تمهيد

كتاب “كرة القدم بين الشمس والظل” هو واحد من أشهر أدبيات اللعبة. فيه يستعرض الكاتب الأوروجوياني اليساري، إدواردو جاليانو، تاريخ اللعبة بشكل متفرد وسلس، ليضعك في الصورة كما لم يضعك أحد من قبل.

في الكتاب تحدث جاليانو عن تاريخ كل بطولة من بطولات كأس العالم بدءًا من 1930 وحتى 1994، مُستعرضًا أبرز أحداث العالم قبل كل بطولة بشكل سياسي ساخر وعميق، في ذات الوقت، ليضعك في الأحداث كأنك تعايشها. وفي نسخة 2022 سنحاول السير على خطى جاليانو، وإن لم ننجح فيكفينا شرف المحاولة.

مونديال 2022.. أجواء سياسية مستعرة

مضى أكثر من عقد على انتفاضات “الربيع” العربي الذي استحال خريفًا. لكن ذات المطالب التي انتفضت لأجلها الجماهير ظلت قائمة، وقام معها قيامة كل من فكّر في إعلاء صوته. كان ميراث الممالك العربية العميق من القمع والسيطرة يزداد عمقًا وترسيخًا وتفسيخًا وتلطيشًا.

جائحة تنفسية عالمية تُدعى “كورونا” أصابت العالم بالشلل وعرّت مكامن القصور في النظام السياسي والاقتصادي العالمي. وأبرزت أن “العولمة” يسهل تحولها إلى كلمة أخرى قريبة في الوزن مخالفة في المعنى، سرعان ما ستستنتجها بسهولة. انكفأ الجميع على نفسه ثم سرعان ما تحفّزت الاتجاهات اليمينية القومية المتطرفة وخطابات التمييز العنصري ورفض الآخر. بينما في العالم العربي كانت مسألة ساعات على يوم القيامة بسبب ذنوبنا.

صندوق النقد الدولي (وكالات)
صندوق النقد الدولي (ا ف ب)

تخطينا ذلك حمدا لله، وفي مصر كان برنامج صندوق النقد الدولي يزرع ويجني ثمار “الإصلاح الاقتصادي” التي دفعت بمعدلات النمو إلى حدود تاريخية استحقت إشادة المؤسسات المالية الدولية ومجلس الوزراء ووزارة التخطيط.. والأهم وزارة التنمية المحلية.

في الجوار إلى ليبيا، انتهت مخاوف اشتعال الحرب الأهلية بفشل الخليفة حفتر في السيطرة على طرابلس. لذا كانت حكومتان تحكمان وتتنازعان وتنددان وفي الخلفية العديد من الأصابع الإقليمية التي تلعب في أماكن يعف ذكرها.

لم يكن السودان -أو بالأحرى شماله- أفضل حالًا. انتفاضة شعبية أزاحت عمر البشير ولكنها لم تزح نظامه لتُبسط المؤسسة العسكرية -بقيادة عبد الفتاح البرهان- قبضتها على الحكم بالتشارك مع قوات أخرى موازية تدعى “الدعم السريع” بقيادة واحد ممن يمتلكون طُموحًا سامًا. لكن النفس الطويل للاحتجاجات الشعبية كان يجبرهم على تقديم بعض التنازلات تحيّنًا لفرصة أخرى. بينما رزح ثلث السودانيين تحت الاحتياج للمساعدات الضرورية.

لا جديد في اليمن التي أعيتها الحرب بلا آفاق للتفاؤل. بلغ عدد الضحايا من الأطفال 11 ألف منذ بداية الحرب بين “أنصار الشرعية” و”أنصار الله”. ومن نجى منهم بقي بلا تعليم أو كفاية غذائية. والأخيرة ضربت الصومال كالمعتاد فالجوع متواصل وهجمات “حركة الشباب” متواصلة، والعشائرية رائحتها تزكم الأنوف والولايات تلعب على تناقض المصالح بين القوى المهيمنة.

