أصدر الرئيس عبد الفتاح السيسي، قبل أيام، قرارًا بتحديد الحدود البحرية الغربية للبلاد في البحر المتوسط. ونشرت الجريدة الرسمية نص القرار، الذي تضمن قوائم الإحداثيات الخاصة بالحدود، إضافة إلى إخطار الأمين العام للأمم المتحدة بالقرار والإحداثيات المحددة. وهو القرار الذي رفضته وزارة الخارجية الليبية في حكومة الوحدة الوطنية التي يترأسها عبد الحميد الدبيبة، معتبرة أنها خطوة أحادية تنتهك حقوق ليبيا.
نصت المادة الأولى من القرار على أن تبدأ حدود البحر الإقليمي لمصر من نقطة الحدود البرية المصرية الليبية النقطة رقم 1 ولمسافة 12 ميلًا بحريًا وصولًا إلى النقطة رقم 8. ومن ثم ينطلق خط الحدود البحرية الغربية لمصر من النقطة رقم 8. ذلك في اتجاه الشمال موازيًا لخط الزوال 25 شرقا وصولًا إلى النقطة رقم 9.
ونصت المادة الثانية على أن تعلن قوائم الإحداثيات وفقًا للقواعد المعمول بها في هذا الصدد. بينما أخطرت مصر بها الأمين العام للأمم المتحدة.
تحرك يتحرى الهدوء
بشكل هادئ، حرصت مصر على نقل رسائلها عبر القرار الأخير، متجنبة تصعيد الموقف داخليًا وخارجيًا. وقد ثبّت هذا القرار الموقف المصري الخاص بسحب الاعتراف من حكومة الوحدة الوطنية، التي يترأسها عبد الحميد الدبيبة. ذلك بعدما انتهت صلاحيتها مع انتهاء الاتفاق السياسي الذي تولت بموجبه السلطة التنفيذية في يونيو/ حزيران الماضي.
يعبر عن الهدوء المصري في الموقف الأخير كذلك، تجنب القاهرة عقد اتفاق ثنائي مع حكومة فتحي باشاغا المكلفة من البرلمان، والذي يحظى بدعم مصري، وقد كلفه مجلس النواب في شرق البلاد بتولي هذه الحكومة في فبراير/ شباط الماضي.
ربما كذلك ينبع الموقف المصري تجاه حكومة باشاغا من إدراك القاهرة أن هذه الحكومة الموازية لا تلقى الاعتراف الدولي والأممي المطلوب. ومصر بموقفها المحايد بعدم التعامل مع الحكومتين يجنبها الانخراط المباشر في صراع داخلي ليبي.
اقرأ أيضًا: قبل مفاوضات التطبيع الكامل.. قراءة في كروت لعب مصر وتركيا
ومع ذلك، فقد حاول باشاغا استغلال الخطوة المصرية لإضفاء شرعية على حكومته، عندما أظهر استعداده للتفاوض حول مثل هذه القضايا مع الدول المعنية. مع الاحتفاظ بمساحة بعيدة عن مصر (أحد الدول القلائل المؤيدة لحكومته). حيث أبدى -في رد فعل أقل حدة من الدبيبة- تحفظه على عملية ترسيم الحدود البحرية بصورة أحادية من جانب القاهرة.
على الجانب الآخر، أصدرت وزارة الخارجية في حكومة الدبيبة، بيانًا اعتبر القرار المصري انتهاكًا للمياه الإقليمية والجرف القاري لدولة ليبيا، وترسيمًا غير عادل بموجب القانون الدولي، لإعلانه من جانب واحد.
وربما وجد الدبيبة في القرار المصري فرصة جيدة للقفز على أزماته الداخلية، وتجاوز اتهامه بالسماح بانتهاك سيادة بلاده، بتسليم فتحي أبو عجيلة المريمي، إلى الولايات المتحدة لمحاكمته عن تهم بالتورط في تفجير طائرة أمريكية فوق لوكربي باسكتلندا عام 1988، وراح ضحيتها 259 قتيلًا.
لماذا الآن؟
وفق هذا المشهد وتداخلاته، يمكن النظر إلى مسألة ترسيم الحدود الغربية لمصر من عدة سياقات. إلا أن أهمها هو السياق الاقتصادي الداخلي، حيث تسعى القاهرة بتقنين الحدود البحرية غير المحسومة لا سيما مع ليبيا تلك إلى اكتشافات غازية جديدة قد تنتشلها من أزماتها الاقتصادية.
يقول وزير البترول السابق أسامة كمال، في تصريحات صحفية، إن هذا القرار سيجعل مصر قادرة على طرح هذه المناطق أمام الشركات العالمية. خاصة وأن بعض هذه الشركات كانت تتخوف وترفض التنقيب بزعم أن الحدود غير معروفة أو واضحة أو تشهد نزاعات.
