في مطلع عام 2017، وبعد أسابيع من موافقة صندوق النقد الدولي على طلب مصر للحصول على قرض بقيمة 12 مليار دولار، أعلن طارق عامر محافظ البنك المركزي حينها أن مشكلة النقد الأجنبي في مصر «انتهت وأصبحت تاريخا بلا عودة».
وفي مؤتمر صحفي عقده بمقر مجلس الوزراء، شرح عامر كيف تمكنت سياسات الحكومة من حل مشكلة النقد الأجنبي، وذلك بفضل إجراءات برنامج الإصلاح الاقتصادي الذي يتم تنفيذه بنجاح، لافتا إلى أن مصر حصلت على «شهادة ثقة من المؤسسات المالية الدولية»، إذ إن برنامجها الاقتصادي يسير في الاتجاه الصحيح.
تعبير «شهادة ثقة في الاقتصاد المصري» أعيد تداوله على نطاق واسع في كل الدوائر، بدء من فرق الخبراء الذين يتم تدوريهم على منصات الإعلام ليمارسوا مهامهم في تضليل الناس، مرورا بنواب البرلمان وصولا إلى شريف إسماعيل رئيس الوزراء حينها الذي أكد في أكثر من مناسبة أن «موافقة المجلس التنفيذي لصندوق النقد الدولي دليل ثقة في البرنامج الاقتصادي المصري».
مرت 6 سنوات على حصول مصر على قرض الـ 12 مليار دولار، ثم حصلت مصر بعدها على قرض آخر بقيمة 2.77 مليار دولار عام 2021 لتجاوز تداعيات أزمة انتشار فيروس كورونا، وقرض ثالث ضمن برنامج الاستعداد الائتماني بقيمة 5.2 مليار دولار.
وبخلاف هذه القروض حصلت مصر في أغسطس قبل الماضي على دعم بقيمة 2.8 مليار دولار من مخصصات السحب الخاصة التي وزعها الصندوق على الدول الأعضاء من أجل مواجهة تداعيات كورونا، والتي تسهم في دعم الاحتياطات الدولية في البنك المركزي.
ما يعني أنها حصلت على أكثر من 20 مليار دولار كقروض من صندوق النقد الدولي الذي وافق مجلسه التنفيذي الجمعة الماضية على منحها قرض جديد بـقيمة 3 مليار دولار شريطة التزامها بتنفيذ «حزمة شاملة من السياسات الهادفة إلى الحفاظ على الاستقرار الاقتصادي الكلي، واستعادة الاحتياطيات الوقائية، وتمهيد الطريق نحو تحقيق نمو شامل بقيادة القطاع الخاص».
«شهادة الثقة» المزعومة سمحت لمصر بالحصول على قروض ومنح أخرى، قيمتها تضاعف ما حصلت عليه من الصندوق الذي منحها ضوء أخضر للاستدانة من غيره.
بيان المجلس التنفيذي لصندوق النقد كشف أن مصر ستصرف دفعة فورية من القرض الجديد بقيمة 347 مليون دولار فقط لـ«المساعدة في تلبية ميزان المدفوعات ودعم الموازنة»، وهو ما خيب آمال وزير المالية محمد معيط الذي كان يتوقع حصولنا على 750 مليون دولار كدفعة أولى من القرض
حزمة السياسات التي طلب الصندوق من مصر الالتزام بها لضمان دفع باقي دفعات القرض على أربع سنوات تضمنت:
- التحول الدائم إلى نظام سعر الصرف المرن.
- تنفيذ سياسة نقدية تهدف إلى تخفيض معدلات التضخم تدريجيا.
- الضبط المالي وإدارة الدين لضمان تراجع نسبة الدين العام إلى إجمالي الناتج المحلي واحتواء إجمالي الاحتياجات التمويلية.
- تعزيز شبكة الأمان الاجتماعي لحماية الفئات الضعيفة.
- إدارة المشروعات الاستثمارية الوطنية بما يحقق استدامة المركزي الخارجي والاستقرار الاقتصادي.
- إجراء إصلاحات هيكلية واسعة النطاق لتقليص بصمة الدولة، وضمان المنافسة العادلة بين جميع الكيانات الاقتصادية، وتسهيل تحقيق النمو بقيادة القطاع الخاص.
