عرفت مصر موجتين من التغيير السياسي في 25 يناير 2011 ثم في 30 يونيو 2013، ثم هي اليوم تقف على أعتاب موجة ثالثة للتغيير مع وصول الجمهورية الجديدة إلى حالة من انسداد الأفق تشبه ما كان قبل يناير وما كان قبل يونيو، ومن البداهة -بالضرورة- ألا تكون الموجة الثالثة استنساخا للموجتين السابقتين حتى لا تؤول إلى المصير ذاته. فالموجة الأولى في 25 يناير 2011 كانت خليطا من ثلاثة مكونات: ثورة شعبية، لقيت تأييدا عسكريا، مثلما لقيت ترحيبا دوليا وإقليميا. كذلك فإن الموجة الثانية بدأت احتجاجا شعبيا، ثم انقلبت عملا عسكريا، مع دعم خارجي بعضه إقليمي وبعضه دولي.

الموجتان جاءت كل منهما بنتائج عكسية للمأمول منهما، كلتاهما جاءت بنخب غير جاهزة للحكم، مع فارق أن نخبة الإخوان الذين جاءوا للحكم بعد 25 يناير صعدوا عبر انتخابات حقيقية لا تزوير فيها، وصحيح أنهم كانوا مستجدين على الحكم لكن كانت لهم خبرات طويلة في المعارضة، كانوا مستجدين على ممارسة السلطة لكن لم يكونوا طارئين على العمل السياسي، فقد كان لهم باع عريض طوال عهدي السادات – مبارك في الاتحادات الطلابية ونوادي التدريس بالجامعات والنقابات والبرلمان وعموم ما في المجال العام من أنشطة سياسية.

لكن نخبة الحكم بعد 30 يونيو كانوا مستجدين على الحكم والسياسة والحياة العامة بكاملها، عبر انتخابات لا تختلف في شيء عن الاستفتاءات المفبركة التي عرفتها مصر منذ قيام حكم الضباط بعد ثورة 23 يوليو 1952، ومثلهم مثل الإخوان جاءوا بغير تجهيز سابق ولا تأهيل كاف، فساروا بعد 30 يونيو كما سار الإخوان بعد 25 يناير، كما سار مشروع التوريث بقيادة جمال مبارك ولجنة السياسات في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، ساروا -الثلاثة- على خطى الليبرالية الجديدة، فوصل مشروع التوريث إلى حائط مسدود بعد أقل من عشر سنوات على ظهوره، ثم انقطعت أنفاس حكم الإخوان بعد اثني عشر شهرا من قيامه حيث تآمر عليهم الجميع تماما مثلما تآمروا على الجميع، تآمروا على مبارك ولم يزدهروا في عهد -بما في ذلك ربيعهم في العهد الاستعماري 1928 – 1948- مثلما ازدهروا في عهد مبارك من كل الوجوه المالية والسياسية والاجتماعية.

كان عهد مبارك هو العصر الذهبي للإخوان، وكانت نهاية مبارك نهاية صعودهم وهم لا يعلمون، ولم يكن استحواذهم على رئاسات الجمهورية ومجلس الشعب ومجلس الشورى ومجلس الوزراء غير تتويج وترجمة أمينة لازدهارهم الاستثنائي في عصر مبارك. أخذ حكم ما بعد 30 يونيو 2013 دفعة جماهيرية مؤقتة بفعل ما تركته هجمة الإخوان على الدولة والمجتمع من حساسيات لدى قطاعات واسعة من الشعب، لكن هذه الدفعة الجماهيرية ظلت تتقلص حتى وصلت إلى نقطة الصفر مع التطبيق العملي لحكم ديكتاتورية جديدة -تحت اسم الجمهورية الجديدة- حكمت السياسة بالسجون، وأدارت الاقتصاد بالديون، وأفقرت الملايين، واضطربت مالية البلاد تحت إدارتها بما يفوق اضطرابها تحت حكم الخديو إسماعيل 1863 – 1879.

تعيش مصر -وقت كتابة هذه الأسطر في العشر الأواخر من ديسمبر 2022- انسدادا سياسيا واضطرابا اقتصاديا وغليانا اجتماعيا وفقدانا للبوصلة وانعداما للأمل الذي يُبصر الناس من نوافذه صورة المستقبل. هذا الانسداد سبق وحصل قبل موجة التغيير الأولى في 25 يناير 2011، كما سبق وحصل عند موجة التغيير الثانية في 30 يونيو 2013، مع فارق أن نخبة ما قبل يناير كانت قد منحت مصر ثلاثين عاما من الاستقرار والأمن وتحسن مستويات معيشة الكثيرين من المصريين.

