عندما نستقبل عام 2023 الذي يطرق الأبواب حاليا، والذي بدأت تتوالى التنبؤات والتقديرات حول ما سيأتي به من تطورات في الشئون الدولية والداخلية في كل دول العالم، فإننا في مصر سوف نستقبله بوصفه العام السابق على انتخابات الرئاسة والممهد لها في منتصف العام الذي يليه، وبوصفه العام الذي ستبلغ فيه أزمتنا الاقتصادية ومن ثم الاجتماعية والسياسية ذروتها الأكثر حدة، فإما إلى خريطة طريق واضحة المعالم ومتوافق عليها من أجل التعافي المستدام، وإما إلى الدُوار الذي ينتهي بالسقوط في المكان، لا قدر الله، كذلك تستقبل مصر عام 2023 بوصفه عام تبلور نتائج الحوار الوطني، الذي تأسس -كما نعلم- على مبادرة رئاسية في إبريل الماضي، وتشكل مجلس أمنائه في يوليو التالي، لتستغرق جلسات تقرير جدول الأعمال وتشكيل اللجان قرابة خمسة أشهر، دون اكتمال حتى اللحظة.
في التفاصيل، ربما يستحسن البدء بعرض إنجازات مجلس أمناء الحوار، ثم أهم العقبات في طريق استمرار ونجاح الحوار، وحديثي هنا يأتي بصفتي عضوا في ذلك المجلس ممثلا للحركة المدنية الديمقراطية بين زملاء آخرين، حيث يتمثل أبرز الإنجازات في روح التوافق البادية بين جميع الأمناء، من ناحية، وفيما بين الجهات الراعية من الحكومة والمعارضة، من الناحية الأخرى، وهي روح تعكس حتى الآن حرصا من كل الأطراف على التقدم وتجنب الفشل، وآية ذلك التوافق أنه في كل مرة كانت تظهر خلافات تبدو مستعصية علي التسوية، فقد أمكن تسويتها في الجلسة التالية مباشرة، بجهود مشتركة فيما بين الجلستين، وعليه أمكننا إقرار جدول أعمال متوازن، والاتفاق على تمثل مقبول أو مرض لأحزاب الحركة المدنية، وأحزاب أخرى ليست حكومية، سواء من حيث عدد الممثلين، أو بالنظر إلى حيثياتهم، وكذلك سواء فيما يتعلق بمقري المحاور واللجان أو بالمتحدثين في كل لجنة على حدة، أو على الأقل هذا ما تأكد يقينا في المحور السياسي ولجانه، باعتباره المحور الأول الذي استكمل مجلس الأمناء كل إجراءاته وتفاصيله، في انتظار سريان هذه الروح في مناقشات تشكيل لجان المحورين الاقتصادي والاجتماعي .
لكن تبقي العقبة الرئيسة حتى الآن هي تقدير الحركة المدنية الديمقراطية أن السلطة لم تستجب بعد بالقدر الكافي لمطلبها الأهم وهو الإفراج عن نسبة معتبرة من المسجونين والمحبوسين لأسباب سياسية، ممن لم يرتكبوا عنفا، ولم يناهضوا الدستور، وهذا هو السبب الذي يرجع إليه -في حقيقة الأمر- عدم قدرة مجلس الأمناء علي تحديد موعد بدء الحوار الفعلي من خلال اللجان المتخصصة.
بالطبع وحسب ما أراه من معطيات فإن الحركة لن تشارك في الحوار ما لم يستجب لهذا المطلب الرئيسي والبديهي، لكن لا أستطيع أن أتوقع خطوات الحكومة.
لكن بمنطق التحليل السياسي أو مايسمي بتقدير الموقف، يصعب على أي مراقب أن يعتقد أن الحكومة مستعدة لتسبب في إفشال الحوار من قبل أن يبدأ فعليا، بعد الجهد الذي بذل فيه، والآمال التي علقت عليه، وبعد أن نوه به رئيس الجمهورية عدة مرات في محافل دولية باعتباره من مؤشرات الانفراج السياسي في مصر، غير أن الأهم هو عملية الحوار الوطني لا تزال تشكل -رغم فقدانها كثيرا من البريق- مشهدا مهما من تهيئة المسرح لانتخابات رئاسية مقبلة -بعد عام ونصف من اليوم- بدرجة أعلى نسبيا من المصداقية في الداخل والخارج.
هنا وبمنطق التحليل السياسي الواقعي الذي يتعامل مع الحقائق لا مع الأوهام، فيجب ألا نتوقف أمام مناشدات البعض للرئيس السيسي بإعلان نيته عدم الترشح لفترة جديدة، مهما يكن نصيب تلك المناشدات من الوجاهة والإخلاص، أو من المزايدة وتجاهل الوقائع. وقد يساعدنا علي فهم الواقع عبارة قالها الدكتور أسامة الباز في نادي المراسلين الأجانب عام 1996، عندما سئل هل سيترشح الرئيس مبارك لفترة ثالثة؟ فأجاب قائلا: الرئيس مبارك جندي. والجندي لا يترك الميدان!.
إذن لماذ يتوقع أو يتوهم البعض أن يكون السيسي مختلفا عن مبارك؟ سيما وأن الرئيس السيسي قد تغلب على التحديات السياسية لشرعيته في السنوات الأولى لتأسيس نظامه، في الداخل، وفي الإقليم، وعلى المستوى الدولي، وكان المؤتمر الدولي للمناخ في شرم الشيخ في نوفمبر الماضي بحضور جماعي لزعماء العالم،ثم زيارته منذ ايام للولايات المتحدة هما معا ذروة القبول بل الترحيب الدولي بالسيسي شخصا ونظاما .