لبنان “الحزين” كان يعاني من أزمة اقتصادية عنيفة دفعت بالتضخم لأعلى مستوياته وبالعُملة لأدنى مستوياتها. وأصحاب الودائع اقتحموا البنوك للحصول على أموالهم الممنوعة من الصرف. لكن ذلك لا يهم فـ”السيد” باركه الله وقع اتفاقًا لترسيم الحدود البحرية مع الاحتلال الإسرائيلي -الذي لا يعترف به- ما سيجلب تدفقات دولارية إلى جيوب النخبة الحاكمة وسينقذ البلاد التي -كالعادة- تعاني فراغًا رئاسيًا. وانفجار مرفأ بيروت حمل رمزية لا يمكن تجاهلها عما قد يحدث في المرفأ الكبير.

اقرأ أيضًا: كأس العالم 2022.. كرة القدم تحت سياط السياسة

جارتها سوريا كانت أفضل حالا بكثير بعدما انقسمت إلى ثلاث دويلات. واحدة ترعاها تركيا والأخرى الولايات المتحدة والأخيرة روسيا وإيران معا حيث بشار الأسد يسير خلف فلاديمير بوتين، وقائد الحرس الثوري كلمته مسموعة عن طبيب الأسنان الذي خلع فك السوريين. والنتيجة الطبيعية كانت جوع وفقر ومخيمات وتنظيمات جهادية تتعاون مع القوى الإمبريالية بحثّا عن الشرعية.

في العراق لم يكن هناك جديد: نزاعات طائفية وفساد مستشر والحشد الشعبي وسلاح مرفوع وصعوبات في تشكيل الحكومة واعتصامات وإضرابات وتهديدات وتحالفات ونوري المالكي ومقتدى الصدر وآية الله السيستاني صمام التوازن “الثيوقراطي”.

***

حسنًا، لا تدع تلك الأخبار الحزينة تخيم على تفكيرك. هناك أخبار أخرى سعيدة: برنامج الإصلاح الاقتصادي يسير على خير ما يرام، ومؤشرات النمو في ارتفاع متواصل، والمفاوضات حول قرض جديد تُكلل بالنجاح. لذا لم يكن هناك ما يدعو للقلق سوى أمر واحد: سعر الصرف المرن، فمن مرونته كان يرتد ليلسع وجه من يحمله، وربما مناطق أخرى من جسده.

عاشت السعودية عهدا جديدا من سياسات اقتصادية وانفتاح. البعض اعتبر النهج المتبع من ولي العهد -الذي قطّع جسد صحفي معارض- انهيارا للرموز والقيم الإسلامية في المنطقة. بينما اعتبره البعض الآخر خطوة تأخرت كثيرا في الطريق إلى الحداثة بعد تأخر قرون. ولكن أحدًا لم يناقش تحول الحجاز إلى مملكة أكثر استبدادا مما كانت عليه وفرض التوجهات الدينية والاجتماعية من أعلى.

كل ذلك لا يهم لأن “الاتفاقات الإبراهيمية” بشرت بعهد جديد من السلام بين أبناء العم. المقابل؟ لا ليس إنهاء الحصار عن غزة أو وقف الضم في الضفة الغربية المحتلة أو العودة إلى طاولة المفاوضات. كل ذلك لن يجلب السلام، ما سيجلبه هو التعاون الاقتصادي والسياسي والأمني ومنتدى النقب.

من مراسم توقيع اتفاقيات إبراهيم (وكالات)
من مراسم توقيع اتفاقيات إبراهيم (وكالات)

والشريعة التي سنتها الإمارات وسار على دربها البحرين والمغرب والسودان أثارت غيظ الآخرين الذين اندفعوا في طابور “دافئ” لجني المكاسب المتوقعة وأولها الطرق على باب البيت الأبيض.

على ذكر البيت الأبيض رعى تلك الاتفاقيات رجل يدعى دونالد ترامب، وهو رجل قلما يجود الزمان به فما يفعله الآخرون عادة “تحت الترابيزة” فعله هو “فوقها”؛ لذا كان من الخطر استمرار رجل بهذه العنجهية والصراحة خاصة إذا ما تلبس بلباس المؤامرة.