ورغم إعلان الصندوق عن حزمة من السياسات «الشروط» لحصول مصر على القرض، إلا أن الحكومة كعادتها أكدت في بيانها أنها توصلت للاتفاق « دون أى شروط أو أعباء إضافية»، وهو ما يضيف للاقتصاد المصرى «شهادة ثقة جديدة ويعطى كذلك إشارة إيجابية للأسواق المحلية والخارجية، ويعطى دفعة قوية لتشجيع الاستثمارات والتصدير وحركة التجارة الدولية مع مصر».
حتى هذه اللحظة لم يتكشف للرأي العام تفاصيل المفاوضات التي جرت خلال الشهور الماضية والتي انتهت بموافقة الصندوق على طلب القرض المصري، فحكومتنا لم تعتد مكاشفة شركائها السياسيين والاجتماعيين بخططها، وتعتمد عادة قاعدة تهميش الشعب واستبعاده من المشاركة في اتخاذ القرار باعتبارها أفهم وأقدر منه على صناعة السياسة واتخاذ القرارات.
السرية التي تفرضها الحكومة على تفاصيل جولات المفاوضات مع الصندوق لن تدوم كثيرا، فطبقًا لمعايير الشفافية التي يتبعها المجلس التنفيذي للصندوق، تُنشر كل الوثائق الخاصة بالإقراض خلال مهلة من 14 حتى 28 يوم عمل كحد أقصى منذ الموافقة النهائية على القرض.
لا جديد بين ما بشر به رئيس الحكومة السابق شريف إسماعيل ومحافظ البنك المركزي السابق طارق عامر، وما تبشرنا به الحكومة الحالية، والفروق ضيئلة بين ما طرحه المجلس التنفيذي لصندوق النقد عندما وافق على منح مصر قبل 6 سنوات قرض بقيمة 12 مليار دولار وما أعلنه قبل أيام عندما وافق على منحنا قرض الـ3 مليار دولار، فباستثناء ما ذكر عن ضرورة بيع الأصول «تقليص بصمة الدولة» تكاد تكون العبارات الوارد بالبيانين مكررة.
وكما أن قيمة القرض السابق وما تلاها من قروض ومنح سواء من الصندوق أو من الدول والمؤسسات المالية الدولية تم إهداره في غير محله وسقطت مصر في فخ الاستدانة والاقتراض، وصار هم الحكومة الأول هو سداد أعباء الديون من أقساط وفوائد، فليس من المنتظر أن يضيف القرض الأخير المشروط أي جديد على أداء الاقتصاد المصري، اللهم إلا أعباء جديدة وفوائد جديدة وتعويم جديد للعملة المحلية وارتفاع في معدلات التضخم إلى آخر سلسلة الفشل الاقتصادي المحفوظة.
مسلسل التضليل المتعمد كما هو لم ولن يتوقف، أخفقت السلطة في إدارة موارد الدولة وفشلت في ترتيب أولويات الإنفاق، واعتمدت على الديون في سد العجز، وأسهب مسؤولوها في الإدلاء بتصريحات «خاوية» عن تحسن وشيك وانفراجة قريبة وحملوا المواطن الذي لا يملك من أمره شيئا مسئولية التدهور، ذلك أنه تجرأ وخرج قبل عشر سنوات ليطالب بحريته وكرامته.
الأزمة تستحكم والحلقة تضيق والمواطن المغلوب على أمره يدفع وحده فاتورة فشل الإدارة من مدخراته وقوته وقوت أولاده، وعندما يصل أنين نوبات الغضب الاجتماعي إلى السلطة لا تجد أمامها إلا شماعة الأزمة المالية العالمية والحرب الروسية الأوكرانية وجائحة كورونا لتعلق عليها متواليات الفشل والإخفاق.
فقد الجنيه خلال هذا العام ما يقرب من نصف قيمته، وبلغت معدلات التضخم 21.5% بحسب البيانات الرسمية، واقترب الدين الخارجي من حد 160 مليار دولار، واختفت العديد من السلع من الأسواق، ولاتزال السلطة تبشرنا بالرخاء وتعدنا بأن القادم أفضل وتطلب من المصريين انتظار التدفقات المالية الخارجية التي ستنهال على بلادنا بعد نجاحها في الحصول على شهادة ثقة جديدة من صندوق النقد.
أهدرت السلطة خلال السنوات الست الماضية المليارات في تنفيذ العديد من مشروعات لم توضع لها دراسات جدوى ولا يعرف لها أحد مردود اقتصادي على الأقل في المدى المنظور، وراكمت الديون على الدولة، وأعطت المؤسسات الدولية المانحة الفرصة لتملي شروطها كي تمنحها قروض جديدة، ومع ذلك لاتزال تتباهى بنجاحها في تنفيذ برنامج الإصلاح الاقتصادي الذي وضع معظم شرائح الشعب المصري على حافة الفقر.