وفي الداخل فليس هناك تحد سياسي يؤبه له، وذلك بعد القضاء المبرم على إلإرهاب ومصادره، ثم -وهذا مالايدركه المستاؤون- فلا أحد بوسعه الادعاء بوجود حركة سياسية مؤثرة تضغط علي النظام، أو تصلح بديلا له.، مثلما كان الحال دائما منذ استقرار نظام يوليو 1952.
حتى الآن اقتصر حديثنا على سببين من الأسباب الثلاثة التي ترشح عام 2023 ليكون عاما حاسما في حياة مصر والمصريين، وهما مستقبل الحوار الوطني، والانتخابات الرئاسية، ويبقى أن نتحدث عن السبب الثالث الأهم والأكثر ضغطا وحدة، وهو الوضع الاقتصادي، أو الأزمة الاقتصادية، التي يطول شرحها وتشريحها، والتي تختزل بلا إخلال في العجز التمويلي الفادح للاقتصاد المصري.
هذا العجز هو نتيجة لانخفاض قدراتنا الإنتاجية ومن ثم التصديرية، وهو في الوقت نفسه سبب لعدم قدرتنا على وقف أو مكافحة غلاء الأسعار، وسبب تردي الخدمات العامة، وسبب استمرار زيادة العبء الضريبي، ثم تأتي المديونية الخارجية المتفاقمة باستحقاقات سدادها أصولا وفوائد، وسط نمط من الإنفاق حارت الألباب في فهم دوافع ومراميه، فتضطر الحكومة -وفقا لمنطقها -إلى قبول كل شروط صندوق النقد الدول، من أجل قرض جديد، يمهد لسلسلة من القروض من مصادر حكومية أجنبية أخرى، أكرر مصادرحكومية أجنبية، (بما أن سوق القروض الدولية من المؤسسات الخاصة أصبح شبه مغلق بسبب أعباء الحرب الروسية الأوكرانية، واستمرار الدول الكبرى في رفع أسعار الفوائد المصرفية، لجذب رؤوس الأموال ومكافحة التضخم)، بالإضافة إلى سلسلة جديدة من عمليات بيع الأصول العامة.
حسب تقديرات الحكومة المتداولة لدى خبراء المال والاقتصاد، فإنها تأمل في حصيلة تبلغ 14 مليار دولار، مما يمكن معه سداد المستحقات الخارجية لعام 2023، ومن ثم عبور هذا العام الجديد الحاسم في مستقبل البلاد، وذلك أيضا على أمل أن يشهد العام الجديد تسوية النزاع الروسي الأوكراني، فينفتح سوق القروض الأجنبية الخاصة لمصر مرة أخرى، بحيث لا تتعثر في سداد القروض السابقة، حتى ولو لم تظهر في الأفق نهاية قريبة لهذه الدائرة الجهنمية، خاصة وهناك مؤشرات على إمكان حدوث تسوية روسية أوكرانية، منها بالإضافة إلى معاناة المتقاتلين، واليقين بعدم القدرة علي الحسم العسكري الناجز، تصاعد الحديث في واشنطن عن عقلانية تسوية دبلوماسية تترك جزيرة القرم لروسيا رسميا، مقابل الجلاء من كل شرق وجنوب أوكرانيا، وهو حديث تتردد أصداؤه في أوروبا وفي أوكرانيا ذاتها، بل وفي روسيا ولكن بشيء من المواراة.
لكن ماذا لو لم تصدق تلك المؤشرات، وتواصل النزاع في أوكرانيا أو اتسع نطاقة؟
حقيقة لا أريد أن أتصور الإجابة الكالحة عن تأثير ذلك علينا في عام 2023 ومابعده.
كل ذلك ولم نتحدث عن الآثار الاجتماعية والاقتصادية للتحرير الكامل أو شبه الكامل لسعر صرف الجنيه أمام الدولار، أو ما تسميه شروط صندوق النقد الدولي للقرض الجديد بسعر الصرف المرن، فمن ناحية سيزداد الغلاء إلى حدود لا يجرؤ أحد على التنبؤ بها، ومن ناحية ستزداد الصعوبة الهائلة القائمة حاليا في الحصول على مستلزمات الإنتاج لما تبقى لدينا من صناعة محلية، فيقل الإنتاج، ويزداد الغلاء مرة أخرى.
ما النتائج الاجتماعية والسياسية؟
هل لدى الحكومة خطة إنقاذ بعد عبور أزمة استحقاقات الديون في العام المقبل بالقروض الجديدة وبيع مزيد من الأصول غير انتظار الفرج من سوق القروض الخاصة في الخارج؟
إن لم تكن هذه الخطة موجودة فيجب أن توجد فورا ودون إبطاء، لتكون على الأقل هي برنامج الرئيس في انتخابات عام 2024، ولكي توجد فلا مفر من تفويض واضح لحكومة جديدة مطلقة الصلاحيات في إدارة الشأن الاقتصادي، بدءا بوحدة الميزانية العامة للدولة، التي يخضع كل بند من إيراداتها وإنفاقها للرقابة البرلمانية، والضوابط المحاسبية المتعارف عليها في كل الدنيا .
وقى الأرض شر مقاديره رحيم السماء ورحمانها.