خلفه جو بايدن رغم معاناته من تقدم العُمر إلا أنه كان البديل الأمثل للتخلص الترامبية. أولًا لأنه يحافظ على وعوده وإذا ما وعد بالنبذ فلن يخلف وعده، وثانيا لأنه يضع حقوق الإنسان على رأس…. أولوياته. لا تكن سيء الظن هكذا عزيزي القارئ.

انسحب بايدن انسحابًا كارثيًا بلا تنسيق مع الحلفاء (أو لنقل التابعين). لذا كان مشهد عودة حركة طالبان للسيطرة على حكم أفغانستان فارقًا في التاريخ السياسي للولايات المتحدة وللعالم. لكن طالبان عادت هذه المرة في رداء مختلف أخبرتنا أنه سيضمن حقوق النساء والأقليات وسيشكل حكومة تشمل جميع طوائف المجتمع. ولن تعود لجلد المخالفين في ملاعب كرة القدم.

لاحقًا تبين أنها مناورة وأن المُلا برادر يمكن أن يُفسح الطريق للمُلا حقاني في غيبة الزعيم الروحي هيبة الله، ففي النهاية من كان في متارف المنفى لا يستوي مع من كان في مشاق الجهاد.

عادت الصين تحت قيادة شي جين بينغ إلى العهد الإمبراطوري حيث الحكم بلا منازع وحيث الصراع على عالم متعدد الأقطاب مع الولايات المتحدة. تفوقها الاقتصادي كان يُطبخ على نار هادئة، واستراتيجيتها السياسية كانت تناسب الحكام العرب حيث لا صدح بأهمية حقوق الإنسان والدعوات للشفافية والحوكمة ولا إطلاق سراح سجناء الرأي والمعتقلين السياسيين، وبالمثل لن تجد بكين إدانة حول التطهير العرقي للإيغور.

***

هل تظن أن ما في الجعبة من صراعات انتهى؟ إذًا لم تسمع عن القيصر فلاديمير بوتين الذي شن حربا على أوكرانيا كي ينقذها من بين براثن الليبرالية الأوروبية والهيمنة الثقافية وحلف الناتو. وكأن العالم لا تكفيه جائحة وحرب باردة. لذا ارتفعت أسعار الطاقة والغذاء بقسوة ومر العالم بأزمة متجددة في سلاسل التوريد.

لكن الحكام العرب صفقوا لبوتين كثيرا حتى وإن لم يُظهروا ذلك وحتى وإن كان يتعرض للهزائم، ففي النهاية الكاريزما أهم في المقام الأول.

وتلك الأزمات كانت سببًا في لجوء مصر إلى صندوق النقد الدولي للاقتراض بعدما عطبت ثمار الإصلاح الاقتصادي ومعدلات النمو المرتفعة ولسعة الأموال الساخنة وإرشادات وزارة المالية والبنك المركزي، دون نسيان الوزارة الأهم: وزارة التنمية المحلية.

في فلسطين لم تئد”الاتفاقات الإبراهيمية” أصوات الفلسطينيين ومثابرتهم وهبّاتهم. وقبل عام ونصف من المونديال هبّت الجموع في غزة والضفة والقدس وأراضي 48 في تلاحم رمزي أعاد تسليط الضوء على جذور الاستعمار ولكنه لم ينه الانقسام رغم عشرات المؤتمرات والمصافحات والتصريحات. لذا ظهر عرين من الأسود المقاومين العابرين للفصائلية ليعيدوا إلى الأذهان أهمية العمل الفدائي ومآل المفاوضات.

لكن حكومة يمينية متطرفة غير مسبوقة في إسرائيل، كانت تنذر باشتعال الصراع أكثر فأكثر بعدما وضع بنيامين نتنياهو يده في يد خلاصيين يدعون لقتل العرب وإعادة بناء الهيكل بدلا من المسجد الأقصى وضم الضفة المحتلة.

أما النبأ السعيد فهو أن معبر رفح لم يعد يفتح لثلاثة أيام فقط لأن ثلاثة أيام لا تكفي للطوابير الطويلة للراغبين في العلاج أو التبضع أو زيارة الأهل. لذا كان هناك حرص على إراحة هؤلاء المتعبين مقابل ألف دولار فقط إذا ما ملّوا من الانتظار.

