثر بدرجات متفاوتة بالعوامل البيولوجية والنفسية والاجتماعية.

الألم إذن تجربة خاصة غير خاضعة للمقارنة ولا لثوابت معيارية، هو موجود لأنه موجود، فقط من يتألم هو من يستطيع أن يخبرنا بألمه وبدرجة حدته، ولهذا كانت القاعدة في الكلية أثناء دراستنا لطب الأسنان (عندما يخبرك المريض أنه يتألم فهو يتألم وعليك أن تسجل ذلك بدقة وبنفس الألفاظ التي استخدمها للتعبير عن ألمه). الألم هو تجل غريب للجسد، ولأن الجسد معرض له دوما فإنه يظل معرضا دوما للمعاناة، وبها يكون الألم معطى مهما جدا لتشكيل العالم، فبرغم صعوبة تجربته إلا أنه مهم وضروري لحماية الجسد، وميكانيزم دفاع ضد أى خطر محتمل، وبوصلة محدة لاتجاهات الحركة بعيدا عن الخطر.. قد تكون مشوشة أحيانا لأن الإنسان ليس بآلة.

كيف تستعمل السلطة الألم؟

جوهر السلطة هو فرض الطاعة، ومنذ بداية ظهور فكرة الدولة اعتمدت على القمع لتحقيق النظام، وفي عصور سابقة اعتمدت كثير من الدول على الألم الجسدي المباشر كالجلد والتعذيب والحرق كوسيلة لفرض النظام وعقاب المخالف ويحلل (ميشيل فوكو) في كتابه (المراقبة والعقاب) أن الدول الحديثة تخلت عن التعذيب الجسدي واستبدلته بالسجن كنوع من فرض النظام وطريقة للتحكم في الناس مبرزا أن فرض الألم الجسدي كطريقة لتصحيح السلوك فقد امتيازاته القديمة حتى وإن استمر العنف بطريقة ما وسيلة لحل النزاعات فى قطاعات من المجتمع وحتى بين الدول.

السجن إذن وسيلة تبدو أكثر ملاءمة من التعذيب الجسدي الشائع في القرون الوسطى، فهي تبدو من الخارج أكثر إنسانية وإن كانت تنضوي على أنواع أكثر بشاعة من الألم الجسدي فالسجن.. خاصة عند استخدامه مع (جريمة) التعبير عن الرأي هو سيطرة تامة ليس فقط على جسد المسجون بل على روحه ونفسه، وسيلة فعالة للهيمنة ليس فقط على الفرد بل على الجسد الاجتماعي وعلاقات المجتمع ككل وبهذا فهو وسيلة فعالة جدا في إخضاع الفرد والمجتمع.

التغيير بالألم المزمن

المسجون في ألم دائم مرتبط بجسده المتألم الذي يسعى السجان إلى توحيده مع روحه حتى يطالها الألم، ليس فقط جسده وروحه بل كل علاقاته مع العالم التي تخضع لرحمة الألم والرعب خاصة وهو يجهل متى ينتهي هذا الألم.

المسجون هو شخص موثق على طاولة، التعذيب تحت الرحمة الكاملة لجلاده جسدا وروحا، والألم الجسدي والمعنوي والروحي هو وسيلتها لتطهيره من آثامه الفكرية وتغيير علاقاته مع جسده ومع نفسه ومع العالم، تغيير أفكاره وهويته ومكانته وطريقة حياته، السجن هو فن إلحاق الأذى بالمسجون وحرمانه من كل شيء لأن التحكم في الحرية هو تحكم في الإنسان، وكلما طالت المدة كلما تسرب هذا الألم من الخارج إلى الداخل.

مع السجن وطول الحرمان تثور الحواس على الجسد، ويرى السجان نقاط ضعف أكبر للمسجون يستفيد منها ليس فقط في إذلاله بل في تغيير نظرته للأمور.. بعد طول حرمان من الضوء أو من الألوان تستقبل العين الضوء والألوان بطريقة مختلفة.. بعد طول حرمان من الأكل يتذوق اللسان الطعم بطريقة مختلفة.. بعد طول حرمان من لقاء البشر يتعامل معهم المخ بطريقة مختلفة.

أنت إنسان صاحب رأي مخالف تعتبره السلطة جريمة إذن سوف تستخدم السلطة الألم المزمن/السجن لتغيير أفكارك وستستخدمك أنت مرة أخرى كوسيلة لتحقيق الردع لباقي المجتمع، وبهذا تحقق السلطة الهيمنة التامة عليه. إذا كان الألم الحاد هو ميكانيزم الجسد لينبهك بوجود خطأ أو تلف في الجسم فإن الألم المزمن/ السجن هو ميكانيزم السلطة لتنبهك بأن أفكارك (تالفة) وأنها لا تقبل وجودها وأنها تراك خطرا علي المجتمع.