لكن مع طول البقاء لثلاثة عقود كاملة فإنها كانت قد شاخت ثم تحللت ثم انقسمت ثم عجزت عن الاستمرار فلم يعد في مكنتها التمديد للرئيس الذي نحلته الشيخوخة، ولم يعد في مقدورها توريث النجل الذي فقد القبول الشعبي، ولو كانت نخبة ما قبل يناير استجابت لدعوات ومناشدات الإصلاح بتعيين نائب لرئيس الجمهورية والتوقف عن تزوير الانتخابات وإلغاء الحكم بالطوارئ الذي دام ثلاثين عاما متواصلة، لو كانت استجابت لما كانت هناك ضرورة لثورة مثلما حدث في 25 يناير حيث سقط الرئيس والتوريث ورجالهما معا. كذلك لو كانت نخبة ما بعد 25 يناير أي نخبة الإخوان قد سعت لنوع من التوافق الوطني بحيث تستوعب ما يمكن استيعابه من القوى الوطنية لما ظهر النظام على أنه تمثيل لجماعة وليس مظلة وطنية لشعب بكل مكوناته المختلفة.

لو استجاب نظام مبارك لدعوات الإصلاح لما كان هناك مبرر لما حدث في 25 يناير 2011، وكذلك لو اتسعت صدور الإخوان لباقي مكونات البلد لما كان هناك مبرر لما حدث في 30 يونيو 2013.

الآن، وقد عاد الانسداد السياسي والاضطراب الاقتصادي والغليان الاجتماعي إلى ما هو أشد مما كان عليه في يناير ثم في يونيو، فإن السؤال هو: كيف المخرج دون تكرار ما حدث في الموجتين السابقتين، أي دون نزول شعبي واسع للجماهير في الميادين والشوارع، أي دون نزول واسع للقوات المسلحة، أي دون تدخل من قوى إقليمية ودولية في تفاصيل الشأن الوطني المحض؟

الجواب باختصار هو: إنجاز ما نكص عنه نظام ما قبل يناير 2011 وهو الاستجابة لإصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية جادة ولا أقول حادة. ثم إنجاز ما لم ينجزه الإخوان وهو بناء توافق وطني عام يفتح صدره لكل من يقبل بالحكم المدني الديمقراطي كصيغة عملية للحكم لا كأديولوجيا سياسية.

الاستجابة للإصلاح تبدأ من الامتثال للدستور،  وهو كفيل -حتى بعد تعديله في ربيع 2019- بتمكين المصريين من اختيار رئيس جديد غير الرئيس الحالي، عبر انتخابات ديمقراطية، لا تكرر انتخابات الرئاسة في 2014 ولا في 2018 فهذه وتلك كانت استفتاءات عامة لكن في شكل انتخابات، هذه وتلك جرت تحت نظريات الاستدعاء وكمل جميلك ورجل الضرورة، وهي نظريات ثبت ما فيها من خطأ محض، وكما يقول مونتسكيو 1689 – 1755 “لا تستحق أن تكون دولة تلك التي تستجدي من أحد مواطنيها أن يتولى إنقاذها.

تفعيل الدستور القائم لتمكين المصريين من انتخاب الرئيس القادم عبر انتخابات رئاسية نزيهة هو المدخل الأول للإصلاح، ومازال في الوقت متسع، ثمانية عشر شهرا تكفي لتجهيز المصريين ليروا النور بعد سنوات ظنوا الظلام فيها قاحلا سرمديا فأظلهم دون نية في أن ينقشع من فوق الرؤوس ومن ثنايا النفوس.

وبالبداهة، فإن اختيار رئيس -بالديمقراطية- من شأنه إعادة تشكيل الواقع السياسي من حيث برلمان يمثل الشعب بدل برلمانات الجمهورية الجديدة التي جاءت على مقاسات الحاكم وبتفضيلاته وتفصيله، ثم نهج سياسات اقتصادية واجتماعية غير الليبرالية الجديدة التي انزلقت إليها الجمهورية الجديدة ومن قبلها الإخوان ومن قبلها جمال مبارك والتوريث ولجنة السياسات، ثم ذلك كله من شأنه أن يفضي إلى حوار عام لبناء عقد اجتماعي جديد غير العقد الراهن القائم على القهر من جانب الحكام والخضوع من جانب المحكومين.