في المغرب عاشت البلاد استقرارًا تحت حكم أمير المؤمنين، استقرارًا لأوضاع الفقر والتجاهل في الريف المغربي وأقاليم أخرى، واستقرارا للفساد الإداري والحكومي واستقرارا في أسعار الحشيش الفاخر الذي يدفعك للبكاء ضحكًا ومن ثم النوم في هدوء.

هذا دون نسيان اتفاقات أمنية ودفاعية مشتركة مع إسرائيل في المعركة مع الجزائر التي قطعت علاقاتها الدبلوماسية مع جارتها وردت بإقامة مؤتمر لإنهاء الانقسام الفلسطيني بين “حماس” التي عادت للعباءة السورية الإجرامية دعمًا لـ”محور المقاومة” وبين “فتح” بقيادة الزعيم محمود عباس الذي كان عادة ما واجه صعوبة في فتح عينيه أمام الكاميرات بسبب الكمية الكبيرة من المُسكنات المتناسبة مع اقترابه من التسعين.

أمّا رجب طيب أردوغان فقد ابتلع كل إهاناته للسعودية والإمارات ومصر وتنديده للاحتلال الإسرائيلي ودعم الفلسطينيين، في مقابل أن ينهي الأزمة الاقتصادية ويستمر في حكم تركيا خمسة أعوام أخرى. ولكنه ارتجف من إمكانية الخسارة أمام عمدة إسطنبول فأصدر القضاء “النزيه” حكمًا بسجنه.

الرئيسان عبد الفتاح السيسي ونظيره التركي رجب طيب أردوغان (وكالات)
الرئيسان عبد الفتاح السيسي ونظيره التركي رجب طيب أردوغان (وكالات)

على ذكر الأزمة الاقتصادية، فإن شجرة الإصلاح الاقتصادي كانت تحتاج فقط إلى هزة قوية كي تسقط الثمار فوق رؤوسنا لأن الجائحة والحرب عطّلا قطار التنمية السريع، ومونوريل الازدهار، وكباري الرخاء. ورغم صعوبة الموقف تفتق الحل المذهل: استبدال كلمة “بيع” بـ”استحواذ”، و”التفريط” بـ”زيادة الاستثمار الاستراتيجي”. وهي خطة مبتكرة تتناسب مع “رؤية 2030”.

كان المد اليساري في أوجه بأمريكا اللاتينية ولكن على أرضية جديدة تنتفي مع عهد الأيديولوجيات. وكانت نمور آسيوية أخرى تنمو أظافرها الاقتصادية، ودول أفريقية تعود إلى زمن الانقلابات المتكررة.. كانت نصف ديمقراطيات العالم في أفول، والاستقطاب العالمي في تنامي.

ما قبل ركلة البداية

في قطر كان الحصار الخليجي قد انتهى باتفاقية مصالحة قبل المونديال بأشهر لتُفتح الأجواء أمام ملايين المشجعين. لكن الانتقادات الغربية حول بذخ الإنفاق وحقوق العُمال والحريات الشخصية -وهي انتقادات حقيقية- كان يدور في خلفيتها اتفاقات الغاز والشعور بالتفوق الأخلاقي.

وهو شعور مماثل على الجانب الآخر الذي استخدم شعارات “العادات والتقاليد الثقافية” المطاطية والتي كذلك هي مطية الأنظمة الاستبدادية التي تركبها كلما تعرضت للضغط الحقوقي مبرزة شعار “الخصوصية الثقافية” لتبرير انتهاكاتها.

والأجواء لم تكن صالحة لتفكيك هذه القضايا المتداخلة. إذ كانت ازدواجية المعايير الغربية بعد الغزو الروسي لأوكرانيا ماثلة في أذهان المواطن العربي الذي صدّعوه بفصل الرياضة عن السياسة كلما طالب باتخاذ موقف ضد الاحتلال الإسرائيلي. بينما صراعات الهوية والثقافة في ذروتها تماشيًا مع العالم الجديد الذي لا يدور حول الأيديولوجيات بل الأعراق والثقافات والديانات.