باعت السلطة القلاع الصناعية التي تم تدشينها في ستينيات القرن الماضي بدعوى أنها مشروعات خاسرة يستحيل إصلاحها، وسمحت لدول ومستثمرين أجانب بالاستحواذ على مشروعات رابحة، وتوشك أن ترتكب خطيئة بيع مشروعات وأصول تمس عصب الأمن القومي بدعوى «التطوير والمساهمة في في التنمية الاقتصادية المستدامة»، بحسب ما جاء في مشروع تعديل قانون نظام هيئة قناة السويس، الذي يناقشه البرلمان هذه الأيام، والذي يتيح لهيئة القناة إنشاء صندوق يسمح بـ«شراء وبيع وتأجير واستئجار واستغلال الأصول الثابتة والمنقولة والانتفاع بها».
مسلسل الاستدانة وبيع الأصول يُذكر بما جرى في مصر قبل نحو 150 عاما، حينما تسلم الخديوي إسماعيل حكم مصر عام 1863 وكانت ديونها لا تتجاوز 11 مليون جنيه استرليني وعندما تم عزله في 1879 وصلت ديون الدولة إلى 127 مليون استرلينى، وبلغ حجم خدمة الدين السنوية ما يساوى نحو ٨٠٪ من إيرادات الدولة، لينتهي الأمر بوضع موازنة الدولة تحت الرقابة الأجنبية ثم سقوط الدولة كلها في قبضة الاحتلال الإنجليزي لنحو 70 عاما.
في كتابه «اعترافات قرصان اقتصادي.. الاغتيال الاقتصادي للأمم»، يشرح الخبير الاقتصادي الأمريكي جون بيريكنز كيف تستغل الولايات المتحدة مؤسسات التمويل الدولية لتخضع الدول النامية فتتحكم في قرارها وتضمن ولائها.
بريكنز والذي عمل في إحدى الشركات المالية الأمريكية الكبرى بوظيفة «قاتل اقتصادي» يشرح في كتابه الذي نشر عام 2004 أسلوب واشنطن في السيطرة على دول العالم الثالث «من أهم الوسائل التي تساعد قراصنة الاقتصاد لإتمام مهامهم- بجانب التقارير المزيفة والرشاوى وكل تلك الأشياء- هي مؤسسات الأمم المتحدة المتمثلة في صندوق النقد الدولي، البنك الدولي، ومنظمة التجارة العالمية».
«الغريب أن كل الدول التي زعمت تلك المؤسسات أنها كانت تساعدها وتُقدم لها يد العون يتدهور حالها؛ فالدول الفقيرة تزداد فقرًا، وشعوبها الجائعة تزداد جوعًا.. لا تمثل تلك المؤسسات إلا وسيلة تساعد القراصنة في القيام بمهامهم»، يضيف بريكنز، مشيرا إلى منظومة الشركات الكبرى المسيطرة على اقتصاد العالم تقوم بـ«نهب وتدمير اقتصاد الدول النامية، لاستمرار تبعيتها للسياسة المالية العالمية، والترويج للمفاهيم الخادعة مثل تحرير التجارة وحقوق المستهلك».
أسقطت السلطة الدولة في فخ الاقتراض والاستدانة وسلمت قرارها إلى «قراصنة الاقتصاد» غير عابئة بتبعات هذا الطريق، ومع ذلك تصر على المكابرة والإنكار، فيبشر رجالها بتحسين الأوضاع وفقا لأرقام وبيانات يعاد فكها وتركيبها وتصديرها عبر منصات الإعلام المحلية التي فقدت ثقة المواطنين بسبب تبنيها دائما الرؤية الحكومية.
لا سبيل للخروج من دائرة الأزمات المستحكمة التي حلت على الدولة، إلا باحترام إرادة الشعب وحقه في اختيار سلطة تحكم وتدير على قاعدة أن دورها وواجبها المقدس هو العمل على إرضاء المواطن، واختيار برلمان يمارس نوابه دورهم في الرقابة على أداء السلطة وإصدار تشريعات تنظم حياة الناس، وحقه أيضا في وجود صحافة حرة تعبر عنه وتراقب له عمل مؤسسات الدولة وتنقل له ما يدور ويجري داخل كواليسها.