من شأن العقد الاجتماعي الجديد أن يضع نهاية لأيديولجيا الجمهورية الجديدة وهي أيديولجيا تقوم على أن الرئيس فوق الدولة، وأن الدولة فوق الشعب، وأن الشعب فوق مستبعد مهمش فوق الرصيف، وهذا من تقاليد ديكتاتوريات دولة 23 يوليو 1952، ثم الجمهورية الجديدة -بعد وصول الإخوان للحكم- زادت عليها بأن جعلتها لا مجرد صيغة للحكم ولكن عقيدة وطنية وسياسية في قلبها الجيش والشرطة لا كمؤسسات حرب وبوليس لكن كجهات سياسة وسيادة وحكم ووصاية وإدارة ورعاية سلطوية لأدق التفاصيل والقرارات في حياة المصريين.

هذا الخطأ من الجمهورية الجديدة، سبقه خطأ الإخوان حين جعلوا من الدين أيديولوجيا ثم جعلوا من الجماعة الراعي الشرعي لهذه الأيديولوجيا، فكان الصدام مع غيرهم ممن يختلفون معهم أمرا حتميا.

فإذا تحررنا من اعتبار الجيش أيديولوجيا وعقيدة سياسية، أمكن العودة إلى الوضع الطبيعي وهو: الجيش قلعة حرب لا قصر حكم، جبهة قتال لا بورصة مال، مدرسة فداء لا شركة بيزنس، دار عسكرية لا جهة سياسية، وذلك إذا تم الاستقرار على هذا، وعاد الجيش ليكون بيت القتال المحترف الذي ينأى بشرف رسالته المجيدة عن معترك السياسة.

-ماذا منع مبارك أن يستجيب لدعوات الإصلاح وكانت في استطاعته ولم تكن تكلفه الكثير؟.

– ماذا منع الإخوان أن يصنعوا التوافق وكان في مصلحتهم قبل مصالح غيرهم وكان الضامن الوحيد لحماية الأغلبية التي حصدوها في الانتخابات؟

– ماذا دفع الجمهورية الجديدة إلى تأسيس ديكتاتورية أشد قسوة من كل ما قد سبق من ديكتاتوريات؟ وماذا منعها ومازال يمنعها من إصلاحات ديمقراطية حقيقية؟

أولا: مبارك هو الأطول عهدا بين حكام مصر الحديثة بعد محمد علي باشا، ثم هو الأكثر توسطا واعتدالا في الإحساس بالذات وتضخمها -على الأقل في العلن ومواجهة الجمهور والظهور على الشاشات- ثم هو بارد الدماغ ثقيل الأعصاب لا يظهر عليه الاستفزاز ولا الغضب ولا يستخفه الفخر ولا العجب ولا الفرح، ثم هو تفادى زعامة عبد الناصر مثلما تفادى تمثيل السادات وآثر أن يبدو رجلا عاديا من عامة الناس، لا يمتاز عنهم بثقافة ولا موهبة ولا امتياز طبقي، وقد جند في نظامه رجال أكفاء من داخل جهاز الدولة، لكن مع طول البقاء صار ملكا، بمعنى الحضور السياسي للملكية الوراثية المستقرة، تلاشت الجمهورية في أواخر عهده، صار القصر الجمهوري أقرب ما يكون إلى بلاط ملكي، والعائلة ملكية، ورجاله باتوا حاشية في البلاط، لا هو يستغني عنهم، ولا هم يستغنون عنه، الصيغة بكاملها دخلت في وهم نسجه طول البقاء، وضرب عليهم الوهم ظلاما أفقدهم البصر والبصيرة، لم يفيقوا منه حتى عصر الجمعة 28 يناير 2011 حيث زحفت الشرطة من أمام حشود المتظاهرين، زحفت الشرطة فانكشف الوهم الكبير، ظهر القصر الجمهوري ليس قصرا ملكيا لكن قصرا من رمال متحركة غاصت فيه أقدامهم حتى واراهم تراب التاريخ وطوى الزمن صفحتهم.