اقرأ أيضًا: الديمقراطية والكرة.. هل من علاقة على أرض الملعب؟

لذا كانت الأصوات الشعبوية هي من يُستمع إليها وخطاب الكراهية هو الذي يتصدر ما بين العربي القادم من القرون الوسطى والرجل الأبيض الاستعماري الذي يحدثنا عن الأخلاق بعدما امتص دماءنا ودعّم مُستَبدّينا والآن يريدنا أن نتحول إلى مثليين. ببساطة، وضع الجميع الجميع في بوتقة واحدة بتنميط مبالغ دون إدراك التباينات والمشتركات.

سيطر هذا السياق على بدايات المونديال حيث استعدت منتخبات أوروبية لإعلان دعمها لمجتمع الميم قبل أن تتخلى عن ألوانه خوفًا من اللون الأصفر الذي أبرزه الفيفا، والذي كان رئيسه يخطب في قومه وكأنه مارتن لوثر كينج أو تشي جيفارا أو مصطفى بكري.

على ذكر مصطفى بكري، كان الإعلاميين الإسرائيليين الذين يغطون البطولة يدعون أنهم من دول أخرى خوفا من بطش الجماهير العربية التي أكدت لهم أن التطبيع سيبقى على مستوى الأنظمة فقط.

المنتخب الوحيد الذي صمم على إبراز موقفه كان المنتخب الألماني الذي وضع لاعبوه أيديهم على أفواههم كناية عن إجبارهم على الصمت. وهنا أثيرت التساؤلات حول عدم اتخاذ نفس الموقف في مونديال روسيا -التي تحظر المثلية وتحتل القرم وتقصف السوريين- أو في أولمبياد بكين.

الجميع تحدث عن ألمانيا الاستعمارية والنازية والداعمة للصهيونية والعنصرية، دون أن يتذكر أحدهم أنها كانت أكثر بلد غربي استقبل لاجئين سوريين. لكن بعيدًا عن الإعلام والمؤسسات، امتزجت الثقافات المختلفة في “سوق واقف” وتبادلت الغناء والتشجيع والتعرف، ونالها من كرم الضيافة العربي حظًا ومن التعرف على الآخر نصيبًا.

إثارة البدايات والنهايات

مع صافرة البداية، بات منتخب قطر أول مستضيف يخسر مباراته الافتتاحية وتبعها بهزائم أخرى رغم الاستعدادات المكثفة واللعب في كل البطولات الدولية والتتويج ببطولة آسيا. طُبقت تقنية التسلل شبه الآلي لأول مرة لتنضم إلى تقنية حكم الفيديو التي سبقتها في مونديال 2018. وظهرت كرة “الرحلة” التي استخدم بها حساسات إلكترونية وكاميرات دقيقة.

رفض لاعبو إيران أداء النشيد الوطني احتجاجًا على قمع الاحتجاجات الشعبية في بلادهم المستمرة منذ أشهر. لكن تهديدات الحرس الثوري أجبرتهم لاحقًا على ترديد النشيد، بينما حملت المدرجات الكثير من لافتات الاعتراض على نظام الملالي. وشهدت مباراتهم مع الولايات المتحدة زخمًا سياسيًا لم يأبه له المحتجون في طهران وباقي المدن.

وضع لاعبو صربيا في غرفة ملابسهم خريطة لبلادهم تضم كوسوفو، فرد جرانيت تشاكا الذي تعود أصوله لها ويلعب مع سويسرا بارتداء قميص لزميله يحمل اسم يشاري في إشارة إلى آدم يشاري وهو بطل قومي في كوسوفو وقاد حروب الانفصال عن يوغسلافيا.

سجل المهاجم السويسري، بريل إمبولو -المولود في ياوندي- هدفًا أمام بلده الأصلي الكاميرون ورفض الاحتفال. ولعب إينياكي ويليامز مع منتخب غانا، بينما شقيقه نيكو مع منتخب إسبانيا.

عمرت البطولة بالكثير من المفاجآت. تفوقت اليابان على إسبانيا وألمانيا لتودع الأخيرة البطولة مجددا من دور المجموعات. فازت السعودية على الأرجنتين وقد كانت الهزيمة الوحيدة لبلاد الفضة في المونديال لذا لم يعد يتساءل أحد “ميسي وينه”. سقطت فرنسا أمام تونس، واكتسحت المغرب الجميع في طريقها إلى نصف المونديال لأول مرة في تاريخ العرب وأفريقيا لتنبئنا بعالم كروي متعدد الأقطاب مستقبلًا.