ويضيف الوزير أن “الأمر الآن بات محسومًا للجميع، ومعروفًا أن هذه المناطق مصرية تخضع للسيادة المصرية ولمصر في تلك المناطق حق الصيد والبحث عن الثروات. وهذا هو المكسب الأهم والأكبر للقاهرة”.
وأوضح أن الدلائل والمؤشرات والمسح الجوي لمنطقة البحر المتوسط الخاصة بمصر، تؤكد وجود أكثر من 230 تريليون قدم مكعب غاز، على حد قوله.
رسائل دون صدام
كذلك، يبدو أن مصر تبعث بقرارها هذا رسالة أخرى إلى تركيا بأن سياسة الأمر الواقع، قد تواجه بالمثل، وأنه كما ضربت أنقرة عرض الحائط بالملاحظات المصرية، وأقدمت على توقيع اتفاقية بحرية مع حكومة الوحدة الوطنية الليبية، ومن قبلها حكومة الوفاق السابقة، فإن القاهرة بمقدورها اتخاذ خطوات مماثلة من الممكن أن تزعج المسئولين في تركيا.
وأيضًا، تريد القاهرة -على ما يبدو- التأكيد على مطالبها المتعلقة بليبيا، والتواجد العسكري التركي هناك. حيث تتمسك مصر بخروج القوات الأجنبية كافة من ليبيا.
ولا تخفي تركيا أن رغبتها في التقارب مع القاهرة نابعة في الأساس من سعي لقنص موقف مؤيد لها في البحر المتوسط. وهو ما صرح به الرئيس رجب طيب أردوغان، عقب اللقاء الذي جمعه بالرئيس عبد الفتاح السيسي مؤخرًا في قطر.
قال أردوغان إن “مطلب بلاده الوحيد” من مصر أن تقول لمن يتخذ مواقف معادية ضد تركيا في البحر المتوسط: “نريد إرساء السلام في المنطقة.. قلنا سابقًا يمكن البدء بمسار، وهذه كانت بمثابة خطوة تم اتخاذها من أجل بدء هذا المسار”، في إشارة للمصافحة التاريخية بينه وبين السيسي لأول مرة على هامش حضورهما حفل افتتاح كأس العالم الأخير بدعوة من أمير قطر تميم بن حمد.
يقول أحمد عبد الحكيم الباحث المتخصص في الشأن الدولي، في حديثه لـ”مصر360″، إن غاز المتوسط هو الملف الرئيسي لتركيا في مسار تطبيع علاقاتها مع القاهرة. وقد بعثت مصر في الفترة الأخيرة رسائل مفادها أنها ليس لديها ما يمكن تقديمه لأنقرة في هذا الملف، مشيرًا إلى أن رسائل القاهرة تضمنت تأكيدات على أن ملف التطبيع بين البلدين لابد له أن يتجاوز ملف غاز المتوسط، لأنها لا يمكنها تجاوز علاقتها مع اليونان وقبرص.
اقرأ أيضًا: مصر وتركيا.. “العقدة الليبية” لا توقف مسار استعادة العلاقات
ومع ذلك، يرى عبد الحكيم أن مصر بشكل أو بآخر تتجنب الصدام مع تركيا. وهي تبحث فقط عن حقوقها بغض النظر عن أية اعتبارات أخرى.
لذا، فقد حمل القرار المصري الأخير بترسيم الحدود البحرية الغربية مع ليبيا بين سطوره وبنوده تأكيدًا على اتباع سياسة الأبواب المواربة مع أنقرة. خاصة وأنه لم يمس بأي شكل من الأشكال الجرف القاري لتركيا، استكمالًا للنهج المصري الذي رفض المساس بالجرف القاري التركي عند توقيع اتفاقية لترسيم الحدود البحرية مع اليونان، في خطوة لاقت استحسان المسئولين الأتراك، رغم تصاعد الخلافات وقتها.
يؤكد هذا أيضًا الحديث في الجانب التركي. إذ أكدت مصادر رسمية تركية لوكالة الأناضول الرسمية، أن الحدود البحرية الجانبية التي حددتها مصر من جانب واحد مع ليبيا في 11 ديسمبر/ كانون الأول 2022 بـ 9 إحداثيات جغرافية لا تتداخل مع الجرف القاري لتركيا في شرق البحر المتوسط. وإن أشارت المصادر إلى أنه ليس من الواضح الطريقة التي تم عبرها تحديد الحدود البحرية، وما إذا كانت الظروف الجغرافية الخاصة ذات الصلة، قد تم أخذها في عين الاعتبار، وما إذا كانت قد التزمت مبدأ الإنصاف بالكامل.