هذا الوهم الملكي صد مبارك عن الاستجابة لدعوات الإصلاح، وكلها كانت تنطلق من الاعتراف بشرعيته ولا تنكرها ولا تتجاوزها، وبدلا من الاستجابة أمعن في الملكية ولم يمانع من ظهور نجله كأمير ملكي يحكم ويملك في حكم وملك أبيه، الفرق الوحيد بين الملك والأمير هو أن رجال الملك كانوا الحرس القديم، بينما رجال الأمير -ولي العهد الوريث – من رجال الحرس الجديد من الأجيال الشابة الذين دخلوا الوزارة والحزب ولجنة السياسات.

أمام واقع سياسي غير منطقي مثل هذا، كانت ثورة 25 يناير 2011 أقل واجب يمكن أن يقوم به الشعب، ليقوم اعوجاج الدولة ويصوب انحرافها عن الجادة ويلطمها على أصداغها لعلها تفيق من غيبوبتها. لكن مباغتة الثورة أسقطت النظام ثم تركت فراغا هي غير جاهزة لأن تتعامل معه ناهيك عن أن تملأه.

ولو كان مبارك استجاب لدعوات الإصلاح ، ولم يظهر مشروع التوريث ، كان بقي في الحكم إلى آخر يوم في حياته.

ثانيا: صد الإخوان عن صناعة توافق وطني أربع مصدات: الأول أنهم ظنوا أن الأغلبية الانتخابية تكفي، رغم أنهم فازوا بأكثر قليلا جدا من نصف عدد من أدلوا بأصواتهم وهم ربع عدد من له حق الانتخاب. الثاني: أنهم اعتقدوا أن الجيش معهم، الجيش لم يكن معهم، الجيش كان يستخدمهم لتصفية التوريث ثم تصفية الثورة ثم تصفية فرص اللواء عمر سليمان والفريق أحمد شفيق، ثم تصفية الألوان الإسلامية الأكثر تشددا مثل تيار أبو إسماعيل الذي فاجأ الجميع بضخامته، ثم تصفية الإخوان الأكثر ثورية مثل تيار الدكتور عبد المنعم أبوالفتوح.

كان الجيش -وبالتحديد المشير طنطاوي- ومن يعاونه في تصفية كل أولئك، وكان الإخوان خير عون له، ورد لهم الجميل: منحهم حزبا شرعيا لم يحصلوا عليه في تاريخهم كله، منحهم شهادات فيش وتشبيه تخلي ذمتهم من أي تهمة أو جريمة إرهاب، سلمهم كل الرئاسات، أطلق لهم واحدا وعشرين مدفعا في الهايكستب، عمل معهم وزيرا، امتثل أمامهم ومنحهم التحية العسكرية، وجلس يراهن على الزمن وينتظر. ثم المصد الثاني أنهم كانوا يعتقدون -عن حسن نية- أن الأمريكان مثلما ساعدوهم في الوصول للحكم سوف يساعدونهم في البقاء فيه والاحتفاظ به.

ثم المصد الثالث والأخطر هو ما سبقت الإشارة إليه وهو تحويل الدين -الذي هو في الأصل رحمة للعالمين- إلى أيديولوجيا تملكها جماعة منعلقة على ذاتها، ومع الأيديولوجيا يتحول أعضاء من بشر مثل كل البشر إلى بشر من درجة أعلى من كل البشر، هذه الأيديولوجيا لعبت دورا مزدوجا، صدت الإخوان عن التوافق والتشارك والتنازل، كما صدت غيرهم عن القبول بهم والالتقاء معهم والتعاون بينهم، كان الصد متبادلا، وما أسرع ما بات الصد صداما، فكانت :30 يونيو 2013 حتما مقضيا استثمره كل خصوم الإخوان في الداخل والخارج. ولو كان الإخوان تصرفوا بعقل سياسي عملي  -لا أيديولوجي عقائدي- كانوا حافظوا على ما نالوه من أغلبيه بما يصنعونه من توافق وتراض عام يقلل من استفزازهم للخصوم ويقلل من تآمر الخصوم عليهم، وهذا هو جوهر السياسة في بلدان مثلنا لم تتأكد فيها بعد قيم الممارسة الديمقراطية.