صنع مدرب أسود الأطلس، وليد الركراكي، مزيجًا فريدًا متعدد الثقافات من اللاعبين ذوي الأصول المغربية الذين يلعبون في كبرى الأندية الأوروبية. استفاد من مراكمة الخبرات التي ابتدأت مع عصر هيرفي رينار وتواصلت مع وحيد خليلوزيتش الذي رحل قبلها بثلاثة أشهر رغم التأهل بسبب صداماته مع الجميع.

منتخب المغرب في مونديال قطر (وكالات)
منتخب المغرب في مونديال قطر (وكالات)

مع ذكائه واجتهاده التكتيكي، أعاد الركراكي الثقة في نفوس لاعبيه المتوجسين ولجأ إلى الحضور العائلي للاعبيه الذين زرعت أمهاتهم المهاجرات فيهم الارتباط بالبلد الأم. والأم في الثقافة المغربية لها وزنها الذي يظهر في أغانٍ مثل “ألو ألو الواليدة.. صيفطي لعاقة المغرب باقة”، أي أن المشجع يهاتف أمه ويطالبها بمده بالمال لأن المغرب باقٍ في البطولة. هل تجد أغاني مشابهة في عالمنا العربي؟ لا أظن.

لأول مرة: كان دور الـ16 ممثلا بجميع القارات، وأدارت امرأة -ستيفاني فرابورت- مباراة تحكيميًا. وبات السنغالي أليو سيسيه أول أفريقي يصل إلى ثمن النهائي لاعبًا ومدربًا. شهدت مباراة الأرجنتين والمكسيك أعلى حضور جماهيري (ما يقارب 89 ألف مشجع) منذ نهائي 1994.

كان كريستيانو رونالدو أول لاعب يسجل في خمس نسخ مختلفة من المونديال رغم أن هدفه الوحيد كان من ركلة جزاء مشكوك في صحتها، بينما احتفاله بهدف آخر لم يشفع له باحتسابه لأنه لم يلمس الكرة. ودع البطولة باكيًا بعد الخسارة من المغرب. وهي ذات الطريقة التي غادر بها نيمار بعد صعقة كرواتيا لنفتقد الرقصات البرازيلية الجميلة.

عادل هاري كين رقم واين روني كهداف تاريخي للإنجليز لكنه أهدر ركلة التعادل مع فرنسا في الوقت القاتل ولم تعد الكأس للمنزل. بينما أوليفييه جيرو أصبح هدافًا تاريخيًا للديوك الفرنسية. ولكنها مسألة وقت قبل أن يتجاوزه كيليان مبابي الذي توج هدافًا بالبطولة، وبات أول من يسجل هاتريك في نهائي المونديال منذ جيف هيرست في 1966.

بات ليونيل ميسي أكثر لاعب مشاركةً في مباريات كأس العالم برصيد 26 مباراة. وأصبح الهداف التاريخي للأرجنتين في كأس العالم. لكن تلك الأرقام القياسية لم يكن ليصبح لها قيمة لولا حارس مجنون يُدعى إيمليانو مارتينيز أعاد الفرنسيين إلى دكتهم بعدما نزلوا الملعب للاحتفال.

أخيرا توج البرغوث بالمونديال -رفقة مجموعة من اللاعبين الذين كانوا أطفالا خلال مشاركاته السابقة وأملوا في تحقيق حلمه- في مباراة ملحمية تاريخية أمام فرنسا حبست الأنفاس وأرهقت الأعصاب وأعلنت إشراق الشمس الذهبية من جديد على عالم المونديال الذي ودعناه لآخر مرة كما عرفناه. فمن النسخة المقبلة سيشارك 48 منتخبًا بدلا من 32.

وستبقى صورة الملك ميسي رافعًا الكأس الذهبية بالبِشت العربي صورةً أيقونية خالدة في الأذهان.

تمت في الثامن عشر من ديسمبر/كانون الأول 2022.