– ثالثا: صد الجمهورية الجديدة عن بناء ديمقراطية ثم دفعها لتأسيس ديكتاتورية ثم صدها عن الاستجابة لدعوات الإصلاح السياسي عدة أسباب: أولها: أنها اعتبرت ثورة يناير ثم حكم الإخوان أخطاء نتجت عن هوامش الديمقراطية التي أتاحها عهد مبارك، ومن ثم يلزم إزالتها من جذورها، فلا ديمقراطية قلت أو كثرت لها لزوم، بالعكس الديكتاتورية تحمي الدولة وتحمي المجتمع، هذه الفكرة الأولى التي سيطرت بعد 30 يونيو 2013. ثانيا، الأوضاع السياسية في الإقليم تشهد انهيار الدول من جراء ما عرف باسم الربيع العربي، ومن هنا يلزم حماية الدولة المصرية من هذا المصير مهما كان الثمن، والديكتاتورية هي ثمن بخس لقيمة عليا مثل الحفاظ على الدولة وما يعنيه من حفاظ على استقرار البلد وسلام الناس وأمانهم. ثالثا، أن الجمهورية الجديدة لم تجعل فقط من الجيش أداة حكم لكن جعلت منه أيديولوجيا للدولة وعقيدة سياسية للشعب وأعادت التركيز على السرديات التاريخية التي ترى أن الجيش هو مرادف الدولة الحديثة في مصر، وأن الدولة الحديثة قامت على الجيش، وهو قول شائع لكنه غير دقيق، فالدولة الحديثة قامت على كل ما هو حديث: التعليم الحديث، الزراعة الحديثة، الري الحديث، والقضاء الحديث، والصحافة الحديثة، والفنون والآداب الحديثة، لم يكن الجيش فقط هو الحديث، ولم يكن هو فقط من قامت عليه الدولة. القول بأن الجيش الحديث هو مرادف الدولة يشبه القول بأن محمد علي باشا هو الدولة الحديثة، الجيش له دور، ومحمد علي باشا له دور، لكن الشعب المصري -لا الحاكم ولا الجيش- هو من صنع النهضة الحديثة ومن كافح في سبيل الحداثة في أوقات فسد فيها الحكم وضعف فيها الجيش مثلما حدث بعد هزيمة العرابيين في التل الكبير 13 سبتمبر 1882،  ومثل هزيمة الضباط الأحرار في 5 يونيو 1967، في المرة الأولى الإنجليز حلوا الجيش وسرحوه ثم أعادوه كشرطة عسكرية تعمل في خدمتهم وكان الشعب بزعاماته ونخبه المدنية هو من يقف في وجه الاحتلال ثلاثة أرباع قرن متواصلة، كذلك الشعب هو من أعاد بناء الجيش بعد أن ورطه الضابطان ناصر وعامر في هزيمة لا مبرر لها غير سوء الحكم وفساد القرار. الشعب في الحالتين هو من حمل مسؤولية البلد بما في ذلك إعادة بناء الجيش.

– في موجة التغيير الأولى في 25 يناير 2011 خرج الناس ضد ملكية تحت غطاء جمهوري، ملكية تكلست فرفضت الإصلاح وطرحت التوريث، فكانت الثورة حتما مقضيا.

– في موجة التغيير الثانية في 30 يونيو 2013 خرج الناس ضد أيديولوجيا دينية ضيقت وسع الدين من رحمة للعالمين إلى تنظيم مغلق، ثم ضيقت السياسة في مجرد أغلبية انتخابية، ثم وضعت الدولة في قبضة التنظيم، فتكتل عليها الجميع، فكانت الثورة حتما مقضيا.

– في موجة التغيير الثالثة -وهي على الأبواب- في أجل قريب أو بعيد، فإن مصر لا تحتمل جراحة عنيفة للمرة الثالثة في أكثر قليلا من عشرة أعوام، مصر أنهكت وأرهقت بمقدار تعجز معه عن أمرين:

الأول هو استمرار الجمهورية الجديدة بمثلث الحكم الذي تتبعه: السجون، الديون، بيع الأصول.

ثم الثاني هو تكرار خليط الثورة مع الانقلاب مع التدخل الأجنبي.

– الحل الممكن هو توافق المصريين -دون استثناء- على مخرج قريب يتم التفاهم عليه يسمح بتجديد نظام الحكم مع الحفاظ على استمرارية الدولة واستقرار المجتمع.

ولتكن انتخابات الرئاسة في 2024 هي التطبيق الأول.